أنماط الشخصية والقيادات الشاذة من أسباب النزاعات بقلم د. سعيد بن على العضاضي

الاقتصاد الآن

850 مشاهدات 0


 تطرّقت في مقال الأسبوع الماضي إلى موضوع النزاعات داخل المنظمات، وذكرت أن هناك أثرا للنزاعات في سير عمل المنظمات ونتائج الأعمال والمناخ التنظيمي برمته، وهي نتيجة طبيعية لكون النزاعات تنشأ نتيجة تمازج سلوكيات البشر المتباينة بلوائح التنظيم الثابتة ويظل النزاع في حدوده الطبيعية إذا كان في حدود السيطرة وتمت إدارته بنجاح، وإذا لم يؤد إلى تقسيم المنظمة وزيادة الفجوة بين التنظيمات الرسمية وغير الرسمية وإذا لم يؤثر في تحقيق المنظمة أهدافها، أو جنوحها عن الوفاء بالتزاماتها، أو انحرافها عن جوهر رسالتها.   كما ذكرت في ذات المقال أن أدبيات السلوك التنظيمي اتفقت على وجود ثلاثة أنواع من النزاعات تؤثر في سير المنظمات وهي: النزاع داخل الأفراد أنفسهم، والنزاع بين الأفراد فيما بينهم، والنزاع بين الأقسام والإدارات، وأضفت نوعا رابعا وهو النزاع بين القيادات. ورغم أن هذا الأخير يمكن أن يصنف ضمن النوع الثاني (النزاع بين الأفراد) إلا أنني أرى أنه صنف مستقل بذاته نتيجة أهميته وكثرة انتشاره، فهو من أكثر الأنواع شيوعا، كما أن تأثيره يعادل تأثير الأنواع الثلاثة مجتمعة.   وأيا كان النوع فإن هناك أسبابا مشتركة وراء ظهور مثل هذه النزاعات، وتطرقت في المقال السابق إلى سببين جوهريين: الأول تنظيمي، ويتمثل في عدم تنسيق العمل بين الجماعات والأفراد بسبب عدم الاهتمام بتوصيف الوظائف، والسبب الآخر رقابي نتيجة سوء استخدام أنظمة ومعايير الرقابة، وهذا يقودنا إلى عدم العدالة في توزيع الموارد بين الإدارات والأقسام.   وفي هذا المقال أريد أن أناقش بقية الأسباب بشيء من التفصيل، ولنبدأ بالسبب الثالث المتمثل في اختلاف أنماط الشخصية بين الأفراد. فنحن نعرف أن البشر مختلفون في سلوكياتهم ودوافعهم واتجاهاتهم، وقسم علماء النفس والاجتماع الشخصية إلى أنماط مختلفة. فمنهم من قسمها إلى ستة أنماط ومنهم من قسمها إلى خمسة ومنهم من قسمها إلى ثلاثة، إلا أن تصنيف أنماط الشخصية لا يهمنا كثيرا هنا بقدر ما يهمنا تأثيرها في نشوء النزاعات. فبعض أنماط الشخصية لا تستطيع أن تعيش في بيئة هادئة، فهي عادة ما تصعر للانقسامات وتستغل بعض الفجوات لتضخيم الاختلافات وتوقد للتناحر فلا تهدأ لها راية ولا يرتاح لها بال حتى ترى النزاعات تشتعل هنا وهناك، وترى أن هذا جزء من وظيفتها ليس فقط داخل المنظمات، بل في كل البيئات التي توجد فيها. وهذا النمط لا يستطيع أن يخفي نفسه، فهو عادة ما يظهر بين الوقت والآخر، لكنه يُظهر نفسه بطريقة تخالف حقيقة ما بداخله، فيظهر على هيئة الخوف على أهداف التنظيم أو الحرص على المصلحة العامة أو أي من هذه الأبواب الإنسانية، إلا أن طريقته في إشعال فتيل النزاعات تتم بطريقة خفية ماكرة لا يظهر هو طرفا فيها.   