الواقع المرير لكليات الأعمال بقلم د. سعيد بن على العضاضي
الاقتصاد الآنإبريل 9, 2013, 5:15 م 791 مشاهدات 0
تناولت في مقال الأسبوع الماضي السبب الجوهري لتدني مستويات ومخرجات كليات الأعمال في الجامعات السعودية، وسبق أن كتبت مقالات عدة حول هذا الموضوع إلا أن الأمور خرجت عن السيطرة وزادت الأمور تعقيدا، ما جعلني أعيد الفكرة مرة أخرى وأظهرها على السطح لعلنا ننقذ ما يمكن إنقاذه.
وكان من أهم ما ذكرت أن الاسم القديم الذي كانت تسمى به كليات الأعمال وهو (العلوم الإدارية) -الذي ما زال البعض يتشبث به حتى حينه- يعد السبب الجوهري لاضمحلال هذا العلم في جامعاتنا. ورغم أن المقال كان شموليا وتحليلا ولا يرتبط البتة بأشخاص بعينهم أو تخصصات بذاتها، إلا أنه تبين لي من خلال التعليقات أن البعض لم يقرأ المقال جيدا، والبعض الآخر يريد أن يزج بتجاربه المحبطة مع بعض الكليات والجامعات في الموضوع، بينما الأمر يخرج عن ذلك كله، فنحن نأخذ الموضوع بشكل عام ونرد الفرع إلى الأصل، ونخرج من الاجتهاد إلى أصول العلم ونظرياته، ولا أريد هنا أن أعلق على بعض الردود التي وصلتني حتى لا أبتعد عن صلب الموضوع، بل أريد أن أكمل ما بدأته من وضع النقاط على الحروف وأبين بقية الأسباب الجوهرية التي تقف أمام عجز كليات الأعمال في جامعاتنا عن ممارسة وظائفها دون التحيز لتخصص بعينه أو تصفية حسابات أو دفع قيمة تهورات.
نقول وبالله التوفيق: إنه إضافة إلى الاسم الذي أجبر كليات الأعمال على تغيير برامجها ومسخ خططها أن هناك معوقات أخرى أضرت كثيرا بفكر الأعمال وتأخر الإفادة منه في بلادنا ومنها دخول الكثير من العلوم بين تخصصاته ليس فقط العلوم الاجتماعية، بل حتى العلوم التطبيقية من هندسة ورياضيات، وفي الآونة الأخيرة دخل الحاسب الآلي ونظم المعلومات، وبدلا من أن تهذب هذه العلوم والفنون برامج كليات الأعمال زادتها تعقيدا وأبعدتها عن بيئتها كثيرا. إلا أن هناك علوما أضرت بفكر الأعمال أكثر من غيرها وأهمها وفي مقدمتها فكر الإدارة العامة. وتطرقت إلى هذا الموضوع من قبل وأسيء فهمه أيضا، والأمر يحتم علي العودة إليه على عجل لتبيان وجهة نظري، ففكر العامة يختلف عن فكر الأعمال، والتطبيقات هنا تختلف جذريا عنها هناك، وليس معنى ذلك أن الأول أفضل من الثاني، أو أن الثاني أكثر فائدة من غيره، إنما طريقة الدمج بينهما تحت مظلة كلية واحدة أفسد كليهما. وتنبهت بعض جامعاتنا إلى هذا في الآونة الأخيرة بعد أن دفعت الأجيال فاتورة باهظة نتيجة لهذا الخلط الذي نتمنى ألا يكون متعمدا.
