الهاوية المالية مرة أخرى.. هل أخطأت؟ بقلم مطشر المرشد
الاقتصاد الآنديسمبر 19, 2012, 5 م 2070 مشاهدات 0
من المتعارف عليه أن علم الاقتصاد يعتمد على نماذج مبسطة من العالم الواقعي تقوم على العديد من الفرضيات والتعميمات، فيتم تحليل مجمل الفرضيات لاستنتاج التوقعات المستقبلية. والغريب أننا في المملكة العربية السعودية بلد الاقتصاد الحر، لا نقبل تنوع وجهات النظر الاقتصادية، ونقوم بمهاجمة أي وجهة نظر اقتصادية تتعارض مع ما يراه الفريق الاقتصادي 'الأوحد' وكل من يدور في فلك هذا الفريق من مستشارين أجانب.
ومن تابع ردود الفعل التي استثارتها التوقعات التي تطرقت لها عبر صحيفة ''الاقتصادية'' يوم السبت 1 كانون الأول (ديسمبر) 2012 حول 'الهاوية المالية الأمريكية'، سوف يعي ما أقوله هنا، حيث ركزت ردود الفعل على الشكل الحاد الذي ظهر فيه التقرير، ولم يتم مناقشة الفكرة أو لب الموضوع. بل إن بعض الكتاب من شدة الحماس وجّه اتهامات بعدم المهنية والمصداقية، وآخرون قاموا بطرح عدة أرقام متضاربة لحجم مبالغ استثماراتنا واستثمارات الصين في السندات الأمريكية، وهذا شيء أستطيع أن أتفهمه وأقبله للسبب التالي: -يا إخوان- وزارة الخزانة الأمريكية تقول: 'إن حجم مبالغ استثمارات الحكومات والصناديق السيادية لا يمكن تحديده بشكل دقيق'، لماذا؟ لأن كثيرا من عمليات شراء السندات الأمريكية يتم عبر وسطاء ومراكز حفظ في أوروبا أو آسيا، ولذلك تقيد الخزانة الأمريكية اسم الوسيط أو مركز الحفظ في سجلاتها كمشتر للسندات.. إذا كيف يستطيع أي منا الجزم بأن هذه الدولة أو تلك تملك تريليون أكثر أو أقل في سندات الدين الأمريكية، خاصة مع غياب الشفافية والإفصاح في عالمنا؟ وأيضا يجب ألا ننسى بأن أغلب عمليات إدارة أصول الصناديق في الخليج تعتمد على توظيف مستشار إدارة أصول أجنبي، ليقوم هذا المستشار في اختيار وسطاء من بني جلدته لتنفيذ عمليات شراء السندات أو أي أصول أخرى.
وعندما طرحت ما طرحته فأنا لم أكن مبتدعا وأصف شيئا من الفراغ أو من شطحات الخيال، ولست نابغة عصره في التحليل والاستقراء. ففي حديثي لهذه الجريدة بتاريخ 1 كانون الأول (ديسمبر) 2012 كنت أحاول أن أشير لما ملأ الدنيا وشغل الناس في أمريكا وخارجها وعلى مستوى العالم، من أزمة حادة متوقعة للاقتصاد الأمريكي وللدولار بطبيعة الحال، وما قد ينال الاقتصاد العالمي من الأذى إن حدث -لا سمح الله- فإن الضرر سيكون كبيرا أيضا بالنسبة لاقتصادنا واقتصاديات المنطقة. وما يرجح ذلك من أسباب لا تخفى على أصحاب الاختصاص، فنحن -ببساطة- أصحاب اقتصاد ريعي قائم على سلعة أساسية مقومة بالدولار، ونحن أصحاب عملة وطنية مرتبطة بسعر ثابت بالدولار، وحتى ما نملكه من مخزونات نفطية يقيم بالدولار أيضا، وبالتالي فإن دخلنا المستقبلي يعتمد على الدولار. وإذا أضفنا إلى ذلك استثماراتنا الحكومية ورؤوس الأموال الخاصة السعودية وأغلب ذلك في سندات الدين الأمريكي! وعندما تتعالى أصوات التحذير تحت تأثير المخاوف المتوقعة على مستقبل الاقتصاد الأمريكي ومستقبل التفوق الأمريكي والاستمرارية في زعامة العالم لأسباب أهمها يتعلق بشبح الديون الأمريكية التي تجاوزت 16 تريليون دولار! أفلا يشكل ذلك كله سببا موجبا وموضوعيا لاستقراء الخطر الذي سيصيب اقتصادات المنطقة للأسباب التي ذكرتها من شدة التصاق اقتصاداتنا ومستقبلنا بالدولار الأمريكي! ومما يرجح كفة المخاوف أننا لا نملك اقتصادا متنوعا بما يكفي لتخفيف آثار تداعيات الصدمة (كتنوع الاقتصاد الصيني)، فنحن في الواقع كمن وضع أغلب البيض في سلة واحدة وفي سيارة تتجه نحو منحدر وعر. ذلك المنحدر المتجه إلى الهاوية ليس مصطلحا أدبيا مثيرا من بنات أفكاري، بل هو بالضبط تعبير استخدمه مختصو الاقتصاد حتى في الكونجرس الأمريكي.
