خص ((الآن)) بدراسة حول قرار المحكمة الدستورية

محليات وبرلمان

د.الحمود : قرار المحكمة يثير التساؤل حول مفهوم السياسة العامه للدولة والمسئولية

4236 مشاهدات 0

د.إبراهيم الحمود

خص الأستاذ الدكتور إبراهيم الحمود رئيس قسم القانون العام  كلية الحقوق – جامعة الكويت بدراسة حول تداعيات القرار التفسيري رقم (10) لسنة 2011 فى مفهوم المسئولية عن السياسة العامة للدولة والسياسة العامه للحكومة، وإليكم نص الدراسة :


تمهيد وتقسيم :-
   بتاريخ 20/10/2011 أصدرت المحكمة الدستورية الكويتية قرارها التفسيرى رقم '10' لسنة 2011 بشأن بيان مدى جواز توجيه استجواب لرئيس مجلس الوزراء عقب توليه منصبه مباشرة عن أعمال سابقة لصدور مرسوم تشكيل الوزارة .
ولقد ناقشت المحكمة مفهوم المسئولية السياسية لرئيس الوزراء أمام مجلس الأمة وقامت بالتمييز بين مصطلحين فى هذا السياق هما السياسة العامه للدولة والسياسة العامه للحكومة وجعلت هذه الأخيرة هى فقط التى تكون منظورة أمام مجلس الأمة ومن خلالها تتم مسائلة رئيس مجلس الوزراء فى حين ان السياسة العامه للدولة فإنها تضامنية أمام سمو الأمير وتنعقد حصرا لرئيس الدولة دون مجلس الأمة .
     وفى هذا التعليق لابد ان نستعرض موقف المحكمة الدستورية فى قرارها التفسيرى من موضوع المسئولية 'أولا' ثم نناقش إشكالية موقف المحكمة الدستورية(ثانيا).


أولا:-موقف المحكمة فى القرار التفسيرى .


طلبت الحكومة من المحكمة الدستورية تفسيرها فى الوقوف على مدى جواز توجيه استجواب لرئيس مجلس الوزراء عقب توليه منصبه مباشرة عن أعمال سابقة لصدور مرسوم تشكيل الوزارة .
ومن ثم بيان الأمور الداخلة فى اختصاص رئيس مجلس الوزراء التى يجوز توجيه استجواب له عنها وفقا للمادة '100' فى ضوء المواد '123' ، '127 ' .
ان المادة '58' من الدستور تنص على ان رئيس مجلس الوزراء والوزراء مسئولون بالتضامن أمام الأمير عن السياسة العامة للدولة .
فالمطلوب هوبيان ما تعنيه عبارة 'السياسة العامة للدولة' فى م '58 ' من الدستور ونص م '123' من الدستور التى تقضى بان مجلس الوزراء يرسم السياسة العامه للحكومة ،وذلك باستخدام دلالات النصين لتحديد مدى مسئولية رئيس الوزراء عن تلك الأمور فى أطار أحكام الدستور .
فى المقابل دفع مجلس الأمة بعدم  اختصاص المحكمة بنظر طلب التفسير مجردا دون ان يكون مرتبطا بمنازعة قضائية واحتياطيا عدم قبول الطلب .

رأى المحكمة  فى ان  اختصاصها فى  التفسير منوط بتحقق أمرين :-

1-    نص من النصوص الدستورية.
2-    ان يقوم خلاف حول هذا النص ناشئ عن تعدد تأويلاته فيما بين كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية او كل أعضاء كل سلطة على حدة اذن يتوجب قبول الطلب بسبب تحقق الخلاف وهو حاد ومستعصي على التوفيق ومن ثم الحاجة لتفسيره وأزاله الغموض والإبهام حول النص ضماناً لوحدة تطبيقه وسيادة الدستور فى البلاد .
اى انه وفقا لرأى المحكمة فانه لها وحدها سلطة قبول الطلب من عدمه لسد ذرائع الإفراط فيه من غير ضرورة .

ب- القوة الإلزامية للقرار :-

1- ان القرار ليس رأى مجرد غايته إثراء الفكر القانونى.
2- وإنما القرار للكشف عن دلالات النصوص الدستورية بمراعاة موضعها فى سياق باقى النصوص التى تتكامل معها وتحديد مفهومها تحديدا جازماً.
3- القرار ملزم للكافة ونافذ فى شان جميع سلطات الدولة .

