الاعتداء على الصامتة 20 مارس 1973م

محليات وبرلمان

دور الهاجس التاريخي في رسم نظرية الأمن الكويتية

13083 مشاهدات 0

الأمير الراحل صباح السالم يتفقد الحدود وبدا في الصورة الشيخ سعد العبدالله رحمهما الله

في خطأ استراتيجي فادح كانت له تداعيات جسام، تم دفع الكثير من الأحداث لتصبح جزءا من هوامش تاريخ الكويت وحواشيه، بدل أن تكون لحمة النص وسداه. ولو طرحنا في هذا السياق تساؤلات جريئة حيال تاريخنا لما وجدنا جوابا شافياً لها. ومن تلك التساؤلات، تجاوز توثيق الحرب الباردة التي شنتها إذاعة قصر الزهور ضد الكويت، والتي كان يديرها ملك العراق غازي عام 1938-1939م ؟ أو كيف لنا أن ننسى حشود عبد الكريم قاسم حين أبى إلا أن يطفئ شموع فرحة الكويتيين في ليلة استقلالهم صيف عام 1961م ؟ أو الهجوم العسكري المباغت الذي شنته القوات العراقية على مركز الصامتة الكويتي حيث قتلت وأسرت رجالنا بصورة بشعة في 20 مارس 1973م قبل 36 عاما من تاريخ هذا اليوم بالضبط ؟
إن في رقابنا للكويت دين غير قابل للسداد، وهذا شأن كل الأوطان، ولأن تاريخ الأوطان أمانة في أعناق من يوثق تاريخها، ليس فقط في من ناحية دقة نقلهم لتاريخها بل في لازمة إيصاله للأجيال القادمة . لذا  يجب على من يتصدى للتاريخ أن لا يصاب بالرهبة  من ردة الفعل الحادة التي قد تصفه بنبش القبور، أو تقويض  الجهود الدبلوماسية التي تحاول إزالة ما يعكر صفوه العلاقات بين الشعوب، حيث لا زالت الولايات المتحدة تحيي ذكرى الهجوم الياباني على بيرل هاربرPearl Harbor  قبل 65 عاما رغم أنهما من أقوى الحلفاء حاليا، حيث أن  قيمة الحدث المعنوية  Moral value  لأجيالهم القادمة - كما يرون- تتعدى وزن العلاقات الحالية مع عدو الأمس ببون شاسع .
 
سيناريو العدوان
 
لقد قدر لمرتفع 'الصامتة ' في شمال شرق الكويت أن يشهد  أول دم يراق في علاقات الكويت مع العراق. في عدوان سافر يختزل آلية صنع القرار  في عراق البعث Decision Making style ، حيث حكمتها نفس المدركات الأساسية التي تعامل بها البعث في كل الأزمات السابقة واللاحقة ومحوريها الابتزاز والعدوان دون أن يخجل من أن يكشفه التاريخ في كل مرة يكرر فيها فعلته المشينة. فقد غرق نظام البعث حال وصوله إلى السلطة في عدد من المشكلات الداخلية، المتمثلة في  المشكلة الكردية، وعملية تأميم النفط وتبعاتها الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، يضاف إلى ذلك  إعلان بريطانيا  نيتها عن انسحابها من شرق السويس في أواخر ستينيات القرن العشرين ،فقد حسب الشاه أنه يستطيع التهام الخليج العربي، وفي الوقت نفسه أحس العراقيون بأنهم الأولى بسد الفراغ المزعوم الذي ستتركه بريطانيا.كما تجددت في الوقت نفسه الخلافات العراقية الإيرانية حول شط العرب . كما كان العراق في تلك الفترة تحت ضغط من السوفيت لتسهيل وصولهم للمياه الدافئة في الخليج العربي بعد اتفاقية الصداقة والتعاون في 9 أبريل 1972م. وخلال زيارة وزيرَي الداخلية والدفاع، العراقيين، إلى الكويت  في أبريل 1969م،طلب العراق من الكويت السماح لبعض قواته بالتمركز في بعض الأراضي الكويتية للدفاع عن ميناء أم قصر ضد هجمات إيرانية محتملة . واستخدم العراق  لتحقيق ذلك مزيجا من الإقناع والضغط على الكويت لبقاء القوات العراقية .وقد استمر الوجود العسكري العراقي  حتى بعد أن تلاشت التهديدات الإيرانية . ولكي يحولوا الوضع المؤقت إلى وضع دائم،  بنى العراقيون في نهاية 1972م طريقا عبر الأراضي الكويتية يؤدي إلى مواقعهم على الخليج العربي.
 
