لازال امام دول أوروبا أخر أفضل فرصة لحل الازمة الاقتصادية برأي مايكل بوسكين

الاقتصاد الآن

476 مشاهدات 0


كانت استقالة رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني سبباً في تسليط الضوء على الكيفية التي عملت بها اليونان وإيطاليا والعديد من الدول الأخرى لمدة طويلة على حجب المشاكل التي طال أمدها والتي واجهها القطاع العام المتضخم في هذه البلدان بسبب فوائد الضمان الاجتماعي الضخمة التي لم يعد من الممكن أن تستمر، والواقع أن الإصلاح الحقيقي بالنسبة إلى العديد من هذه البلدان أصبح الآن أمراً لا مفر منه.
لقد تم تصميم أنظمة التأمين الاجتماعي في أوروبا، وفي الولايات المتحدة واليابان ودول أخرى، في ظل ظروف اقتصادية وديمغرافية- زيادة سرعة النمو الاقتصادي، وتزايد عدد السكان، وانخفاض متوسط العمر المتوقع- تختلف تمام الاختلاف عن الحال اليوم، والواقع أن الحكومات (التركيز في الوقت الراهن على اليونان وإيطاليا، ولكن هناك دول أخرى تستحق نفس القدر من التركيز) أفرطت في بذل الوعود لأعداد أكبر مما ينبغي من الناس ولفترات طويلة للغاية، ولقد أشرت في كتابي الصادر في عام 1986 تحت عنوان “الوعود المفرطة” إلى نفس المشكلة فيما يتصل بنظام الضمان الاجتماعي في أميركا.
والآن تتجلى هذه المشكلة الجوهرية في ديناميكيات الدين غير المستدامة في هذه البلدان، وكانت عضوية اليورو، التي يسرت بشكل مؤقت اقتراض كميات هائلة من الأموال بأسعار فائدة منخفضة، سبباً في تفاقم المشكلة. والآن يشكل إصلاح فوائد الضمان الاجتماعي الحل الوحيد الدائم للأزمة في أوروبا، وإننا لنتمنى أن يصبح في الإمكان سد ثغرات تمويل الديون السيادية مؤقتاً وإعادة تمويل البنوك الأوروبية بمساعدة الحكومات الوطنية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، ومرفق الاستقرار المالي الأوروبي، ولكن هذا لن ينجح إلا إذا نجحت الإصلاحات البنيوية في جعل هذه الاقتصادات أكثر قدرة على المنافسة، ويتعين على هذه الدول خفض العبء الضريبي والحد من مدفوعات التحويل المتضخمة، ففي الوقت الحاضر تتجاوز أعداد المواطنين المستفيدين من الضمان الاجتماعي عدد هؤلاء الذين يعملون ويسددون الضرائب بالفعل.
ومن ناحية أخرى تعمل المخاوف في سوق السندات بشأن العجز المالي وديناميكيات الدين على دفع تكاليف اقتراض هذه البلدان إلى الارتفاع. هناك إذن ارتباط وثيق بين السياسات القصيرة الأمد والطويلة الأمد؛ وما لم يتم الجمع بين بديل مؤقت والإصلاح البنيوي الطويل الأجل، فإن وقوع كارثة أخرى مثل الكارثة الحالية- أو ربما أسوأ- سوف يصبح أمراً حتميا.
هناك ثلاثة عوامل أساسية تحدد كيفية تطور الديون السيادية لأي دولة: معدل النمو الاقتصادي؛ وتكاليف الاقتراض؛ ووضع الميزانية الأولي (صافي رصيد ميزانية أقساط الفائدة). فالدولة التي تتمتع بميزانية أولية منضبطة تتمكن من جمع القدر الكافي من العائدات لتغطية نفقاتها الحالية ولكن ليس فوائد ديونها المتأخرة، وتساعد عوامل مثل ارتفاع أسعار الفائدة، وتباطؤ النمو، وضعف وضع الميزانية الأولية في رفع مسار نسبة الدين، فإيطاليا تسدد الآن فائدة بنسبة 7% سنوياً على ديونها السيادية، في حين ينمو اقتصادها بنسبة 1% فقط، وهذا يعني أن إيطاليا تحتاج إلى فوائض أولية مستدامة وضخمة، ونمو أسرع كثيرا، وأسعار فائدة أقل كثيراً، لتجنب إعادة هيكلة الديون.
إن أي مسار معقول نحو جمع الفوائض الأولية الكافية من شأنه أن يعمل على خفض أسعار الفائدة، وفي الأمد البعيد، إذا تم تحقيق الفوائض الأولية من خلال التحكم بالإنفاق، فإن الزيادة في المدخرات الوطنية كفيلة بتعزيز الاستثمار والنمو، في حين قد تعمل زيادة معدلات الضرائب في الاتجاه المعاكس، ففي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية بلغ متوسط دعم الموارد المالية الناجح في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ما يعادل خفض خمسة إلى ستة دولارات في مقابل كل دولار من الزيادات الضريبية.