ج- طبيعة التفسير :-

ان التفسير لا يندرج فى مفهوم الخصومة القضائية ولا يتبع فى شان نظره سمات التقاضى وإجراءاته وما يثار فيها من دفوع وطلبات .

د- أصل الخلاف محل التفسير:-

يبين المقصود من السياسة العامه للحكومة التى وردت فى م '123' من الدستور وعبارة السياسة العامه للدولة التى وردت فى م '58' من الدستور.

ووفقا لقرار المحكمة فانه:-

1- ترى الحكومة: ان مسئولية رئيس الوزراء لا تتسع لشمول أية أعمال تخص وزارات بعينها وان المسئول عنها هو كل وزير فالمسئولية السياسية تقع بصفة أساسية على عاتق الوزراء فرادى .
2- ان المسئولية التضامنية لرئيس الوزراء والوزراء عن السياسة العامة للدولة تكون أمام سمو الأمير ووفقا للمادة '58' من الدستور.
3- ان عبارة السياسة العامة للحكومة الواردة فى المادة '123' تثير اللبس والغموض والتداخل مع عبارة السياسة العامه للدولة الواردة فى المادة '58 ' من الدستور .
وعلى ذلك فان هذا هو مناط الخلاف الذى يحتاج لتفسير لتحديد نطاق وحدود مسئولية رئيس الوزراء السياسية أمام مجلس الأمة .
وفى المقابل فان مجلس الأمة يذهب الى  ان العبارتين لهما معنى واحد وان مسئولية رئيس الوزراء أمام مجلس الأمة تشمل جميع المسائل التى كانت لأهميتها موضوع بحث مجلس الوزراء او كان المفروض بها ان تكون موضوع بحثه.
وأمام هذا النزاع فى فهم النصوص فان المحكمة ترى وجود التبرير الدستورى الذى يؤدى الى أهمية وضرورة طلب التفسير لاعتصام كل سلطة برأيها وان هذا الخلاف يرجع الحكم فيه لنصوص الدستور الأمر الذى يوفر مناط قبوله.

هـ- الحيثيات :- بينت المحكمة طبيعة النظام الديمقراطي الذى تبناه المشرع الدستورى فقام الحكم على إيراد نصوص من المذكرة التفسيرية ، وحددت المحكمة مفهوم الاستجواب وانه فرع من المسئولية الوزارية وفقا للدستور ومذكرته التفسيرية .

و- اختصاصات رئيس مجلس الوزراء :-


1- رئيس مجلس الوزراء يرسم السياسة العامه للحكومة مع باقى الوزراء.
2- أمامه أمور جسام تستدعى اهتماما خاصا وجهودا متواصلة لا يكون له مواصلتها إلا إذا تفرغ لأعمال رئاسة مجلس الوزراء .

ز- ينحصر استجواب رئيس الوزراء فى مجال ضيق هو :-

1- حدود اختصاصه فى السياسة العامه للحكومة إذ هو يتكلم باسم مجلس الوزراء ويدافع عن هذه السياسة أمام مجلس الأمة .
2-لا يتعدى استجوابه اى أعمال تنفيذية تختص بها وزارات بعينها او اى عمل لوزير أخر وإلا كانت مسئوليته عن كل الوزارات والأعمال وهذا ما يتعارض مع أحكام الدستور ويؤدى لسيل جارف من الاستجوابات.
3- المسئولية السياسية أمام مجلس الأمة تكون على الوزراء فرادى وهى على الأعمال لا الأشخاص .


4- ان مسئولية رئيس الوزراء :-

 بالتضامن أمام الأمير عن السياسة العامه للدولة وفقا للدستور فى مادته'58'  وأن الدستور فرق بين السياسة العامه للحكومة والسياسة العامه للدولة.

ص-أساس التفسير :-

- ان القرار التفسيرى فى التفريق بين المسئولية عن السياسة العامه للدولة والسياسة العامه للحكومة تم تفسيره من : المذكرة التفسيرية للدستور والأعمال التحضيرية ومناقشات المجلس التاسيسى أبان إعداد الدستور فى مراحله الأولى التى تؤكد هذا الفرق بين المسئوليتين عن السياسة العامه للدولة والسياسة العامه للحكومة .