لم يذكر عن السياسة الخارجية للكويت في تلك الفترة أنها انفعالية عجولة، فقد  وطن صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد  حفظه الله في ذهن المجتمع الدولي أن السياسة الكويتية تنزع نحو السلم والحوار الواقعي الراقي للخروج من الأزمات مهما استعصت،  فزار وهو وزير للخارجية العاصمة العراقية في 26 فبراير 1973 على رأس وفد كويتي، حيث  عقد عدة اجتماعات كان أولها مع طه ياسين رمضان  وزير الصناعة الذي تجرد من كل ما يمت للدبلوماسية او حسن الضيافة وقال: إن جزيرتَي وربة وبوبيان هما جزء من العراق، وإن لهما أهمية خاصة له  لكونه بلداً خليجياً . وكان رد الشيخ صباح الأحمد الحازم هو :  إن الكويت لن تتنازل عن شبر واحد من أراضيها، وأنه ليس من حق أحد  أن يوافق  أو يقرر ذلك. وأن الكويت على استعداد للدخول في مفاوضات مع العراق، لكي تسهل له استخدام  الممرات المائية في شمال الخليج، ولكن ذلك يجب أن يكون بعد الانتهاء من ترسيم الحدود.
 ثم التقى الشيخ صباح مع الطاغية صدام حسين وكان نائبا لرئيس الجمهورية، فكرر الاسطوانة البعثية السابقة، فرد عليه الشيخ صباح بأن  التنازل عن أراضٍ كويتية  غير وارد إطلاقاً  . وقبل مغادرة الوفد الكويتي للعراق ، عرض نظام البعث مشروع اتفاقية للتعاون والصداقة بين البلدَين، نصت على أن توافق الكويت على منح العراق حق مد أنابيب نفط من البصرة إلى الكويت. وإقامة محطات لضخ النفط وتكريره، وبناء مستودعات وجسور وموانئ ومطارات وسكك حديدية، معفاة من الضرائب، داخل الكويت . كما نص مشروع الاتفاقية، على أن يكون للعراق الحق في منح الاتحاد السوفيتي حق دراسة تلك المشروعات وتنفيذها وكان معنى ذلك ببساطة هو أن تصبح جزيرتا وربة وبوبيان عراقيتَين. وقد أظهرت الكويت تفهمها لحاجة العراق، وكررت عدم ممانعتها  في  تسهيل استخدام العراق للممرات المائية بعد الانتهاء من ترسيم الحدود بين البلدَين إلا أن البعثيين اعتبروا أن موقف   الكويت  رفضاً لمشروع اتفاقيتهم المقترحة ، وفي ديسمبر 1973م زار وفد من مجلس الأمة بغداد في سعي لمنح الخلاف بعدا شعبيا ،لكنهم لم يجدوا أذنا صاغية .وفي  فبراير 1973م زار الشيخ صباح بغداد محاولا تحقيق تقدم في القضية، لكن وزير الخارجية العراقي وفي مناورة من مناورات التسويف لم يستقبل وزير الخارجية الكويتي في المطار 'بسبب أزمة صحية بسيطة ' مما جعل الأمور تبدوا أكثر ضبابية  .
قبيل الأزمة قابل سفير الكويت وزيرَ الخارجية العراقي ليشرح له ما أقدمت عليه القوات العراقية مؤخراً، من شق الطريق، جنوب مركز  الصامتة داخل الأراضي الكويتية  وكان رد وزير الخارجية العراقي  إنه لا يستطيع اتخاذ أي خطوة فورية لإيقاف هذا العمل، لأنه لا يعرف إن كان إجراء القوات العراقية في أراضٍ عراقية أو كويتية ، وقد كانت كلمات وزير الخارجية العراقي  مثقلة بالمعاني التي تدل على أن  العراق يحاول  بشقه  هذا الطريق  تطويق مركز  الصامتة الكويتي الواقع على مرتفع إستراتيجي.
تعتبر قضايا الحدود في الخليج العربي بذورا شيطانية دائمة التفجر، حتى أصبح المراقبون لا يلقون لها بالا بنفس درجة الأزمات الأخرى، وعليه فقد دفع الكثير من الباحثين عن قصد أو من غير قصد بالاعتداء العراقي على مركز الصامتة 1973م من ضمن تلك الأزمات، وفي ذلك تهميش وتبسيط مخل بالأمور، فذلك الاعتداء يتعدى النزاعات الحدودية من حيث أسبابه ودرجة خطورته والنتائج التي ترتبت عليه.وقد تطرقنا الى أسبابه أما درجة خطورته فتمثلت في تبني نظام البعث بدرجة وقحة ومكشوفة لأسلوب الابتزاز لنيل مكاسب على حساب الكويت ،أما نتائج ذلك الاعتداء فقد تمثلت في تمهيده لخلق القوالب التي استخدمها الطاغية صدام حسين لغزو الكويت 1990م.
