عن قهر الإعلام للعقول يكتب - عبدالكريم الشمري
زاوية الكتابكتب أكتوبر 7, 2014, 1:47 م 1029 مشاهدات 0
يقول جوزيف جوبلز وزير الإعلام النازي في عهد هتلر:(أعطني اعلاما بلا ضمير أعطيك شعبا بلا وعي)…!
من ينظر في الإمكانيات المتاحة لدى جوزيف جوبلز والتي جرّأته على قول هذه المقولة ويقارنها بما تملكه وسائل الإعلام اليوم من امكانيات يعرف بأن امكانية التلاعب بوعي الشعوب وخلق أجيال بلا وعي أصبحت أسهل بكثير مما كان عليه الحال في عهد جوزيف؛ فتوفر الأجهزة الحديثة والتقنيات الفنية التي تدار بكوادر مهنية عالية المستوى مع غياب الوازع الديني عند كثير من هذه الكوادر يساعد بشكل كبير على تشكيل واقع زائف لدى الشعوب مع عدم اعطاء الشعوب ما يدلل على زيف الواقع…فتتلاعب وسائل الإعلام بهم وتوهمهم بأنها تحدو بهم نحو الحقيقة!.
وهذا ما جعل هربرت شللر يسمي كتابه الذي تكلم فيه عن الإعلام ودوره في صناعة الرأي العام بـ(المتلاعبون بالعقول) ويقول فيه:(لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكثر لابد من اخفاء شواهد وجوده،أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المُضلَّلون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية…!،بايجاز شديد نقول:إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا).
فالإعلام المضلل استطاع اخفاء شواهد وجود تضليله بخلق واقع ومناخ يساعد على اللعب بلاعقلانيّة الشعوب مع ايهامها بعقلانيتّها…وذلك عن طريق اشغال الناس بالسياسة وجعلهم أشياعا ينطلقون في تعاطيهم مع الأخبار والقضايا من قناعاتهم المسبقة لا من حيث صحة الخبر من عدمه…وهذا أفضل مناخ لوجود الإعلام المضلل!.
وقد تنبه لخطورة هذا المسلك عالم الإجتماع ابن خلدون المتوفى ٨٠٨هـ -١٤٠٦م…وهو التعاطي مع الأخبار ومحاكمتها وفق القناعات المسبقة لا من حيث مطابقتها للواقع من عدمه…يقول رحمه الله في مقدمته ص٣٩:(فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة،وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص،فتقع في قبول الكذب ونقله،ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار الثقة بالناقلين،وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح،ومنها الذهول عن المقاصد،فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما ظنه وتخمينه فيقع في الكذب،ومنها توهم الصدق وهو كثير،وإنما يجيء في الأكثر من جهة الناقلين،ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنّع،فينقلها المخبر كما رآها،وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه) انتهى كلامه.
ويقول الدكتور الطريفي في كتابه العقلية الليبرالية:(وزمننا أكثر الأزمنة إمكانًا لقلب الحقائق والتأثير على العقول لقوّة الإعلام وسطوته وتأثيره في قلب الحقيقة،أو تهويلها وهي صغيرة،أو تحقيرها وهي كبيرة،والعقول تتأثر وتنخدع بما ترى ويتكرر عليها ولا تستطيع التمييز بين حقيقة تكرار وقوع الشيء عملا،وبين كونه وقع مرة ولكنه يُكرَّر ذكرًا على العقول حتى تتأثر بتكراره ذكرًا كما لو أنه تكرر وقوعًا،لذا أصبح من السهل الترويج للأفكار والعقائد والدول والأشخاص وكذلك مناقضتهم بأسهل السبل.
فعندما يكذب الشخص مرة،ويقوم الناس بالتنديد به في المحافل ووسائل الإعلام ويكررون كذبته ألف مرة،فسيأخذها العقل على أنه كذب مرّات،بل وتَطَبَّع على الكذب،لأن العقل على الرغم من قوته فإنه يُغلب في هذا الباب،ومَن كذب مرات ولا ينقل كذبه ولا يُندد به،فإنه سيكون أحسن حالا من المظلوم بتكرار سوئه،وسيبقى أمره موزونًا بالعقل لأنه لم يتأثّر بشيء.
وقد تحول أكثر الناس عما كانوا عليه من قسر أجسادهم على الانقياد والتبعية بالقوة للقناعة بعقائد وأفكار وأعمال لا يرونها،إلى قسر العقول وتغيير القناعات بالتدليس والتغرير،وقلب الحقائق حتى ينساق العقل من حيث لا يشعر،فالتدليس والتغرير هما القوة القاسرة المستبدة بالعقول وهي علامة وأمارة على هذا الزمن المتأخّر.
والعقول في زمننا كأسراب الطيور خلف المؤثرات عليها،وقليل من يتحكم بضبط عقله ووزن حكمه،وللنفس هوى دخيل يمتزج مع العقل،فإذا لم يقتلعه كما يقتلع الزارع النباتات الأجنبية من بين زرعه فإنه لن ينتج نتاجًا إلا وبه شائبة،وقد ينغمس الهوى في العقل كما ينغمس شوك السعدان في الصوف فلا ينتزع إلا بمشقة،ولا بد للعاقل أن ينتزع معه شيئًا صحيحًا من نتاج العقل ليسلم له الباقي حيطة لدينه واحترازًا من بقاء هوى النفس ولو قل؛قال تعالى:{إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي}.
