واشنطن تشتكي بينما هي السبب بقلم د. عبد الله المدني
الاقتصاد الآنيناير 13, 2013, 4:36 م 470 مشاهدات 0
لا نعلم حقيقة ما يجري سرا بين الحكومتين الأمريكية والإيرانية، لذا فليس لنا إلا أن نحكم على الظاهر. والظاهر هو أن علاقات البلدين منذ قيام ما يسمى بالثورة الإسلامية في إيران يسودها التوتر والشكوك وانعدام الثقة الذي وصل اليوم إلى حد العداء وتبادل التهديد والوعيد المنذر بنشوب حرب جديدة في بحيرة الخليج.
والمعروف أن لواشنطن جملة من الملاحظات على النظام القائم في إيران تبرر بها موقفها العدائي منه، لكن دون أن تقول لنا إنها هي نفسها أي الولايات المتحدة من تسببت في تلك الأمور ابتداء! كيف؟
إن النظام الفقهي الإيراني من وجهة النظر الأمريكية نظام غير ديمقراطي، لكن من يا ترى كان السبب في الحيلولة دون ازدهار الديمقراطية وتصلب عودها في إيران؟ وبعبارة أخرى، من قام بتصفية الديمقراطية الوليدة في إيران في مهدها في خمسينيات القرن الماضي؟ أليست هي المخابرات المركزية الأمريكية التي خططت للانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بزعامة الدكتور محمد مصدق في صيف 1953 بالتعاون مع الإنجليز؟
ويصف الأمريكيون نظام طهران الحالي بالنظام المارق والساعي إلى ضرب المصالح الأمريكية والغربية في الخليج العربي، لكن من يا ترى ساهم بصمته وسكوته ودعمه الخفي في وصول مثل هذا النظام المشاغب إلى السلطة في طهران كبديل لنظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي، رغم كل مساوئه وملاحظاتنا نحن عرب الخليج عليه، لم يكن زعيما مغامرا يتحرش بجيرانه، ويهدد الآخر بالدمار، ويؤسس الجماعات الميليشياوية خارج حدود بلاده من أجل ممارسة الإرهاب، على نحو ما فعله خلفاؤه؟ ألم يكن من صمت على الإطاحة بالشاه هي إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر؟ وألم يكن من احتضن معارضي الشاه وقدم لهم المأوى والحماية والأدوات الإعلامية بموافقة أمريكية - غربية هو إدارة الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان؟
وتشتكي واشنطن وتولول وتـُخيف العالم من البرنامج النووي الإيراني وتقول: إن امتلاك طهران للقنبلة النووية خط أحمر لن تسمح بتجاوزه (كان الخط الأحمر إلى وقت قريب هو تخصيب اليورانيوم، لكنه تحول أخيرا على لسان وزير الدفاع ليون بانيتا إلى امتلاك القدرات النووية) لكنها تنسى أو تتغافل عمدا عن الحقيقة التاريخية المعروفة وهي أن بدايات اقتحام الإيرانيين المعارف النووية كانت في ستينيات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1967 حينما زودت واشنطن حكومة الشاه بمفاعل نووي يعمل بالماء الخفيف بقوة خمسة ميجاواط، وذلك ضمن برنامج كان قد سبق وأن دشنه الرئيس الجمهوري 'دوايت أيزنهاور' في الخمسينيات تحت اسم 'الذرة الأمريكية من أجل السلام'. أي أن الأمريكيين هم من منحوا الإيرانيين النواة التي استخدمها الشاه لإطلاق برنامج إيران النووي لتوليد الكهرباء، وهو ما مثــّل لاحقا حجر الزاوية في البرنامج النووي لنظام آيات الله الحالي. هذا عن السلاح النووي، أما عن السلاح التقليدي فيجب ألا ننسى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان قد زودت نظام ولاية الفقيه الإيراني -في عزّ عدائها له- بالأسلحة الصاروخية من خلال الصفقة التي عرفت باسم 'إيران كونترا' التي عدّت فضيحة للطرفين!
وبطبيعة الحال، فإن ما سبق ليس كل شيء! فالإدارة الأمريكية الحالية والسابقة كثيرا ما صدعت رؤوسنا بحقيقة لا يختلف عليها اثنان وهي الممارسات القمعية لأجهزة الاستخبارات الإيرانية وأجهزة الحرس الثوري ضد المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان الإيرانيين سواء في صفوف الأكثرية الفارسية أو في صفوف الأقليات العربية والبلوشية والآذارية والكردية والتركمانية والأرمينية. لكن من يا ترى ساهم في وضع اللبنات الأولى لمؤسسات القمع والتعذيب الإيرانية، ودرب قوات الأمن على وسائلها وفنونها؟ أليست هي الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أقنعت الشاه الراحل بأن بقاءه في هرم السلطة مرهون بنظام أمني حديدي، فكان أن اعتمد الأخير على 'السافاك' كمؤسسة أمنية رهيبة تدرب عناصرها على أيدي رجال المخابرات المركزية. وحينما سقط الشاه أورث السافاك ثقافته ووسائله الأمنية العنيفة إلى الجهاز الأمني والمخابراتي الحالي الذي يعمل تحت إمرة الحرس الثوري باسم 'فافاك'.
