فهمي هويدي يكتب.. الفرز ضرورى لترشيد الصراع فى مصر

زاوية الكتاب

كتب 593 مشاهدات 0

فهمي هويدي

الشروق

الفرز ضرورى لترشيد الصراع فى مصر

فهمي هويدي

 

لأن أفق حسم الصراع فى مصر بات مجهولا، فلماذا لا نحاول عقلنته وترشيده؟

 

(١)

كان حزب الوسط، وهو حزب مدنى ديمقراطى له مرجعيته الإسلامية، قد حجز قاعة فى أحد فنادق مدينة نصر يوم ١٨ فبراير الحالى لإقامة حفل استقبال بمناسبة مرور ست سنوات على الاعتراف الرسمى به (فى ١٩ فبراير عام ٢٠١١). لكن الفندق أبلغهم قبل ثلاث ساعات من افتتاح الحفل بإلغاء حجز القاعة بناء على تعليمات الأمن، فما كان من الحزب إلا أن نقل احتفاله إلى مقره المتواضع فى منطقة المقطم. وهذا الذى حدث مع حزب الوسط تكرر أكثر من مرة مع حزب «مصر القوية». (قبل سنتين (عام ٢٠١٥) حاول الحزب عقد مؤتمر ولكن ٢٧ فندقا ألغت حجز قاعاتها له بعد الاتفاق ودفع الثمن).

فى صبيحة اليوم ذاته (١٨ فبراير) أصدرت دائرة الأحزاب بمجلس الدولة برئاسة المستشار محمد مسعود رئيس المجلس حكما قضائيا برأت فيه ساحة ١١ حزبا لها مرجعيتها الإسلامية، حين رفضت قبول طعن طالب بحلها وحظرها، بناء على أنها شاركت فيما سمى بتحالف دعم الشرعية، إذ لم تجد المحكمة فى تلك الأحزاب مخالفة قانونية تستوجب الحل. وكان حزب الوسط ضمن القائمة التى ضمت حزب البناء والتنمية والجبهة السلفية والعمل الجديد والفضيلة... إلخ.

فى الأسبوع ذاته أهدانى أحد الباحثين من أعضاء حزب البناء والتنمية (الذراع السياسية للجماعة الإسلامية فى مصر) كتابا له عنوانه «حوار هادئ مع داعشى»، كان قد عرض ونوقش فى معرض الكتاب الأخير. ووجدت أن مؤلفه عصمت الصاوى حول الكتاب إلى لائحة اتهام لتنظيم داعش، فضحت أفكاره وخلفياته. إذ تضمن فصلا خاصا عنوانه «داعش بين العمالة والاستخدام»، واعتبر فيه أن فكرة الفوضى الخلاقة (الأمريكية) وصناعة التوحش (التى تتنباها داعش) وجهان لمشروع واحد.

زارنى المؤلف بصحبة الدكتور نصر عبدالسلام رئيس حزب البناء والتنمية، الذى فهمت منه أنه تم اعتقال نحو ٥٠٠ واحد من أعضائه رغم أنهم يتبنون الآن الفكر الجديد للجماعة الإسلامية، التى أطلقت مبادرة وقف العنف منذ أكثر من ٢٠ عاما، وبعد ذلك أصدر قادة الجماعة أربعة كتب راجعت فيها أفكارها واعترفت بأخطائها وعمدت إلى تصحيح المفاهيم التى تبنتها (من عناوين تلك الكتب «حرمة الغلو فى الدين وتكفير المسلمين» و«تسليط الأضواء على ما وقع فى الجهاد من أخطاء»). أثناء اللقاء عبر الدكتور نصر عبدالسلام عن استيائه من الضغوط والملاحقات التى يتعرض لها أعضاء الحزب. فهم فى الداخل يعاملون كما لو أنهم لم يراجعوا أفكارهم، ولم يختاروا أن يشاركوا فى مسيرة التغيير السلمى الذى يحترم الدستور والقانون. كأنما أريد لهم أن يظلوا على نهجهم الذى رجعوا عنه. أما إخوانهم فى الخارج فإنهم يعانون من محاولة إلحاقهم بالإخوان رغم أن لهم فكرهم المستقل عنهم، فالسلطة لم تر فيهم سوى التاريخ الذى هجروه واعتذروا عنه والإخوان أرادوا أن يفرضوا وصايتهم عليهم.