………إلى أن قال:وقد بيّن الله أثر المشاهدات على الثبات والتحول وأثرها في قوة المواجهة وضعفها،قال تعالى عن مواجهة النبي ﷺ للمشركين:{إذ يريكهمُ الله في منامك قليلًا ولو أراكهم كثيرًا لفشِلتم ولَتنازعتم في الأمر} أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلتُ لرجل إلى جنبي:تراهم سبعين؟قال:لا بل مائة.حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه قال:كنا ألفًا.
فالصورة التي تكررت في ذهن النبي ﷺ في منامه قوّت مِن أمره وشدت من أزره،وهي في حقيقتها مخالفة لصورة الواقع عددا.
وهذا نظير أثر الإعلام على النفس سواءً كان أثره بحق أو بباطل)انتهى كلامه.
وقبل الطريفي بسنين أكّد هربرت شيللر هذه الحقيقة-قهر عقول الجماهير وتطويعها-يقول في كتابه 'المتلاعبون بالعقول:(يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتتقيحها وإحكام السيطرة عليها،تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا،بل وتحدد سلوكنا في النهاية.
وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الإجتماعي فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول؛ذلك أن الأفكار التي تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف وإلى انتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة أو يرفضها،سواء على المستوى الشخصي أو الإجتماعي ليست في الواقع سوى أفكار مموّهة أو مضللة.
إن تضليل عقول البشر هو على حد قول باولو فرير:'أداة للقهر'.فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى'تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة').
ويقول الدكتور المصري القبطي رفيق حبيب في كتابه تفكيك الديمقراطية تحت عنوان'صناع الفتنة':
(مع التقدم التكنولوجي،وتطور أساليب الاتصال تحوّل الإعلام إلى أداة شديدة التأثير على وعي الجماهير،فالإعلام المعاصر بكل أدواته تحوّل إلى قوة طاغية ومؤثرة،وهي طاغية لأنها لا تترك مساحات لحرية الفكر والاكتشاف،بل أصبح الإعلام أداة تحدد الوعي بإسلوب سابق التجهيز،فالإعلام ينشر قوالب إدراكية يتم تشكيلها وصناعتها داخل أوساط النخبة،أو جماعات الضغط،أو الحكومات،ثم تقوم الآلة الإعلامية بضخ فيض هائل من المعلومات والتطورات والآراء في عقل المشاهد والمستمع والقارئ،أي عقل الشعوب.
وقد أدى ذلك إلى خلق المتلقّي السلبي،فالمواطن العادي لا يستطيع بسهولة مواجهة الأدوات الإعلامية؛لأنه لا يملك أدواته الخاصة في المعرفة،فالإعلام يقدم المعلومات بعد تشكيلها في قوالب جامدة لا تسمح للمتلقّي بنقدها أو إعادة تحليلها،فالصورة الإعلامية مركبة وموجهة،يصعب إعادة تفكيكها،للوصول إلى العناصر الحقيقية.
وخلال عملية صناعة الوعي تقدم المدركات سالقة التجهيز من خلال لعبة معلوماتية شديدة الخطورة،فعصر المعلومات،كما يسمى ليس عصرا لحرية الحصول على المعلومات الحقيقة،بل عصر صناعة المعلومات،فالبيانات والأحداث والواقائع المتاحة أمام المواطن العادي،ليست مواد خام أولية بل هي مواد متحيزة يتم صناعتها حتى تعطي انطباعات دون غيرها،وعملية صناعة الوعي المعلوماتي،معقدة لدرجة كبيرة كما أنها ليست عملية أخلاقية بل هي في كثير من الأحيان عملية ميكافيلية.
لذلك يتم معالجة المعلومات في معامل سياسية متحيزة وأدوات المعالجة كثيرة منها المستتر والسافر،فالعمليات المستترة هي تلك التي تعتمد على الانتقاء فتخفي بيانات وتظهر أخرى،وكذلك هناك عمليات المعالجة الموجهة التي يتم من خلالها استخلاص معلومات عامة من خلال حسابات ووجهات نظر متحيزة.
أما العمليات السافرة فهي التضليل الإعلامي وأدواته متعددة تصل لحد نشر وقائع كاذبة أو تحريف الحقائق تمامًا؛حتى تعطي مدلولًا عكس حقيقتها.
فالإعلام إذن أداة يمكن أن تستخدم لأغراض شتى ورغم مقولات عصر المعلومات إلا أن المتحقق حتى الآن هو سيادة نمط التضليل والتوجيه،وكأن عصر المعلومات يعني حرب المعلومات،حيث من يملك القوة والمال يملك بالتالي المعلومات وبها يحقق سيادته على الوعي السائد)ص٢٩-٣٠.
فالواجب علينا الحذر وعدم تصديق ونقل كل ما يقال لمجرّد موافقته لأهواءنا…ولنتأدّب بما أدب الله به المؤمنين عندما قال:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}.
يقول الإمام السعدي رحمه الله:
'هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه'.
تعليقات