ويمكن أن نقول إن مقدرة المنظمة على إدارة النزاعات تتمثل في مقدرتها على التعرف على هذا النمط وكشف هويته وتقليم أظفاره أمام الموظفين فإن وصل الأمر إلى هذه المرحلة فلن يستطيع هذا النمط البقاء فيضطر إلى مغادرة المنظمة لأن مهمته تحتاج إلى التخفي.   أما السبب الرابع لتفشي النزاعات فيتمثل في مدى انتشار القيادات الشاذة في المنظمة. وأفردت مقالا منفردا عن القيادات الشاذة وكيف نشأت ولا أريد هنا أن أكرر ما سبق وتمت مناقشته من قبل، لكنني سأركز على طريقة القيادات الشاذة في إفراز النزاعات، وقبل هذا نحتاج إلى أن نعرف ماذا يقصد بالقيادات الشاذة؟ ذكرنا من قبل أن هناك منهجين لتكوين المنظمات: منهج المؤسسة الرائدة ومنهج القائد الفذ، فالمنهج الأول يتضمن تأسيس المنظمة بناء على ''رسالة'' ارتضتها المنظمة، وطالما هناك رسالة فإن دور القائد هنا تنفيذي، لأن المنظمات تسير حسب عقيدتها. أما مبدأ القائد الفذ فيعني أن المنظمة تتبع قائدها، وهو الذي يوجهها لأنه يعد بديلا عن الرسالة.   والمنظمات التي تسير على مبدأ القائد الفذ وليس على منهج المنظمة الرائدة عادة ما ينشأ داخلها ما يسمى القيادات الشاذة لكن ما المقصود بالقيادات الشاذة؟ تصنف أدبيات الإدارة أنواع القيادة إلى ثلاثة أنواع رئيسة: القائد الدكتاتوري (الاستبدادي)، والقائد الديمقراطي (الذي يؤمن بالمشاركة في اتخاذ القرار)، والقائد الفوضوي (الذي يبالغ في منح المرؤوسين حرية اتخاذ القرار وقد يترك لهم حرية اتخاذه). هذه هي الأنواع التقليدية للقيادات إلا أنه ظهرت قيادات لم تؤصل بعد ولم تأخذ حقها من البحث والدراسة وهي ما يطلق عليها القيادات الشاذة، والتي أفرزت هذا الصنف هي البيئيات التنظيمية التي تتبع مبدأ القائد الفذ ولا تؤمن بأهمية الرسالة للمنظمات فظهر القائد الأناني، والقائد التوحدي، وما يطلق عليه بالفقيه المتسارع، وسبق التفصيل في خصائص كل نوع في مقال ''القيادات الشاذة'' يمكن الرجوع إليه.   والقيادات الشاذة من الأسباب الرئيسة لنشوء النزاعات لأنه من مصلحتها ومن أسباب بقائها انتشار النزاعات في بيئة العمل، فهي تغذي النزاعات بشكل يضمن لها البقاء والاستمرارية. كما أنها لا تسعى إلى تحقيق أهداف مرسومة أو اتباع سياسات واضحة، فمثل هذه المصطلحات غريبة عليها ولا يهمها ألبتة هدف منظمة، أو سياسة برنامج، أو لوائح تنظيم. حتى تقضي المنظمات على النزاعات التي تفرزها القيادات الشاذة عليها وقبل كل شيء أن تبني لها رسالة وتحدد لها رؤية وتضع لها استراتيجية تسير عليها لتحقيق أهدافها. وينبغي ألا تكون صياغة الرسالة والرؤية والاستراتيجية صورية كما نراها في كثير من منظماتنا، بل رسالة تحدث ثورة تنظيمية تحرك المياه الراكدة داخل التنظيم حتى تقضي على كل معنى للحزبية والفئوية فتتحول المنظمة من مصلحة أفراد إلى مصلحة جماعة التنظيم.   هذه هي الأسباب الجوهرية لتفشي النزاعات داخل المنظمات، وهناك أسباب أخرى، منها تعارض أهداف الموظفين مع أهداف التنظيم، وخلو نظام الحوافز من العدالة، والمركزية في اتخاذ القرار، وبُعد قمة الهرم عن قاعدته، وهناك الكثير لا يتسع المكان لذكرها.

الآن:الاقتصادية

تعليقات

اكتب تعليقك