لقد أصبح الجيش العراقي هو العدو المفترض على خرائط غرف عمليات المخطط العسكري الكويتي، بفضل مغامرات الطغاة هناك. ورغم ذلك فقد أدى التزام الكويت بخط عربي عماده  سياسة الإخوة وحسن الجوار إلى تراجع الحذر إلى درجة مخلة بقوانين الحيطة والاستعداد . فقد كان العراقيون  يملكون ذريعة العدوان وبأنهم في حاجة إلى الدفاع عن أم قصر ضد  الإيرانيين وكانت الأرض المتوافرة لهم والمحيطة بالميناء مستنقعات ملحية(سبخة) يصعب بقاء الجنود فيها، ولم يكن أمامهم إلا التمدد داخل  حدودنا بموافقة كويتية كإجراء مؤقت منذ 1969م.
لقد قيل إن الصحراء جنة رجل التكتيك (العمليات) وجحيم رجل الإمداد والتموين ، لكن امتداد الحدود الكويتية من الجهة الشمالية الشرقية حتى تصل إلى البحر على شكل  ارض مستوية،تغطيها نباتات هزيلة متناثرة يجعل الأمر عكس ذلك تماما،فهي بهذا الانبساط تمثل جنة رجل الإمداد لسهولة عبورها، لكنها جحيم رجل العمليات لخلوها من الموانع أو أي من التضاريس التي يحتاجها للتخفي أو الاستطلاع أو ممارسة أنواع مختلفة من المناورة.وقد كانت  'الصامتة' هي الشكل التضاريسي الوحيد المميز في هذه المنطقة ، وهي عبارة عن تلال منخفضة لكنها تشرف بشكل استراتيجي مميز على كل ما يحيط بها . ويقول رجال الجيش من حرس الحدود إن اسم المنطقة لم يكن الصامتة ، بل 'الصانتة' ويفسرون ذلك بأنها كانت مرتفع يقوم رجال الحدود بالزحف خفية حتى الوصول إلى أعلاه ومن هناك كانوا يقومون 'بالتصنت ' على تحركات العراقيين بالسمع والنظر.وقد تم لاحقا إنشاء مركز شرطة كويتي على تلك الأرض المرتفعة عرف باسم مركز الصامتة .
يقول رجال تلك الفترة ممن عملوا في مركز الصامتة، إن الدوريات العراقية كانت في البداية تحترم خط الحدود بيننا ، لكنها بعد وقت من الزمن أخذت في التجاسر على الاقتراب من مركزنا ، وبأخلاق عربية صادقة كنا نستقبل رجال الدوريات العراقية كأخوة وضيوف ،فنقدم لهم الشاي والقهوة بل ونطلب منهم مشاركتنا طعامنا إن مروا علينا في وقت تقديمه. لكن مرور الدوريات العراقية تغير بعد فترة من الزمن ، حيث اخذوا بالدوران خلف مركزنا في الصامتة عند مسيرهم على طول الحدود، مما يجعل مركزنا  يبدوا ضمن ما يقومون  بحمايته ، فأبلغناهم باحتجاجنا وقبلنا اعتذارهم عن الخطأ بحسن نية .
 وبعد أن شقت عربات دورياتهم خطا جنوب مركزنا من كثرة الاستدارة حولنا رغم احتجاجاتنا المتكررة، فوجئنا  في نوفمبر1972م بسلاح المهندسين في الجيش العراقي وهم يقومون بشق طريق جنوب مركز  الصامتة داخل الأراضي الكويتية ، مما يعني الإحاطة بتلك التلال التي كان على قمتها مركز الشرطة الكويتي . ولم يعد هناك مجال للتغاضي عن الطمع العراقي، ثم أخذ الموضوع بعده السياسي كما سبق أن أوضحنا.
وصلت غطرسة البعثيين مداها عندما تقدمت دورية عراقية من مركز الصامتة الذي يقوم بالعمل فيه رجال من الشرطة لا يتعدى عددهم العشرة  أفراد حيث طلبوا منهم مغادرة المركز لكونه داخل الأراضي العراقية، وكان الرفض الكويتي قويا  وغاضبا على كافة المستويات.
كان حرس حدود الجيش الكويتي يتبادلون نوبات حراسة الحدود لسنوات طويلة مع قوات الشرطة الكويتية ، وبناء على الأوضاع السياسية الهادئة بين الكويت والعراق فقد كانت الشرطة هي المكلفة بالحماية في ذلك الوقت. ورغم أن  الجو كان مكهربا من جراء  الاستفزازات العراقية ، إلا أن  منتسبي مركز الصامتة الكويتي  في ليلة 19 مارس 1973م كانوا على ثقة بأن الأمور لم تصل إلى نقطة ألا عودة بين البلدين الشقيقين ، كما كانوا على يقين بأن ما في المركز من رجال شرطة وعتاد لا يتعدى البنادق والمسدسات  ليسوا بمنزلة الخصم الموازي للقوات العراقية المدرعة القريبة منهم ، فكان لابد من ضبط النفس وعدم قبول الاستفزاز.