وحتى لو صحت قراءات البعض عن استبعاد أزمة مستقبلية كبرى في الاقتصاد الأمريكي، فإن استمرار انخفاض قيمة الدولار سيجر فوائد على الاقتصاد الأمريكي تتجلى في رفع تنافسية الصادرات الأمريكية أمام صادرات الدول الأخرى، وهذا قد يكون أحد الخيارات الاستراتيجية لصناع القرار الاقتصادي في أمريكا، نتيجة أزمة اقتصادية أو بدونها. أما نحن في هذه الحالة فلن ننال إلا الخسائر المحققة، من استثمارات تحولت قيمتها إلى دولار رخيص، وإلى بترول سنصدره بدولار رخيص، وإلى ريال مرتبط بدولار رخيص أيضا، مما يفرض علينا البحث بجدية عن خيارات لا تزال متاحة لتنويع الاقتصاد والاستثمارات بشكل عام، وكذلك إعادة تقييم سعر صرف الريال أمام الدولار.
ما قلته قبل أيام هو ما أملاه علي مراقبة الله في حدود علمي، وحبي وحرصي على بلد كل ذرة من ترابه أغلى عندي من ألف أمريكا، ولن أشعر بالندم على ما قلت.. بل سأشعر بالعار عندما أرى ملامح خطر قد يصيب الوطن وأتعامى عنها، خوفا من لوم لائم أو مزايدة صاحب غرض. وكنت أتمنى لو تم التركيز على النقاط الأساسية فيما طرحته موافقة أو نقدا، وليس مجرد التركيز على أن لغة الطرح تميزت (بالإثارة والتهويل).. إلخ، فالهمّ الحقيقي ليس في التلميع أو الظهور، المهم أن ننجو جميعا ويسلم الوطن فنحن أمام مستقبل أجيال ووجود في هذا العالم.
وقد كان الهدف الحقيقي لما طرحته قبل أسبوعين هو إبراز أهمية البحث عن طرق جديدة لتمويل بناء المدارس أو أي مشروع خدمي اجتماعي في بلادنا، مثلا أن تقوم وزارة التربية والتعليم في إنشاء شركة أغراض خاصة، لكي يتم من خلالها طرح صكوك مقابل التدفقات المالية السنوية المخصصة للمباني والإيجارات، ومن ثم يتم بناء المدارس بأموال حملة الصكوك أي المستثمرين الذين يقومون بتأجير المدارس على الوزارة ويحصلون على عائد سنوي مقابل استثماراتهم، بدلا أن تتجه رؤوس أموالنا لبناء مولات وفنادق في دول مجاوره.. فمن خلال هذا التوجه يتم تنشيط السوق الثانوية للصكوك والسندات، ويصبح لدينا قطاع مالي متكامل فيه، إضافة للأسهم أدوات الدين والصكوك. وأيضا توسعت في الطرح حينها وتطرقت لأسلوب إدارة التدفقات النقدية وركزت على أن دول الخليج والمملكة هي أكثر دول العالم انكشافا على الدولار الأمريكي حاليا وفي المستقبل. أما بخصوص السندات الأمريكية فلقد عملت سنوات طويلة في هذا المجال محليا وعالميا (أسواق لندن ونيويورك)، حيث قمت بتداول السندات الحكومية وأعي جيدا كيف يدير مديرو المحافظ سواء الحكومية أو الخاصة أصول محافظهم، إن طريقة التعامل في هذه المنتجات تتطلب مهارات معينة ومتابعة عميقة، ولقد فات على الذين قاموا بتوجيه انتقادات حادة لما ذكرته سابقا ما هو الفارق بين السندات وأذونات الخزينة، لذلك اختلطت عليهم الأرقام بالنسبة لاستثمارات الصين ومبالغ استثمارات الدول النفطية. وفاتهم أيضا كيف يستخدم مديرو المحافظ السندات وأذونات الخزينة للتنقل من الانكشاف طويل المدى إلى التحول نحو الانكشاف قصير المدى على المخاطر الأمريكية. وهذا ما تقوم به الصين في الوقت الراهن وبكل احترافية، والصينيون لديهم سبب جوهري لشراء السندات الأمريكية، وهو تخفيض سعر صرف اليوان الصيني، لكي تستمر صادراتهم تتدفق على الساحة الدولية، (الصين تأخذ مداخيل صادراتها من الدولار وتحولها إلى استثمارات في أمريكا ودول أخرى كأصول عقارية وشركات وسندات، وذلك لكي تتجنب ارتفاع قيمة سعر صرف اليوان).
تعليقات