- ان التفسير يقوم كذلك على العرف.
-ان اختلاف النصان فى الحكم والسبب يؤدى الى ان يكون لكل واحد منهما مفهوم خاص به وفقا لقواعد وأصول التفسير إذ لا تحمل النصوص على غير مقاصدها ولا تفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها او يؤدى الى الالتواء بها عن سياقها .
-فهناك اذن بين النصين  اختلاف فى المعنى والدلالة .

ط- تفسير العبارات :-

1- عبارة السياسة العامه للدولة الواردة فى المادة '58' اعم واشمل من عبارة السياسة العامه للحكومة الواردة فى المادة '123' من الدستور فالحكومة تعنى الوزارة وهى الهيئة التى يتشكل منها مجلس الوزراء وهى سياسة مؤقتة على خلاف السياسة العامه للدولة فهذه ، سياسة تتسم بقدر من الثبات لمدة طويلة وهى تتعلق بطبيعة الدولة وحاجاتها العامه ومصالحها العليا وسلامتها فى الداخل والخارج وحفظ النظام والعدالة اى ممارسة وظائفها العامه .
2- السياسة العامه للحكومة متغيرة بتغير الوزارة التى يرسمها مجلس الوزراء وهى الإطار العام الذى تتخذه الحكومة نهجاً لها فى توجيه العمل الذى تسير على خطاه وزارات الدولة ومصالحها وما تنوى النهوض به ومشروعاتها وخططها وما يورد فى برنامج عمل الحكومة .
* المسئولية التضامنية أمام الأمير والتى تشمل التبعية فيها الوزراء جمعياً لا تتسع للسياسة العامه للدولة فحسب بل تشمل السياسة العامه للحكومة أيضا.

الخلاصة:- لعضو مجلس الأمة الحق فى استجواب رئيس مجلس الوزراء فيما يدخل فى اختصاصه وللعضو ان يتخير الوقت المناسب لتوجيهه ولكن ذلك منوط بان يكون محل الاستجواب هو السياسة العامه للحكومة المراد استجواب رئيس مجلس الوزراء فيها قائمه ومستمرة باعتبار أنها هى التى تهم المجلس للحكم لها او عليها .

القرار :-

1- ان الاستجواب لرئيس مجلس الوزراء ينحصر نطاقه فى حدود اختصاصه فى السياسة العامة للحكومة دون ان يتعدى ذلك اى استجواب عن اى أعمال تنفيذية تختص بها وزارات بعضها او اى عمل لوزير فى وزارته .
2- ان المسئولية السياسية لدى مجلس الوزراء إنما تقع على الوزراء فرادى.
3- استعمال عضو مجلس الأمة لحقه فى الاستجواب لرئيس الوزراء فيما يدخل فى اختصاصه منوط بان تكون السياسة العامه للحكومة المراد استجوابه فيها قائمه ومستمرة .

ثانيا :- إشكالية موقف المحكمة فى القرار التفسيرى.

ان القرار التفسيرى رقم '10' لسنة 2011 بتاريخ 20/10/2011 يثير الملاحظات التالية :-

أ‌- الاختصاص فى التفسير.


ترى المحكمة ان اختصاصها فى التفسير إنما هو اختصاص أصيل يستمد من الدستور مباشرة وينظم هذا الاختصاص قانون إنشاء المحكمة الدستورية، كما رأت المحكمة بان اختصاصها فى التفسير قد أيده العرف الدستورى بحسبانها قد استقرت على عملها فى تفسير نصوص الدستور منذ  أكثر من أربعين عاماً وقد تكاملت أركان العرف التفسيرى من خلال هذا الاستعمال والاطراد فيه وإلزام السلطات به دون انقطاع .