إلى ذلك يشتكي الأمريكيون من تمدد النظام الإيراني الحالي، وتوسع نفوذه في المنطقة، وتدخله في شؤون جيرانه. لكن السؤال البسيط الذي يمكن أن يوجه إليهم في هذا السياق هو من سمح لطهران ببسط نفوذها وسيطرتها على مفاصل إحدى أهم دول الشرق الأوسط موقعا وثروة وهي العراق؟ ألم تكونوا أنتم من قدم بلاد الرافدين على طبق من ذهب لهم في الوقت الذي كان بإمكانكم فيه أن تحولوا دون وقعوها في قبضة الإيرانيين، وبالتالي تحافظون عليها من الانحدار نحو الطائفية البغيضة والاحتراب الداخلي والتمزق السياسي والتحول إلى تابع ذليل لطهران ومنفذ لمخططاتها الإقليمية؟
وأخيرا صادق الرئيس باراك أوباما على تشريع إجازة الكونجرس حول التصدي لمحاولات إيران مد أذرعتها ونفوذها في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة أي أمريكا اللاتينية. والسؤال الذي لا بد من طرحه هو لماذا انتظرت واشنطن كل هذا الوقت للقيام بذلك، وهي التي تعلم قبل غيرها (بفضل تفوق أجهزتها المخابراتية والتجسسية) أن مساعي طهران للحصول على موطئ قدم في أمريكا اللاتينية مشروع إيراني قديم بدأ مع مجيء آيات الله للسلطة في 1979، وإنْ اشتد زخمه بوصول الرئيس الحالي محمودي أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005 بالتزامن تقريبا مع ظهور الحكومات ذات التوجهات اليسارية الثورية في أمريكا الجنوبية، ولا سيما حكومة 'هوجو شافيز' الراديكالية في فنزويلا التي يقود وزارة الداخلية فيها شخصية من أصل سوري متعاون مع حزب الله، لجهة تسهيل مرور وانتقال عناصر الأخير ومدهم بالأوراق الثبوتية المزورة لتسهيل قيامهم بالأدوار التخريبية والتجسسية المنوطة بهم.
ومما تعرفه واشنطن ومخابراتها المركزية أن مشروع التغلغل الإيراني في أمريكا اللاتينية قد بدأ بتحرك دبلوماسي نشط مع تقديم القروض والمساعدات والمنح، ثم تبعته تحركات استخباراتية قادتها أجهزة الحرس الثوري وأدواتها الخارجية كخلايا حزب الله اللبناني. كما أن الولايات المتحدة على علم مبكر بأن الاستخبارات الإيرانية قد نجحت في بناء علاقات متينة مع مخابرات فنزويلا والإكوادور وبوليفيا وكوبا ونيكاراجوا وغيرها من الدول اللاتينية التي تحكمها أحزاب يسارية ثورية، فضلا عن علاقات تبادل منافع أسستها طهران مع كارتلات المخدرات والقرصنة الفكرية وعصابات تهريب الأسلحة في القارة. ومن ثمار هذه العلاقات أن طهران وكاراكاس تملكان اليوم مشاريع ومؤسسات مشتركة بقيمة أربعة مليارات دولار (من ضمنها مصرف مشترك ومصانع لإنتاج المتفجرات)، وأن الإيرانيين والإكوادوريين شركاء في أكثر من عشرة مشاريع للطاقة والتنمية الزراعية والسمكية، فضلا عن أن طهران تعتبر اليوم مصدرا مهما لأسلحة الجيش الإكوادوري. وهناك أيضا اتفاقيات بقيمة 1.1 مليار دولار بين طهران ونظام بوليفيا الراديكالي بقيادة 'إيفو موراليس' لتطوير حقول الغاز والنفط في بوليفيا وتطوير قطاعها الزراعي والمنجمي والصناعي الخفيف. فلماذا تركت واشنطن لطهران الحبل على الغارب طوال هذه المدة، ثم جاءت اليوم فقط لتشتكي من امتداد الأصابع الإيرانية إلى فنائها الخلفي؟
تعليقات