 الهجوم البعثي الغادر

في ذلك المساء خيم جو ربيعي ساحر على مرتفع الصامتة الاستراتيجي ، حيث كان على أفراد المركز تبادل نوبات الحراسة، وكتابة البرقيات، وإرسالها بجهاز اللاسلكي لقيادتهم في الكويت. ولم يكن هناك إلى ما يشير إلى أمر جلل.  وفي الساعة الثالثة وعشر دقائق من فجر يوم الثلاثاء 20 مارس 1973م كما يقول احد شهود ذلك الفجر الدامي ، لمعت ومضات ضوء في الأفق الشمالي، أعقبها تساقط لقذائف مرعبة ،ثم أزيز رصاص غير نظامي على الموقع ،ثم ومضة ضوء أخرى وإطلاقه مدفع ولعلعة رشاش ارتطمت طلقاته بعنف  بسيارات الدورية أمام المركز، ودمرت  أخرى غرفة اللاسلكي، فقد قام العراقيون بهجوم مباغت و كانت القوة المهاجمة تصل في تشكيلها إلى كتيبة مجحفلة يتقدمها قوات فرقة خاصة، بل ومدعومة من الخلف، كما أفادت استخباراتنا في حينه .   ويقول آخر من أحد جرحى المواجهة من العراقيين:  كنت مع أثنين من زملائي نقوم بالحراسة ليلة الثلاثاء 20 مارس 1973م، وحوالي الساعة الثالثة صباحاً شاهدت بالمنظار تجمعات وتحركات للقوات العراقية التي أخذت تقترب وهي تطلق النار و أبلغت مشاهداتي إلى حد زملائي، الذي قام بدوره بتوصيل الخبر إلى مسئول المركز فحضر بنفسه ليستطلع الأمر. وما أن نظر إليهم بمنظار الميدان حتى صاح بنا آمرا إيانا أن نأخذ ساتراً حيث قال أنهم متجهون نحونا .
كان دوي الانفجارات يملأ الأفق مصحوبا بتطاير الزجاج، وصوت شرطي الاتصالات يكرر نفس النداء مرة تلو الأخرى .وبدأ هدير طابور مدرع يهز الأرض مقبلا على المركز من ثلاثة محاور، وكان هدفهم الواضح هو اجتياح المركز. لقد كان أمام رجال المركز-كما قدر قادة العدوان- خيار واحد وهو إظهار إشارة الاستسلام حتى لا يطول الأمر على القوة العراقية الغاشمة في نزهتها القصيرة . لكن رجالنا قرروا أن يكون ثمن قطعة الأرض التي لا تزيد مساحتها عن  أمتارا قليلة غاليا جدا على قوات الغدر التي هاجمتهم في جنح الظلام .