 

(٢)

ثمة وجه آخر للعمل العام تلاحقه الشبهات أيضا، رغم أنه خارج السياسة، تمثله الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، فهذه الجمعية التى تأسست فى مصر منذ أكثر من مائة عام (١٩١٢م) حصرت نشاطها فى مجالات أربع لم تتجاوزها طيلة تلك المدة. الأول هو الدعوة بالقول من خلال إقامة المساجد وإلقاء الخطب وإقامة الندوات فيها، إلى جانب إنشاء معاهد للدعاة تحت إشراف نخبة من علماء الأزهر، تتولى تأهيل الوعاظ، المجال الثانى تمثل فيما يسمونه الدعوة العملية، من خلال رعاية مشروعات العمل الصالح. ومنها كفالة الأيتام الذين وصل عددهم إلى نصف مليون يتيم، ومنها تحفيظ القرآن، إضافة إلى إقامة المشروعات الطبية العملاقة، التى تعالج المرضى بالمجان، دون تفرقة بين المسلمين وغير المسلمين. وهذه المشروعات تشمل مراكز متقدمة للأشعة المقطعية والرنين المغناطيسى، غير ٢٧ مركزا للأطفال المبتسرين وخمسة مراكز أخرى لغسيل الكلى، ذاعت شهرتها بحيث أصبحت تستقبل المرضى من مختلف أنحاء العالم العربى. المجال الثالث تمثل فى حملات الإغاثة الداخلية والخارجية. أما المجال الرابع والأخير فيتعلق بالعمل فى مجال التنمية لتحويل الفقراء إلى منتجين وتقديم العون لطلاب الدول الإسلامية الوافدين، الذين أقامت الجمعية بناية لاستيعاب الدارسين فى الأزهر منهم.

هذه المشروعات الخيرية أقيمت كلها بتمويل من زكوات وتبرعات المصريين، ولم تحصل على أى تمويل خارجى. مع ذلك فإنها لم تسلم من الأذى فى أجواء الانفعال الملبدة التى أطلقها الصراع ضد الإخوان، ذلك أنها تعرضت للضغوط الأمنية وحملات التشهير التى لم تجد فى سجلات الجمعية بعد التدقيق فيها أن لها علاقة بالصراع السياسى الحاصل. ولم يخل الأمر من مزايدات، كان منها ما أقدم عليه وزير الأوقاف الحالى الدكتور محمد مختار جمعة الذى كان يوما ما عضوا فى مجلس إدارة الجمعية الشرعية وأحد المشاركين فى حملات التوعية التى نظمتها، إلا أنه ما إن عين وزيرا، حتى حاول إخضاع أنشطتها الدعوية لإشراف السلطة، وصدَّر الأزهر فى الموضوع الأمر الذى انتهى بإصدار قرار بإغلاق ٤٥ معهدا لإعداد الدعاة وكذلك ١٦ مركزا لتحفيظ القرآن، كانت الجمعية قد أنشأتها خلال العقود التى خلت!

 

(٣)

ما سبق يمثل جانبا من القسمات التى طمست حتى جرى تغييبها فى أجواء الانفعال والهرج الذى شهدته مصر بعد إسقاط حكم الإخوان فى عام ٢٠١٣. وهو ما انتهى بخلط الأوراق ووضع الجميع فى سلة واحدة صار الإرهاب عنوانا لها، ولم يقف الأمر عند حد شيطنة الجميع وشن حرب الإبادة عليهم، وإنما وصل بنا الحال أن صار التدين شبهة فى بلد الأزهر، وصار الدين ذاته هدفا للتجريح وموضوعا للازدراء من جانب البعض. مرة بدعوى تجديد الخطاب الدينى الذى تحمس له الخصوم الذين لا يرجون لله وقارا، فتصدوا للإفتاء فيه بكل جرأة. ومرة أخرى بدعوى إلغاء الديانة من الهوية أو حظر تدريس الدين فى المدارس بحجة أنه يفرق بين المسلمين والأقباط، ومرة ثالثة عبر المطالبة بحذف أسماء رموز وأعلام الحضارة الإسلامية من مناهج التعليم واستبدالهم بعظماء الفراعنة ونوابغ المصريين. ومرة رابعة من خلال الدعوة إلى «تطهير» مناهج التعليم من بعض البطولات التاريخية والآيات القرآنية التى قيل إنها تشجع على التطرف والإرهاب.

من طريف ما قرأت فى هذا السياق أن أحد المثقفين المحترمين كتب متسائلا: هل يمكن الثقة فيمن لا يؤمن بالدولة القومية ويعتبرها كفرا وخروجا عن الإسلام فى العملية السياسية؟، وهو سؤال يعبر عن بعد آخر للشيطنة لا يجرح الهوية الدينية فقط وإنما يجرح الهوية الوطنية أيضا. ولا يرى فى العقل الإسلامى سوى التكفير والقتل وإنكار الانتماء الوطنى لصالح التعلق بحلم الخلافة الكبرى.. إلى غير ذلك من الصور النمطية التى جرى الترويج لها، وحولت الاستثناء إلى قاعدة والشذوذ إلى قيم وأعراف مستقرة.