ومما لا شك فيه ان المحكمة الدستورية فى قرارها التفسيرى رقم 3 لسنة 1986 قد بينت اختصاصها فى تفسير نصوص الدستور مستندة على نص المادة ' 173' من الدستور التى عينت الجهة القضائية المختصة بالفصل فى المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين ورأت المحكمة ان هذه العبارة تدخل فيها المنازعة فى فهم النص الدستورى وطلب تفسيره وأسست المحكمة الدستورية قرارها على الاختلاف فى صياغة عبارات نص المادة '173' من الدستور التى استخدمت تارة عبارة (المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) وتارة أخرى استخدمت عبارة (الطعن لدى تلك الجهة فى دستورية القوانين) وان العبارة الأولى تدل – فى رأى المحكمة – بان المشرع الدستورى قصد اختصاص المحكمة فى تفسير نصوص الدستور .
كما استندت المحكمة فى إسناد اختصاصها التفسيرى على ما جاء فى المذكرة التفسيرية للدستور فى تعليقها على المادة '173' من الدستور بقولها '...وانه ' اى المشرع الدستورى ' يترك لها القيام على وضع التفسير القضائى الصحيح لأحكام القوانين وفى مقدمتها الدستور ، قانون القوانين ' ورأت المحكمة بان المشرع الدستورى أراد ان تكون المحكمة الدستورية هى الجهة التى يوكل إليها أمر تفسير ما غمض من نصوص الوثيقة الدستورية.

ولا غرابة فى ان المحكمة الدستورية قد تمسكت بنهجها المتواتر فى تأكيد اختصاصها بالتفسير وان هذا الاختصاص يجد معينة فى نص المادة '173' من الدستور ويدعم هذا الأصل الثابت ما استقر من عرف دستورى متواتر يقترب من أربعين عاما على إنشاء المحكمة الدستورية .
ونحن نرى بان الاختصاص فى التفسير يجد حده فى القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية حيث بينت المادة الأولى من هذا القانون اختصاص المحكمة فى التفسير .ومن ثم يكون الاختصاص معقود للمحكمة ما دام هذا القانون قائم .

ب‌- القيمة القانونية للقرار التفسيرى .

لقد أكدت المحكمة الدستورية بان القرار التفسيرى الذى يصدر عن المحكمة إنما هو قرار ملزم لكافة السلطات وان القرارات التفسيرية كذلك هى ملزمة بحسبانها ليست أراء فقهية مجردة ذات غاية محددة لإثراء الفكر القانونى.

ان القرار التفسيرى هو بقصد الكشف عن دلالات النصوص الدستورية محل التفسير وانه يتعين فى التفسير مراعاة موضوع النص فى سياق باقى النصوص التى تتكامل معها وتحديد مفهومها بشكل قاطع وجازم من اجل حسم كل خلاف حولها وعلى ذلك فان القرار التفسيرى وهو يقطع دابر ا لخلاف حول فهم النص يكون ملزماً للكافة ولجميع السلطات دونما استثناء وله قوة تنفيذية  فى ذلك .
وفى حقيقة الأمر والواقع ان التسليم بحجية القرار التفسيرى حجية مطلقة من شانه ان يعطى معنى محدد للنص الدستورى قد لا يكون هو قصد المشرع الدستورى ،والدفع بهذه الحجية من شانه ان يسبغ فهما جديدا للنص الدستورى لا سيما وان التفسير لنصوص الدستور كاختصاص مستقل للمحكمة لا يجعل من التفسير منطبقا على واقعة معينة او على نص قانونى طعن بعدم دستوريته ومن ثم يتم التفسير بمناسبة أعمال النص وتحديد نطاق النص الدستورى وحدوده وضوابطه او تفسير النص لحسم الخلاف الذى يثور بمناسبة الطعن بتشريع بعدم دستورية .

ونحن نرى بان القرار التفسيرى وقد أصبحت المحكمة مختصة بالتفسير وفقا لقانون إنشاءها إنما هو رأى من القضاء لنص دستورى فى ضوء نصوص الدستور وأعمال هذا المفهوم لحسم خلاف احتدم من قبل سلطة من السلطات العامه او بين هذه السلطات فى فهم نص وتحديد عباراته ومراميه .
والقول بغير ذلك يكون من شانه تعديل الدستور بإضافة معاني جديدة للنصوص قد لاتكون هى مقصد المشرع الدستورى من ناحية كما ان القوة الملزمة للقرار التفسيرى من شانها ان تمنع اى تفسير فى المستقبل للنص الدستورى الذى تم تفسيره من ناحية ثانية .