يعرف العسكريون أن الهجوم البري الناجح يتطلب تفوقا على العدو المدافع بنسبة 1:3،وفي ذلك الفجر البعيد كانت قوات العدو أضعاف القوة المدافعة بمائة مرة مشكلة  خللا كبيرا في موازين القوة لصالح البعثيين، فقد كان  النزال الذي استمر تطور مراحله حتى الصباح بين ثلة من رجال الشرطة وبين قوات نخبوية من جيش محترف، ودافع رجالنا ببسالة عن موقعهم طوال ما تبقى من الليل، حتى استشهد منهم من قدر الله أن يلقى وجه ربه دفاعاً عن الوطن ومنهم الملازم أول سعود فهيد عبد الله السهلي والعريف زعل رميح بتال الظفيري وقد تم تسليم جثتيهما من العراقيين في 22 مارس 1973م ،كما أصيب أربعة آخرين بجراح.
وفي هذا السياق يقول البطل الكويتي محمد خلف مطلق :دخل علينا أفراد  من القوات العراقية بأوامر من النظام العراقي آنذاك فقتلوا اثنين من رجال الكويت الأبطال وأطلقوا علي النار بسلاحهم أثناء قيامي باتصالات لطلب النجدة عبر جهاز اللاسلكي وعلى اثر إطلاق النار أصبت ومن ثم تم أسري ونقلوني إلى بغداد حيث مكثت أسيرا هناك قرابة خمسة عشر يوما، وبفضل المولى عز وجل ثم قيادتنا الحكيمة وسؤالهم عن ابن الكويت المأسور تم الإفراج عني وإطلاق سراحي والعودة إلى الوطن مجددا ولا أنسى ذلك اليوم عندما قام وزير الداخلية آنذاك سمو الأمير الراحل الشيخ سعد العبد ا لله السالم  الصباح رحمه الله بمنحي وسام الشجاعة تكريما لي .لقد انجلت المعركة في الموقع بنجاح القوة الكويتية الصغيرة جدا في تكبيد القوات العراقية نفس الخسائر ، حيث قتل جنديين عراقيين خلال المواجهة.
رفعت حالة استنفار الجيش الكويتي  فوراً وتم تكوين قيادة سريعة بقيادة محمد البدر ويساعده علي المؤمن. وكلفت مجموعة من المغاوير باستعادة مركز أم قصر بقيادة  العميد عبد الوهاب المزين فك لله أسره ، كما تحركت أحدى كتائب مدرعات صلاح الدين من اللواء الخامس عشر بقيادة المرحوم غازي عرادة، كما تم استنفار القوة الجوية الكويتية وحلقت طائرتان مذخرتان وجاهزتان للاشتباك من نوع اللايتننغ BA Lightning  يقود إحداهما النقيب صابر السويدان ، ويقود الأخرى النقيب خالد الروضان، لكن خلو أجواء المنطقة من الطيران العراقي جعل المهمة تتحول من الاشتباك  الجوي إلى الدوريات الجوية المسلحة Combat Air Patrol  من أم قصر إلى صفوان  طوال النهار ،مما أدى إلى انسحاب العراقيين ليعود مركز الصامتة ضمن مسئولية الجيش الكويتي، وكلف بالواجب قوة الحدود بقيادة عجيل عيادة.

