حَلَب ابن العَديم والكواكبي!...يكتب رشيد الخيّون
زاوية الكتابكتب ديسمبر 21, 2016, 10:10 ص 445 مشاهدات 0
كانت حلب الأجمل والأقدم، ويكفيها أن ابنها عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902) أول من واجه الاستبداد بشقيه الديني والسياسي، وجعل الدِّيني أكثر فداحة من الثاني، بل وسبباً له (طبائع الاستبداد)، مستقبلاً إنقاذ المنطقة بنظام متمدن، فالخلافة العثمانية حينها آيلة للسقوط. أخبرني سلام الكواكبي ببيروت قبل أسابيع، أن ما جُمع من آثار جده قد احترق بحريق المنزل، ومنها القلم الذي كتب به «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
كم كانت حلب راقية بفكر أبنائها، وتعدد أديانها، وتلك ميزة جعلتها تنشأ على التسامح، ولا أجد غرابة أن يبرز فقيهها ومؤرخها ابن العديم (ت 660هـ) مدافعاً عن أبي العلاء (ت 449هـ)، وفي زمن لا يزال فيه صوت مَن اعتبر المعري أحد الزنادقة (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء) مدوياً! جاء دفاع في كتابه «الإنصاف والتَّحري في دفع الظُّلم والتَّجري عن أبي العلاء المعري»: «فابتدرْتُ دونه مُناضلاً، وانتصبتُ عنه مجادلاً، وانتدَبتُ لمحاسنه ناقلاً، وذكرتُ في هذا الكتاب مولِده ونسبَه، وتحصيله للعلم وطلبه، ودينه الصحيح ومذهَبه، وورعه الشديد وزُهده، واجتهاده القوي وجِدّه، وطعن القادح فيه وردّه، ودفع الظُّلم عنه وصدّه. وسميته كتاب الإنصاف.. وبالله التوفيق والعصمة».
كانت حَلَب على فقه الإمامية أيام الحمدانيين، وبعدها تحولت إلى المذاهب الأربعة مع الأيوبيين (الحموي، معجم البلدان). وتبادل المواقع في السلطة لم يجر على أساس المذهب، وإنما السياسة والتَّغلب. ومثل هذا التبدل المذهبي جرى لكثير من البلدان، فقيل: «الناس على دين ملوكهم» (الفخري، في الآداب السُّلطانية). أقول فعلامَ رفع الرايات بطائفية شرسة، والناس تبادلوا المواقع عبر الأجيال من شيعي إلى سني ومن سُني إلى شيعي، فُرض المذهب وأصبح يتوارث. فتعالوا إلى نزاعات حلب وخرابها وانظروا كيف تُسوق؟!
كانت حلب بلدة تعايش عبر التاريخ، بظاهرها مقام لإبراهيم الخليل، يُنذر له «ويُصبُ عليه ماء الورد والطّيب ويشترك المسلمون واليهود والنصارى في زيارته» (معجم البلدان)، بلا تدافع. قيل في اسمها كان للخليل غُنيمات يحلبُها ويتصدق بحليبها، فسميت بحَلَب (ابن جُبير، الرِّحلة). لا جدال في قِدمها، وقيل أشير إلى اسمها في «التَّوراة» بـ«إرم صُوبة» (بنيامين، الرِّحلة).
كنا نحن العراقيين المعارضين لنظامنا السابق، نأخذ موقفاً حاداً ممَن يقف معه ويعترض على سقوطه، وعُذرنا أن الآخرين لا يحسون بمعاناتنا، خصوصاً السوريين المعارضين منهم لنظامهم، والذين وجدوا في نظامنا ملجأً لهم، مثلما كان المعارضون العراقيون مع النظام السوري.
نسأل أنفسنا الآن: لماذا لا نعطي السوريين الحق في أن يشعروا بهذا الشعور، بأننا لا ندرك قسوة دكتاتورية نظامهم، وحزب «البعث» في النظامين واحد؟ أقول هذا، لأن هناك مِن العِراقيين مَن سره خراب حلب، في أن يحكمها «البعث» ولو ظلت حجارة، وقيل في المثل «الإمارة ولو على حجارة».
مثلما طلبنا مِن السوريين والفلسطينيين والعرب جميعاً، وكنت أحد الذين وقعوا بياناً مثل هذا، غداة سقوط النظام السابق، أن يتركونا مع نظامنا، لا يعينوا علينا بالسيف أو القلم، طلب ديمقراطيون ومثقفون سوريون مثل هذا الطلب، إذا لم يعنهم أحد، فلا يعن عليهم، فليسوا كلهم «قاعدة» أو «داعش» أو «جبهة نصرة».
كذلك إذا كانت الأحزاب الدِّينية الشِّيعية تعتقد أن العراق كان محكوماً مِن أقلية سُنية، ويجب أن تأخذ الأكثرية حقها، لنوافق على هذا الطرح في سوريا. أليس مِن حق الأكثرية السُّنية السورية أن تدعي بأنها محكومة مِن أقلية علوية، ولها أن تأخذ حقها كأكثرية؟ مع يقيننا أن لا شيعة تحكم ولا سُنة، فالطوائف مخطوفة بالسياسة والحزبية. ناهيك عن أن المعارضتين، سابقاً ولاحقاً، تجاهد ضد حزب واحد، نظريةً وتأسيساً، وعندما سقطت سلطة «البعث» ببغداد حمل قيادات البعثيين أغراضهم إلى دمشق، وأُعينوا بالمال والسلاح، لأنه حزب واحد. فما عدا مما بدا كي يسر البعض خراب حلب ويعتبرونه انتصاراً، وبطرفة عين أعفي النظام السوري من تفجيرات طالت آلاف العراقيين، عندما كان التدريب يتم بعنايته.
كلما خربت مدينة من ذوات التاريخ قلنا: ما بعده خراب! غير أن الناظر في أشباح حَلب يظن الطَّواعين كانت أرحم بها مما يجري عليها الآن. فمِن عادة الطواعين أن تترك الحجر والشجر، وها هي منازل حلب كهوف فاتحة أبوابها للموت. وقد استوقفتني عبارة الحموي (ت 622هـ) فيها، وقد زارها: «وما في حلب موضع خراب أصلاً»، وبعد ثمانية قرون ليس فيها موضع عامر. فما قيمة السُّلطة على بلدة دُثرت تحت التُّراب، وبشر توزعوا بين مخيمات وحفر، غدت منطلقاً إلى كراهيات لا تنتهي. لم تعد حلب ابن العديم والكواكبي مثلما تركها أبو بكر الصَّنوبري (ت 334هـ): «حَلَب بَدرُ دُجّى أن/جمها الزُّهر قراها/فهي تسقي الغيثَ إن لم/يسقها أو إن سقاها» (معجم البلدان).
تعليقات