ومما لا شك فيه ان مسالة التفسير لنصوص الدستور تثار باستمرار لا سيما فى معرض الطعن بعدم دستورية تشريع عادى ،إذ انه فى هذه الحالة سوف يقوم القاضى الدستورى بتفسير النص الدستورى من جديد لحسم الخلاف الذى يثور حول التشريع العادى المطعون فيه ،فان كان هناك قرار تفسيري سابق فهل يمكن للقاضي الدستورى تغيير التفسير او تعديله .

ان الإجابة هى قطعا بالنفي إذ ان التفسير السابق كان تفسيرا عاما مجردا يتعين تطبيقه على كل الحالات الجزئية وإذا افترضنا تغيير القاضى الدستورى لقراره التفسيرى فى الواقعة محل النزاع فان ذلك يعنى وجود أكثر من تفسير دستورى لذات النص مما يؤدى الى إثارة النزاع والخلاف حول مفاهيم النصوص الدستورية .

وعلى ذلك فإننا نرى للسلطتين التنفيذية والتشريعية الخيار فى تبنى القرار التفسيرى او عدم تبنيه لا سيما وانه ليس بحكم دستورى وفقا للمادة '173' من الدستور .

ج- مناط الخلاف محل التفسير :-

ان النصوص محل التفسير هى المواد (123، 127 ، 100 ، 58 ) من الدستور فى ضوء تحديد مفهوم مسئولية رئيس مجلس الوزراء ونطاق وحدود هذه المسئولية السياسية أمام مجلس الأمة .
ففى حين ترى الحكومة ان المسئولية لرئيس الوزراء لا تشمل أية أعمال تخص وزارة بعينها حيث تنهض فى هذه الحالة مسئولية الوزراء فرادى و ان المسئولية السياسية له تنحصر فى السياسة العامه للحكومة ،يرى المجلس ان مسئولية رئيس الوزراء تشمل السياسة العامه للدولة وانه لا فرق بين هذه المسئولية السياسية والمسئولية عن أعمال الحكومة .

ومن ثم فان الخلاف المستحق للتفسير هو حسم الجدل حول تحديد مفهوم المسئولية السياسية لرئيس الوزراء وهل تشمل السياسة العامه للدولة أم السياسة العامه للحكومة .

د- منهج التفسير :-

اتبعت المحكمة منهج التفسير التحليلي من خلال استقراء نصوص الدستور مجتمعة للوقوف على حقيقة الفهم الصحيح لعبارات نصوص المادتين 58 ، 123 من الدستور ورأت بان تحليل النصوص يقتضى وجود الاختلاف فى معاني ومرامي كل نص على حده .

وان نص المادة '123' يجعل من رئيس الوزراء الراسم للسياسة العامه للحكومة وينقطع لأعمال رئاسة الوزراء فمسئوليته محدده حيث ان المسئولية السياسية لأعمال الحكومة تقع على كل وزير عن عمل وزارته فهى مسئولية فردية.

وان التفسير لهذه المسئولية يستمد بحسب رأى المحكمة من المذكرة التفسيرية للدستور عن شرحها طبيعة النظام الديمقراطي فى الكويت وكيف انه قد وضع مجموعة من الاجراءات والعقبات لإثارة هذه المسئولية .

ان المسئولية السياسية عن عمل الحكومة ليست هى المسئولية عن السياسة العامه للدولة فهذه المسئولية الأخيرة تجد حدها فى المادة '58' من الدستور التى يكون رئيس مجلس الوزراء والوزراء مسئولين بالتضامن أمام سمو أمير البلاد.

ان الأعمال التحضيرية ومناقشات المجلس التاسيسى لهذين النصين –فى رأى المحكمة – تقطع باختلاف مفهوم المسئولية عن السياسة العامه للدولة عن السياسة العامه للحكومة .

ورأت المحكمة فى ان قواعد التفسير تقتضى هذا الاختلاف فى المفهوم نظرا  للاختلاف فى حكم كل نص وسببه فالقصد فى النصين مختلف لاختلاف العلة والسياق .ان المعنى يختلف ولكل نص دلالته الخاصة وموضع تطبيقه ومجال أعماله .