في الثامنة، من صباح اليوم نفسه بثت إذاعة الكويت أول نبأ عن العدوان البعثي الغاشم ، وقد أعلنت الكويت بقيادة الشيخ صباح السالم الصباح، أمير الكويت وولي عهده الشيخ جابر الأحمد الصباح،  رحمهم الله جميعا، أعلنت  حالة الطوارئ كما أعلن المرحوم الشيخ سعد العبدالله الصباح وكان وزيرا للداخلية والدفاع  إغلاق الحدود مع العراق، و إغلاق مكتب وكالة الأنباء العراقية ، كما طالب مجلس الأمة الكويتي الحكومة العراقية، بأن تسحب قواتها مؤكدا أن الحدود بين البلدين هي الحدود المعترف بها دولياً، التي تتضمنها المواثيق والمعاهدات الموقعة بين الكويت والعراق منذ 1963م.  

وفي الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم،أصدرت وزارة الداخلية العراقية بياناً قالت فيه:  إن الاعتداء، وقع، أصلاً، من القوات الكويتية،عندما كانت القوات العراقية تمارس تدريباتها الاعتيادية  داخل الأراضي العراقية  ومن ضمنها المنطقة التي وقع فيها الحادث. مما اضطر القوات العراقية إلى الرد على هذا الاعتداء، الذي ذهب ضحيته اثنان من رجال القوات العراقية وجرح عدد آخر، وعبر البيان العراقي عن أسفه لما اتخذته القوات الكويتية من إجراءات ، حيث كان عليها  الاتصال مع السلطات العراقية لتدارك الموقف .

جاء  رد الفعل على أزمة 1973م شبيها بما حدث بعد أزمة قاسم 1961م ،ومتسقا مع نظرية الأمن الكويتية التي تنشط بعد الأزمات، حيث جرى تفعيل لخطة تطوير الجيش التي كانت قد تمت مناقشتها بعد انتهاء حرب حزيران 1967م، ولم تنفذ إلا بعد أن عجلت هذه الأزمة في تطبيقها. وكان طموح رجال الجيش هو إنشاء فيلق مجحفل  مكون من 3فرق و مشابهه للفيلق العربي في الأردن وأن يكون له ذراع طويل  يمثله سلاح الطيران، وبالضرورة كان وجود مثل هذا التشكيل يتطلب بناء معسكرات أكبر وتسلح جديد وطاقة بشرية أكبر. لقد كان التهديد بناء على الهاجس التاريخي هو طغيان زعماء العراق ، وكانت الدراسات تقول بأن  زمن حلول التهديد قصير جداً بسبب قرب القواعد الجوية العراقية، لذا كانت خطة ذلك الفيلق تدعو إلى وجود معسكرات له في المنطقة الوسطى لحماية العاصمة ليكون بها الحرس الأميري ولواء حرس العاصمة. وقد تم شراء طائرات سكاي هوك  Sky Hawakوطائرات الميراج Mirage،وتم بناء قاعدتي علي السالم واحمد الجوية ولواء الدفاع الجوي ، والألوية البرية،ألا ان بقية الطموحات تم إلغائها ، ورفض مجلس الأمة للميزانيات الكبيرة لتنفيذها.

الكسب العملياتي والخسارة الإستراتيجية

أنتشر الغضب في الكويت على كافة المستويات الرسمية والشعبية، فقد دعا الاتحاد الوطني لطلبة الكويت جميع الطلبة للإضراب في اليوم نفسه احتجاجا لهذا الاعتداء الصارخ•كما شارك الطلبة في تشييع جنازة شهداء الكويت. كما توجه وفد إلى قصر السيف ومجلس الوزراء ، حيث قابل الوفد  الأمير الراحل الشيخ صباح السالم و رفعوا له كتابا مطالبين  فيه بالتجنيد الإجباري والتبرع بالدم، وبالتدريب العسكري لطلبة المدارس والمعاهد والجامعة حتى يأخذ الطلبة دورهم في الدفاع عن وطنهم.  وأصدر الاتحاد الوطني لطلبة الكويت ـ فرع الجامعة مجلة لتغطية هذه الأحداث تحت اسم مجلة الصامتة  •