ويزعم بعض الخبراء، مثل رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق جان كلود تريشيه أن ضبط الأوضاع المالية سوف يكون توسعيا. وعلى وجه التحديد، سوف يؤدي ذلك إلى تعزيز الثقة، وهو ما من شأنه أن يعمل بالتالي على خفض أسعار الفائدة ومعادلة أي تأثير مباشر في الطلب، كما حدث في أيرلندا والدنمارك في ثمانينيات القرن العشرين، ولكن هذا أقل احتمالاً الآن، حيث شرع عدد كبير من البلدان في خفض العجز والديون في نفس الوقت، وحيث أسعار الفائدة على الديون غير السيادية منخفضة بالفعل، وحيث يمنع الاتحاد النقدي البلدان الأكثر تعثراً في منطقة اليورو- البرتغال وإيطاليا وأيرلندا واليونان وإسبانيا- من خفض القيمة في محاولة لاستعادة القدرة التنافسية.
وسوف يتطلب الأمر فوائض أولية ضخمة لسنوات عديدة من أجل تثبيت استقرار نسب الدين وخفضها تدريجياً إلى منطقة السلامة الاقتصادية أو أقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالي (تتجاوز النسبة في إيطاليا واليونان 100%). ولابد من البدء على الفور بتنفيذ برنامج طويل الأجل للإصلاحات، بينما تعمل التدابير الطارئة المؤقتة- شراء السندات بواسطة مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي- على توفير فرصة لالتقاط الأنفاس، ولكن إذا لم تكن الفوائض الأولية كافية، فإن التدابير المؤقتة لن تسفر إلا عن تأجيل اندلاع كارثة ديون حتمية. وهناك حسابات أكثر جوهرية تكمن في قلب معضلة الديون، فتحديد معدل الضريبة المطلوبة لتمويل فوائد الضمان الاجتماعي يعتمد على ثلاثة عوامل: نسبة الإعالة (نسبة المتلقين إلى دافعي الضرائب)؛ ونسبة الإحلال (نسبة الفوائد إلى متوسط الأجور)؛ ومعدل النمو الاقتصادي (معدل الإنتاجية بالإضافة إلى معدل النمو السكاني).
بعبارة أخرى، كلما كانت الفوائد الحكومية أكثر سخاءً واتساعا، كان المعدل الضريبي المطلوب أعلى، وسوف تؤثر هذه المشكلة الأساسية بشكل متزايد حتى في بلدان شمال أوروبا، على الرغم من مظهر القوة الاقتصادية والسلامة المالية الذي تتمتع به حاليا.
وفي الاقتصادات الأوروبية حيث معدلات الضرائب المرتفعة، فإن تحسين معدل الالتزام بالضرائب أو اتخاذ تدابير خاصة بجمع العائدات بشكل انتقائي لن يسفر إلا عن كمية ضئيلة من العائدات الضريبية الإضافية من دون تقويض النمو. إن خفض الإنفاق يُعَد الوسيلة الوحيدة لتحسين موقف الميزانية إلى حد كبير، ولكن هذا المسار سوف يكون صعبا، ففي العديد من الدول الأوروبية، تدفع الحكومات فوائد الضمان الاجتماعي لأغلبية من السكان.
والسؤال الأساسي الآن هو ما إذا كان رئيس الوزراء اليوناني القادم لوكاس باباديموس ونظيره الإيطالي ماريو بونتي، وكل منهما خبير اقتصادي محترم، يتمتعان بمهارات الزعامة اللازمة للإبحار عبر هذا البحر الهائج. والواقع أن مثالهما سوف يكون بمنزلة الاختبار لقدرة الديمقراطيات الأوروبية الأخرى، حيث يعتمد السكان بشكل كبير على فوائد الضمان الاجتماعي، على كبح جماح تجاوزات دولة الرفاهة.
الواقع أنه ليس بالتحدي المستحيل، فقد نظمت كندا تراجعاً كبيراً عن أسوأ تجاوزات دولة الرفاهة، حيث نجحت حكومات يسار الوسط ويمين الوسط على السواء في خفض حصة الإنفاق الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار ثماني نقاط مئوية في الأعوام الأخيرة، والآن تفكر العديد من الدول الأوروبية في رفع سن التقاعد المنخفض بشكل ملحوظ لديها، أو نفذت هذه الفكرة بالفعل. ونظراً للاتجاهات الديمغرافية فإن هذا قد يكون بمنزلة الفرصة الأخيرة السانحة أمام أوروبا لبناء أساس أكثر متانة لمستقبل أكثر ازدهارا.
تحضرني في هذا السياق، مقولة ونستون تشرشل الشهيرة عن أميركا: “بوسعك أن تعتمد على قيامها بالتصرف الصائب ولكن بعد استنفادها لكل البدائل الأخرى”. وإننا لنأمل أن تصدق هذه المقولة على أوروبا أيضا.

الجريدة

تعليقات

اكتب تعليقك