فالمسئولية عن السياسة العامه للدولة وهى المعنية بنص المادة ' 58' من الدستور تكون أمام سمو الأمير ويقصد بها المسئولية عن الثوابت الكبرى فى الدولة اى الإطار العام للنظام الديمقراطي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي .

وهكذا نرى بأنه وفقا لرأى المحكمة ان طبيعة دور الدولة ومفهوم هذه الطبيعة من خلال حماية الحاجات العامه الأساسية للمجتمع هى سياسة الدولة فحفظ الأمن الداخلى والخارجى وتحقيق العدالة والعلاقات الدبلوماسية والدولية هى السياسة العامه للدولة وهى المعنية فى نص المادة '58' من الدستور وهى تتسم بقدر من الثبات والاستقرار .
ان هذا المفهوم للسياسة العامه للدولة – فى نظر المحكمة – يختلف عن السياسة العامه للحكومة، فالحكومة هى الوزارة التى يرسم سياستها رئيس الوزراء والوزراء وهى سياسات اّنية عمرها محدد بعمر الوزارة وبرنامجها وما تنتهجه من خطط تسير بمقتضاها أثناء فترة ولايتها وهى تشمل حتما توجهاتها ومشروعاتها وخططها المتفق عليها فى مجلس الوزراء وتكون مسئولة عنها أمام مجلس الأمة .
ان العرف الدستورى من مصادر التفسير فى رأى المحكمة –وقد  استقر العرف على تحديد مفهومان مختلفات للمسئولية عن السياسة العامه للدولة والسياسة العامه للحكومة فالسياسة العامه للدولة تعنى المفاهيم الأساسية التى تقوم عليها الدولة فى نظامها الاقتصادى والاجتماعي والسياسي .ففى النظام الاقتصادى فان السياسة العامه للدولة تعنى تبنى النظام الراسمالى من حيث المبدأ ومن ثم المحافظة على الملكية الخاصة ورأس المال كمقومات أساسية للنظام الاقتصادى مع اعتبار العمل المفهوم الثالث لهذا النظام .

ومن ثم فان إخلال الحكومة بمقومات النظام الاقتصادى يؤدى الى مسئوليتها أمام سمو الأمير فعدم اعتبار الحكومة للحق فى الملكية الخاصة او الاتجاه نحو تقييد رأس المال وحرمانه من الادخار او الاستثمار يعتبر مساس بالسياسة العامه للدولة .
كذلك يعتبر من ضمن المساس بالسياسة العامه للدولة فى المجال الاقتصادى محاربة القطاع الخاص لمصلحة القطاع العام او بالعكس بحسبان قيام النظام الاقتصادى على التعاون العادل بين القطاعين العام والخاص .
ان السياسة العامه للدولة فى المجال الاجتماعي يقصد بها القواعد الكلية فى تامين الأسرة وقيام التامين الاجتماعي وتحقيق الرعاية الصحية والتعليمية للمواطنين ومن ثم فان تفريط الحكومة بهذه السياسة من خلال إهمال الرعاية الصحية مثلا وعدم الاهتمام بالتعليم  العام يثير مسئولية الحكومة عن السياسة العامه للدولة أمام سمو الأمير .

وفى مضمار السياسة العامه للدولة فى المجال السياسى فان التمسك بعروبة دولة الكويت والانحياز لأعداء الأمة العربية يعتبر أخلال من الحكومة بالمسئولية السياسية للدولة ومن ثم اختلال فى السياسة العامه للدولة وتثور من ثم مسئولية الحكومة أمام سمو الأمير وفقا للمادة'58' من الدستور .

وهذه فى رأينا أمثلة لما تعنيه المحكمة الدستورية فى تفسيرها لمفهوم السياسة العامه للدولة .
ان هذا الفهم منطقي فى التمييز بين السياسة العامه للدولة والسياسة العامه للحكومة فقد تكون السياسة العامه للحكومة وهى النابعة من برنامج عمل الحكومة وخططها وتصورها خلال فترة توليها الوزارة مغايرة للسياسة العامه للدولة .فقد تظهر حكومة تنحاز للنهج الاشتراكي المتشدد فتعصف بحقوق الملكية الخاصة وتقيد رأس المال وتقضى على القطاع الخاص لمصلحة ولحساب القطاع العام وقد يكون هذا هو برنامج عمل الحكومة ويؤيدها فيه مجلس الأمة او على الأقل تؤيدها فيه الأغلبية.

