'الاستبداد والطغيان والشمولية'

منوعات

حين يتجاوز واقعنا السياسي كل المعاني والترجمات

1087 مشاهدات 0


كتب-سعد بن طفلة العجمي

 تتردد كلمات 'الاستبداد والطغيان والشمولية' بكثرة في أدبياتنا السياسية هذه الأيام، ومع استمرار موجة 'الربيع' العربي، أصبحت هذه الكلمات الثلاث من أكثر الكلمات السياسية شيوعاً، إلى جانب كلمات الديكتاتورية والقهر والظلم والتعسف والتنكيل...الخ.

لكن المتفحص لهذه الكلمات الثلاث يجد أن الكلمتين الأوليين -الاستبداد والطغيان- قد تغير معناهما عبر التاريخ لينحصر حديثاً في توصيف الأوضاع السياسية أو وصف قائد أو رئيس في بلد ما، بينما جاءت كلمة الشمولية ترجمة غير دقيقة في البداية، ثم بدأت تفرض معناها الجديد المقصود بالترجمة، وتغيّر معناها لتصبح مرادفة للاستبداد والطغيان.

الاستبداد في اللغة مشتقة من بدد، وتعني فرّق، ومنها تبديد الشيء أي تفريقه، واستبد بالشيء، أي تفرّد به، ومن المؤكد أنها وسّعت في مجال معناها السياسي حديثاً، فليس من الشائع في الأدب القديم استخدامها سياسيّاً لتعني التفرّد بالسلطة، ولكن أصبحت لها حديثاً مدلولات سياسية عميقة، فكلمة الاستبداد اليوم تعني التفرد بالحكم والسلطة ومصادرة كل شيء في بلد ما، بل لعلها أصبحت شبه محصورة في البعد السياسي وحسب، كأن نقول استبد نوري المالكي بالسلطة بالعراق، فأمسك بالوزارات المهمة وهمّش شركاءه في العملية السياسية، فانفجر الوضع هناك.

ومنها اشتقت كلمة المستبد، وغالباً ما ترتبط كلمة الاستبداد بالظلم، فيقال 'ظالم مستبدُّ'، وهو من قال فيه الشاعر التونسي أبو القاسم الشابّي:

ألا أيها الظالم المستبدّ *** حبيب الظلام عدو الحياه

كما ترتبط كلمة الاستبداد في العصر الحالي إلى جانب الظلم بالطغيان، وهي كلمة وردت في القرآن الكريم 'اذهب إلى فرعون إنه طغى'، وتفسيرها الديني هنا أنه تجاوز كل الحدود في العصيان والكفر، والطاغوت هو الشيطان، والطغيان أو الطغوان هو تجاوز كل الحدود، كما يعني الصاعقة أو المصيبة لقوله تعالى 'فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية'.

ولكن الطاغية في لغة السياسة الحديثة تعني المستبد الذي تجاوز الحدود، كأن نقول في سوريا تجاوز القتل والتنكيل كافة الحدود، وصار حكمها مستبداً وطاغوتاً.

وقد وردت في كتاب شهير للمفكر إمام عبدالفتاح عنوانه 'الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي'، نشرته سلسلة 'عالم المعرفة' التي تصدر بالكويت، لعله واحد من أفضل الكتب التي توصف حالة الطغيان من منظور فلسفي.

وترد كلمة الشمولية بشكل متكرر في إعلامنا وأدبياتنا السياسية، وهي ترجمة لكلمة 'TOTALITARIAN'، ولكني أظنها ترجمة غير دقيقة، لأن كلمة الشمولية مشتقة من شمل، والشمول والشامل مدلولاتها إيجابية، فنقول 'شملهم بعطفه وكرمه'، أو 'شمل المسؤول الفلاني الحفل الفلاني برعايته'، والشمائل من المشتقات الحديثة لشمل بمعنى الخصال الحسنة، وشمل أي غطّى وضمّ، وشمالة الناقة، غطاء على ضرعها لكف وليدها عن رضاعتها، ومنها الشمال كجهة أو كريح، والشمول هي الخمرة الباردة وهكذا.

ولكن بالعودة لمشتق شمل السياسي -أي الشمولية- فإنها كلمة حديثة اشتقت كترجمة للإنجليزية، وهي ترجمة غير دقيقة إذا عرفنا أن معاني ومدلولات 'شمل' ليست سلبية دوماً، لكن كلمة الشمولية تتحول شيئاً فشيئاً إلى وصف الديكتاتوريات حصراً، فيقال نظام الحكم في البلد الفلاني شمولي، أي أن من في السلطة لا يسمحون لأي طرف كان مشاركتهم فيها، فهو نظام كلّي، ولعل ترجمة الاستبداد أفضل من الشمولية في هذه الحالة، وترجمة الطغيان بكلمة 'TYRANNY'.

الغوص في معاني كلمات الاستبداد والطغيان والشمولية التي تتردد على مسامعنا ليل نهار، يظهر لنا أن الكلمات بريئة من معانيها، فإذا كانت قاعدة علم معاني الكلمات تقول إنه 'لا علاقة منطقية بين الكلمة ومعناها'، فإن مفاهيم الطغيان والاستبداد في عالمنا قد فاقت كل معانيها، وتجاوزت حدود استيعابها.

الاتحادإيلاف

تعليقات

اكتب تعليقك