على المستوى التكتيكي (عملياتي) كانت الصامتة في موازين الحرب مكسب عراقي، لكنها كانت فشل على المستوى الاستراتيجي ، حيث خسر عراق البعث الكثير من مصداقيته أمام المجتمع العربي والدولي ، واحترقت في يده  أوراق إستراتيجية مهمة طالما تغنى بها مثل القومية العربية وآمال الأمة الواحدة ، فقد توالت ردود الفعل المستنكرة لما حدث، ووصل بعضها إلى درجة التنديد بينما وصل الأمر ببعض الدول إلى طلب إرسال قواتها لصد القوات العراقية ، وهنا يجدر بنا أن نشيد بموقف بعض الأشقاء والأصدقاء من تلك الأزمة.   فقد أعلنت المملكة العربية السعودية في اليوم نفسه تنديدها بهذا العدوان، و سارعت إلى إرسال بضعة آلاف من قواتها إلى حفر الباطن، على الحدود بينها وبين الكويت كما أعلنت إيران أنها على استعداد أن ترسل  قوات عسكرية في حال توغل القوات العراقية داخل إلى الكويت .وأصدرت مصر بيانا ناشدت فيه العراق باحترام حرمة أراضي الكويت واستقلالها، حفاظاً على وحدة الصف العربي. كما أوفد الرئيس محمد أنور السادات مراد غالب، كمندوب عنه، للوساطة بين البلدَين. وقام الأمين العام للجامعة العربية السيد محمود رياض ببذل جهود كبيرة لحل الخلاف ،كما بذلت الجمهورية العربية السورية، ومنظمة التحرير الفلسطينية وساطتهما لانسحاب القوات العراقية إلى خط  الجامعة العربية . من جانب آخر ونتيجة للصراع بين القوتين العظميين في زمن الحرب الباردة  فقد تحرك الأسطول السادس الأمريكي باتجاه الكويت، وتحركت وحدات من الأسطول السوفيتي لمساندة العراق .
كان الفيلسوف كارل ماركس Karl Marx يقول إن التاريخ يعيد نفسه دائماً، في هيئة مأساة أولاً ثم في هيئة ملهاة في المرة الثانية،فماذا  عسانا قائلين عن هذا التاريخ المراوغ الذي استطاع تكرار نفسه ثلاث مرات أو أكثر؟ فقد كان من تبعات الحرب الإعلامية التي شنها الملك غازي على الكويت تأزم داخلي كبير تمثل فيما عرف باسم 'سنة المجلس' عام 1938م وتبعاتها المرة،بالإضافة إلى غارات الدوريات العراقية على صحراء الكويت،لكنها من جانب آخر جعلت المغفور له الشيخ أحمد الجابر يأمر بشراء عشر سيارات مدرعة كانت نواة لجيش حديث،ثم دخلنا في الفراغات الزمنية القاتلة في ذاكرتنا،فجاء عبد الكريم قاسم  بأزمته عام 1961م ،وعادت ذاكرتنا بعبثية إلى الاعتماد على  نوايا الشمال الحسنة كخط دفاع أول،ثم أريق أول دم في الصامتة1973م، حيث هتكت بوحشية سراب الأمن الذي أقمناه. وكانت ناقوس خطر مبكر لوقف الإفراط في الثقة بالملمس الناعم لمن لا يؤتمن،لكن غمامة أولويات العروبة والحسابات الإستراتيجية غلفت الذاكرة فقام الطاغية صدام بغزو الكويت 1990م .
ومما لاشك فيه أن الهاجس التاريخي جرس يمكن الاعتماد عليه بسهولة وجعله قاعدة لبناء نظرية الأمن الكويتية ولحل إشكالية الفراغات الزمنية القاتلة في ذاكرتنا ،بشرط توفر قدر كبير من الاتزان  وتحاشي الظهور كالمصاب بحالة الهلع التي عاشها أهل اسبرطة قديما ويعيشها الصهاينة حاليا في فلسطين المحتلة.

د.ظافر محمد العجمي - المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج

تعليقات

اكتب تعليقك