وقد يكون برنامج عمل الحكومة ومن ثم سياستها فى فتح العلاقات مع أعداء الأمة العربية فتتجه الحكومة الى التعاون مع الدول المعادية للأمة العربية وشعوبها فهذه سياسة عامه للحكومة ولكنها حتماً مخالفة للنهج العروبى الذى يقوم عليه النظام السياسى للدولة .

وقد يكون برنامج عمل الحكومة وسياستها وخططها تقوم على الانفتاح المطلق لهيمنة القطاع الخاص فتقدس الفرد وحرياته على حساب مفاهيم التضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص فهذه سياسة عامه جديدة للحكومة ولكنها حتماً ضد مفاهيم الرعاية الاجتماعية التى تضمنها السياسة العامة للدولة .
ففى الأمثلة السابقة تختلف السياسة العامة للدولة عن السياسة العامه للحكومة بحسب مفهوم التمايز الذى وضعته المحكمة الدستورية فى قرارها التفسيرى رقم 10 لسنة 2011 .

وفى الواقع العملى فان مخالفة السياسة العامه للحكومة للسياسة العامه للدولة تثير الاستغراب إذ يتعين قيام الأولى لتنفيذ الثانية ،فالحكومات تقوم بسياستها فى إطار السياسة العامه للدولة ولا يمكنها مخالفتها ،بل ان السياسة العامه للدولة وهى قوة مستكينة لا حراك فيها تبعث فيها الحياة بواسطة السياسة العامه للحكومة فهى التى تنقلها من حالة السكون الى حالة الحراك والحياة والتفاعل .

وقد يبدو ان اختلاف المسئولية عن السياسة العامه للدولة والسياسة العامه للحكومة تقيم التوازن  فى تأصيل النظام الديمقراطي الكويتى ذو الطبيعة الاورليانية وتجعل من رئيس الدولة – سمو الأمير – مؤسسة سياسية حاكمة،وتجعل منه المحافظ الكبير والنهائي عن الأطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تبناها الدستور وتلك التى يتعين ان تتماشى معها السياسة العامه للحكومة.
فسمو الأمير يستطيع بحسب هذا المفهوم ان يلزم كل حكومة بالمحافظة على هذه الأطر وترجمتها فى برامجها ومشاريعها تحت طائلة المسئولية .

هـ- نتيجة التفسير :-


ان المسئولية عن السياسة العامه للدولة تضامنية أمام سمو الأمير فقط وهذه المسئولية تشمل السياسة العامه للحكومة ولكن هذه الأخيرة لا تشملها فى حين ان المسئولية عن السياسة العامه للحكومة تكون أمام مجلس الأمة وهى محدودة بقدرها اى فيما يدخل فى اختصاص رئيس الوزراء بالنسبة لمسئوليتة وبشرط ان تكون هذه السياسة قائمه ومستمرة وإلا انحسرت هذه المسئولية.
ان التفسير الذى اعتنقته المحكمة الدستورية يثير التساؤل حول مفهوم السياسة العامه للدولة والمسئولية عنها وحصر هذه المسئولية أمام سمو الأمير وعدم خضوعها للرقابة السياسية لمجلس الأمة .

ان سمو الأمير بحسب النظام الدستورى الكويتى ذاته مصونة لا تمس ويمارس سلطاته بواسطة وزراءه ،وان رئيس الوزراء يحافظ على السياسة العامه للدولة وهو مسئول عنها وهى الإطار العام لاى سياسة للحكومة فلا يمكن للسياسة العامه للحكومة إلا ان تستند على السياسة العامه للدولة وتقوم بتنفيذ هذه السياسة من خلال برنامج عمل الحكومة .

ان سياسة عمل الحكومة والسياسة العامه للدولة وجهان لعملة واحدة فمن خلال السياسة العامة للحكومة يتم التقيد والالتزام بالسياسة العامه للدولة وفى إطار هذه الأخيرة تعمل الحكومة وتحقق مشاريعها وخططها وبرنامج عملها .

الآن:الدكتور إبراهيم الحمود رئيس قسم القانون العام كلية الحقوق – جامعة الكويت

تعليقات

اكتب تعليقك