كما أن اختلاف النظرية عن التطبيق وعدم قناعة كثير من منشآت وقطاعات الأعمال في بلادنا بأساليب إدارة الأعمال وتفضيلها العمل بالطريقة التقليدية أحد الأسباب التي تقف وراء تأخر كليات الأعمال عن الركب، خصوصا في الجامعات السعودية. فما يتعلمه الطالب في كليات الأعمال يختلف عن الواقع فيظن الكثيرون أن المشكلة تكمن في النظرية، بينما الخلل يكمن في الواقع، فقد تبنت قطاعات الأعمال في كثير من منظماتنا آليات للعمل منذ سنين وألفتها وسارت عليها لعقود ولا تريد أن تغير ما اعتادته حتى لا تخسر حصتها السوقية وتنخفض مبيعاتها، ومن يتبنى هذا لا يهدف ألبتة إلى بناء منظمات، بل تحقيق أرباح بأسرع الطرق ولو على حساب بيئته، وهذا يختلف عمن يرغب في بناء المنظمات الذي نراه يتلمس أحدث ما توصل إليه العلم في مجال الأعمال والمال والسلوك التنظيمي وما يدور في فلك هذه العلوم من تدريب وعلاقات إنسانية وحوافز ونحوها.
السبب الثالث في الواقع المرير الذي تعيشه كليات الأعمال سلب بعض المصطلحات التي ظهرت أخيرا وأثبتت جدواها فتم السطو عليها من تخصصات أخرى، بل إن بعضها تم ضمه إلى علوم أخرى دون الرجوع إلى الأصل، ومن هذه المصطلحات إدارة الجودة، ومفهوم الحوكمة، وبرامج إعداد القادة. فأصبح الكل يفتي في مثل هذه الموضوعات ويصول ويجول. فترى الطبيب يقدم ورقة عمل عن إدارة الجودة الشاملة في كثير من المؤتمرات، بل وصل بالبعض أن ينشر أبحاثا تحت هذا الفن ويقدم هذا ضمن إنجازه العلمي للترقية. تخيل معي طبيبا ينشر بحثا عن إدارة الجودة ويقدمه للترقية كجزء من إنجازه العلمي. كما أن أهل التربية ليسوا ببعيدين عن هذا فهم يتشبثون بنماذج الجودة أيضا ويدعون أنها ولدت في بيئتهم، بينما إدارة الجودة انبثقت من إدارة الإنتاج والعمليات أحد فروع الأعمال، واستفادت منه كثير من المؤسسات ومنها المؤسسات الخدمية كالمستشفيات، والمدارس، والجامعات، فالنظريات والنماذج طورت في ميدان الأعمال، أما التطبيقات فهي مباحة ووقف لكل من أراد أن يستفيد منها دون أن يدخل نفسه في أدبياتها.
السبب الرابع في بُعد كليات الأعمال عن ممارسة وظائفها هم أهل المحاسبة ورغبتهم في التغريد خارج السرب وينادون بالخروج عن فكر الأعمال ويرون أنهم علم مستقل لا ينتمي لفكر الأعمال لا من قريب ولا من بعيد. ونحن نقول: يا أهل المحاسبة أنتم جزء من الإدارة المالية التي تعتبر إحدى الإدارات الرئيسة للمنظمات كالتسويق وإدارة العمليات والمشتريات وغيرها، لذا فالمحاسبة جزء من جزء من الأعمال، ومن ينادي بأن هذا علم مختلف ينقصه الكثير وعليه أن يعود ويقرأ كثيرا في فلسفة الأعمال. وليس معنى أن المحاسبة توظف اللغة الكمية أنها أصبحت علما مختلفا، فالقوائم المالية وحساب التكاليف والمحاسبة الإدارية عبارة عن أدوات مهمتها الجوهرية مساعدة المدير على اتخاذ القرار، فالعمل الجوهري للمدير يتمثل في اتخاذ القرار، والمحاسبة جزء من أدوات دعم القرار. كما أن هناك تخصصات أخرى تحت مظلة الأعمال تمارس الأساليب الكمية مثل إدارة العلميات ولم يناد أصحابها بالانفصال عن فكر الأعمال.
هذه بعض الأسباب، وهناك أسباب أخرى إلا أنني أراني مضطرا للتوقف هنا مراعاة للمساحة المخصصة للمقال، ولنا عودة لهذا الموضوع المهم إن شاء الله.
تعليقات