وجه الطرافة فى السؤال أن صاحبه قرأ صحف هذا الزمان وشاهد التليفزيون ولم يقرأ التاريخ. إذ لم يعرف مثلا من الذى أقام معسكرات التدريب العسكرى فى قلب القاهرة بعد إلغاء النحاس باشا للمعاهدة مع الإنجليز فى عام ١٩٥١ (كان اسمها جامعة فؤاد الأول آنذاك) ولم يعرف شيئا عن هوية الشبان الوطنيين الذين ذهبوا فى أول كتيبة لمقاتلة الإنجليز فى أواخر العام. ولم يسمع بأسماء الجامعيين وغيرهم الذين قتلوا فى معركة «التل الكبير». وواجهوا فيها القوات البريطانية، وكان فى مقدمتهم عمر شاهين وأحمد المنيسى من كلية طب قصر العينى.

إن أخطر وأسوأ ما ابتلينا به فى مصر أن الخلاف السياسى أصبح صراعا على الوجود. إذ أفسد ما بيننا، بحيث صار مبررا لإبادة الآخر وإلغائه من خرائط الواقع. وتلك مذبحة سياسية عبثية، خصوصا إذا استهدفت حملة الإبادة أفكارا لها جذورها ضاربة الأعماق فى الضمير الدينى. ذلك أن الإبادة فى هذه الحالة تكرر أسطورة طائر الفينيق عند الإغريق، الذى كلما احترق انبعث من رماده حيا من جديد.

 

(٤)

من مفارقات الأقدار وسخرياتها أن نجد أنفسنا ذات يوم نلجأ لشهادة مستشار الأمن القومى الأمريكى فى الدعوة إلى الفرز والتمييز بين فصائل وجماعات العمل الإسلامى. إذ بعدما أطلق الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب حملته الشعواء ضد ما أسماه «الإسلام الراديكالى» فى تعميم جهول، وهلل له بعضنا وصفقوا، فوجئنا بمستشار الأمن القومى الجديد الجنرال هاربد ماكمستر يعترض على المصطلح بدعوى أن استخدامه لا يخدم مكافحة الإرهاب، ونقلت عنه صحيفة نيويورك تايمز فيما نشرته الصحف المصرية أمس الإثنين (٢٧/٢) قوله إن الذين يرتكبون الأعمال الإرهابية يشوهون الدين الإسلامى.

هذا «الاكتشاف» الذى أعلنه الجنرال ماكمستر وتناقلته وكالات الأنباء ربما فاجأ كتائب الإبادة فى بلادنا التى أغمضت أعينها وقررت الإطاحة بالجميع، الصالحين منهم والطالحين والمعتدلين والمتطرفين والعقلاء والمجانين. ومن ثم صمت آذانها عن دعوات الفرز والتمييز لترشيد الصراع وعقلنته. الأمر الذى أوصلنا إلى وضع عشرات الآلاف فى السجون ونصب المشانق للمئات وإشاعة الخوف والترويع بين الملايين.

إذا كان مستشار الأمن القومى الأمريكى قد صوب حماقة رئيسه ورعونته، فلا أعرف كيف يمكن أن نفعلها فى مصر، بحيث نميز بين الذين تثبت التحقيقات النزيهة ــ وأضع عشرة خطوط تحت الكلمة الأخيرة ــ أنهم تورطوا فى العنف وبين غيرهم ممن سحقهم القطار المندفع الذى تعطلت كوابحه، وللعلم فإن الفرز المطلوب لا يراد به فقط رفع الظلم عن البعض ــ رغم أهمية ذلك ــ كما لا يراد به فقط التفرقة بين ما هو سياسى مثير للجدل وما هو خيرى ينفع الناس ويخدم المجتمع، ولكن ينبغى أن ننتبه إلى أن الفراغ الناشئ عن حملة الإبادة هو هدية مجانية لتمدد التطرف والإرهاب، إذ لم نعد بحاجة لإثبات فشل سياسة إرهاب الإرهاب، من ثم لم يعد هناك حل إلا أن نعزز جبهة الاعتدال لكى نحصن المجتمع ضد غوائل الإرهاب، ولكى نستبدل ما نعتبره سيئا بما هو أسوأ وأتعس. ذلك أن الفراغ الراهن يرشح تنظيم داعش ليكون البديل الذى يملؤه.

إن أى باحث منصف يعلم أن فصائل التيار الإسلامى ليست شيئا واحدا، كما أن الإخوان أنفسهم لم يعودوا شيئا واحدا، وذلك حال السلفيين أيضا. وأى إدارة رشيدة للصراع توظف تلك التمايزات لصالح الدفاع عن السلام الأهلى والاستقرار، وأرجو ألا نضطر للجوء إلى خبرة مستشار الأمن القومى الأمريكى لكى ينصحنا بما ينبغى أن نفعله لإجراء الفرز والتمييز المنشودين.

الشروق

تعليقات

اكتب تعليقك