الازمة المالية التي تمر بها الولايات المتحدة قد تقضي على سيادتها للعالم برأي غسان العزي
الاقتصاد الآنديسمبر 2, 2011, 1:31 م 603 مشاهدات 0
في خطاب أمام نادي الصحافة الوطني في واشنطن في 2 إبريل/نيسان 1990 قال السناتور الأمريكي دافيد غورن “إن انهيار الاتحاد السوفييتي ربما يؤدي إلى انهيار الولايات المتحدة عما قريب” . وفي قوله هذا اعتمد على الأرجح على تحليل إدوارد ليتواك الذي شبّه القوتين العظميين وقتها بالملاكمين المنهكين اللذين يتكئ الواحد منهما على الآخر فإذا ما سقط أحدهما، فإن الآخر آيل إلى السقوط بعده .
بعد عشرين عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي تتخبط الولايات المتحدة في حبائل أزمات عسكرية وسياسية واقتصادية شبيهة إلى حد ما بما كان يعانيه خصمها الشيوعي مع اختلاف في الظروف الذاتية والموضوعية، على خلفية نظام دولي أضاع البوصلة والتوازن القديمين .
فقد قامت نهاية الحرب الباردة بتفكيك أسس النظام الدولي من دون أن تضع أسساً جديدة مكانها . قبل كل شيء أدت هذه النهاية إلى “عولمة العولمة” التي كانت تقتصر على المعسكر الغربي الليبرالي . ومع الدخول التدريجي للصين في اقتصاد السوق انطلاقاً من العام 1980 ثم مع زوال الإمبراطورية السوفييتية في العام 1991 عاد العالم، في مناحٍ عديدة، إلى ما كان عليه قبل مرحلة الحروب والثورات والانقطاعات في العام 1914 أي أنه عاد واحداً بعد انقطاع دام ثلاثة أرباع القرن .
وأضحت الولايات المتحدة فجأة ومن دون استعداد القوة الأعظم، ما أعطاها وضعية أو صفة لم تستحوذها إمبراطورية في التاريخ، لكن الكلفة المترتبة على ذلك يتبين اليوم كم هي باهظة . فخلال الحرب الباردة شكلت الولايات المتحدة نقطة تتقاطع عندها كل قوى العالم الحر، لكن بعد نهاية هذه الحرب وبسبب افتقادها إلى غريم دولي كبير، فإنها خسرت هذه الميزة والقدرة على جذب شركاء في المواجهة مع خصم واضح محدد وبالتالي فإنها خسرت من النفوذ والقدرة ما كسبته من وضعية القوة الأعظم . وكونها القوة الأعظم من دون منازع فإنها تسببت برفض وربما كراهية أولئك الذين يطمحون إلى توسيع هوامش حراكهم في الساحة الدولية . ثم إن وجودها على رأس النظام الدولي أجبرها على السهر للاحتفاظ بهذا المركز ليس فقط عن طريق مواجهة خصوم فعليين ومحتملين، بل عن طريق توقع واستباق بزوغ مثل هؤلاء الخصوم على المدى الطويل، ما تسبب لها بارتباكات على الساحة الدولية . ففي تعريفه للمصلحة الاستراتيجية في وثيقة صادرة عنه في
العام 2002 يرى البيت الأبيض إلى الصين خصماً مضمراً لهذه المصلحة .
وبمعزل عن فشلها في العراق فإن الولايات المتحدة فقدت الكثير من قدرتها على صياغة العلاقات الدولية . تنامي قوتها العسكرية بالتوازي مع اختفاء الاتحاد السوفييتي ترجم خسارة في المضمار الواقعي . فالتغير الكبير بعد الحرب الباردة الذي أشار إليه وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد هو “أن المهمة باتت تحدد الائتلاف”، ما يعني أنه في غياب العدو الواضح المعروف، كما كانت عليه الشيوعية إبان الحرب الباردة، فلا تهديد يجمع ما بين الدول الغربية أو تتهيكل حوله العلاقات الدولية .
وإذا كان الأمريكيون قد نجحوا، غداة 11 سبتمبر 2001 في تشكيل تحالف دولي في “حرب عالمية” على الإرهاب، وإذا كان شركاء الولايات المتحدة قد وافقوا معها على هذا العدو الجديد، إلا أن ذلك كان لوقت قصير، إذ إنهم عارضوا غزوها للعراق قبل غيرهم . ولم تنجح واشنطن في هيكلة العلاقات الدولية ضد إرهاب يتمتع بالسيولة والسرية، لأن الدول تحتاج إلى كبش فداء واضح ومحدد، الأمر الذي لا ينطبق على المنظمات الإرهابية المعاصرة التي لم تعد أدوات لدول وبالتالي لا تنضوي في حقل العلاقات الدولية (من دول) .
ومن المفارقات المثيرة أنه إبان الحرب الأمريكية على العراق، بقي التعاون الأمريكي- الفرنسي في أعلى مستوياته في مضمار مكافحة الإرهاب من دون أن يكون مؤشراً أو دليلاً على جودة العلاقات بينهما . هذا المؤشر كان يقبع في خلافهما على ما ينبغي فعله أو عدم فعله حيال دولة ثالثة هي العراق، وهذا الخلاف بالتحديد هو الذي وسم علاقتهما بالسوء والتردي في تلك المرحلة .
لقد تبين لرامسفيلد، بعد التجربة، كما كتب في مذكراته “أننا نعيش في عالم، حيث تتوالى الأزمات دون أن تشبه بعضها بعضاً، وحيث يلعب في مسارحها لاعبون متنوعون (دول وغير دول) مع طرائق عمل مختلفة” . وهكذا فإن تأرجح وضبابية العلاقات الدولية هي من أهم خصائص المرحلة الجديدة . فالدول واللاعبون من غير الدول الذين ينجحون في هذه البيئة الجديدة هم الذين يتمتعون بالليونة والحركية والقدرة على التكيف مع وضع أهداف واضحة لحراكهم، لكن تبدو الولايات المتحدة كجسم ثقيل كبير لايزال يعيش في الحقبة الكلاوزفيتزية، فتبني الجيوش وحاملات الطائرات وتضع أعلى الميزانيات الدفاعية في العالم قاطبة، من دون أن يعينها ذلك على كسب حرب واحدة بالمعنى السياسي أي بمعنى مقولة كلاوزفيتز بأن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى .
وهكذا بعد تجربة العشرين عاماً المنصرمة يمكن القول إن وجود الاتحاد السوفييتي ردع الولايات المتحدة عن مممارسة سياسات وشن حروب تسببت لها بخسائر مؤلمة . ففي الحرب الباردة تزعمت واشنطن نصف الكرة الأرضية من دون منازع واستحوذت على نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي وغيره، وقد تفتقد إليه، وربما تفقده تماماً إذا ما فشلت في حل المشكلة المالية التي تعصف بها اليوم .
تعليقات