ماجد منيمنه يحلل الوضع الاقتصادي في لبنان
الاقتصاد الآنأكتوبر 29, 2011, 10:38 ص 1007 مشاهدات 0
يشهد الوطن سلسلة من الإضرابات التي كان آخرها إضراب عام شمل المدارس والثانويات الرسمية والخاصة والجامعة اللبنانية، والذي انضمت إليه رابطة موظفي الدولة بدعوة من هيئة التنسيق النقابية، تحت شعار الرفض القاطع لقرار مجلس الوزراء بتصحيح الأجور، ورفض سياسة المكرُمات والمبالغ المقطوعة· وإننا نرى أن مثل هذا المشروع لرفع الأجور، من دون دراسة جدوى، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار المصاريف في زيادة الرواتب التي سوف يتكبّدها القطاع الخاص، هو قرار تخريبي للاقتصاد الوطني، لما سوف ينتج عنه من بطالة مؤكدة، وفوضى عارمة في الأسواق المالية، وتضخم اقتصادي سوف يُرخي بثقله على الأسواق المالية والنقدية، مما سوف يُنقص من الناتج المحلي، ويدفع النمو نزولاً عند نسب غير مرجوة·
ويُعرف التضخم على أنه ظاهرة اقتصادية تتمثل بارتفاع الأسعار الناجمة عن اختلال في التوازن بين العرض للسلع والخدمات والطلب عليها· وهذا يعني خلق فجوة بين العرض المتاح من السلع والخدمات والطلب المقترن بالقدرة على الشراء والذي يزيد عن العرض المتاح·
كما أن القوانين الاقتصادية تُوضح أن زيادة الطلب على السلع والخدمات عن العرض تؤدي إلى زيادة الأسعار، التي تعد المؤشر التقليدي على حدوث ظاهرة التضخم في أي اقتصاد·
والتضخم يمكن تعريفه كذلك على أنه نسبة التغير في أسعار المستهلكين، وفي هذه الحالة فإن الأجور عامة تنمو بنسبة غير متساوية، بحيث تنمو الأجور العالية أسرع من الأجور المتدنية· والتضخم أيضاً هو انخفاض في قيمة النقد، فعندما تزداد كمية النقد التي يتداولها الناس بسرعة أكبر من تزايد المنتوجات التي يستطيعون اقتناءها فإن العملة تفقد من قيمتها· كما أن مصدر التضخم يكمن في ارتفاع الطلب بسرعة أو انخفاض العرض بنفس الدرجة أو في كلاهما، فعندما يتجاوز نمو الأجور نسبة زيادة الإنتاجية، أو عندما ترتفع تكلفة استيراد المواد الأولية، كالنفط أو عوامل الإنتاج كرأس المال، فإن مؤشر التضخم يرتفع بسرعة· فهذه الظاهرة لها إذاً صلة كبيرة بالاستهلاك والإنتاج من جهة، وبالسياسة النقدية من جهة أخرى· التضخم هو مفهوم نسبي، فالأسعار إذا بلغ ارتفاعها مستوىً معيناً فإنه يصبح تضخمياً، وعندما يستمر الارتفاع بصورة دائمة، أو عندما لا يوازي نمو الأجور والرواتب ارتفاع الأسعار فتضعف بالتالي قدرة الشراء·
ومن هنا، نرى أن من أكبر آثار التضخم هي عندما تفقد النقود أهم وظائفها، كونها مقياساً للقيمة ومخزناً لها، فكلما ارتفعت الأسعار تدهورت قيمة النقود، متسببة بذلك في اضطراب المعاملات بين الدائنين والمدينين، وبين البائعين والمشترين، وبين المنتجين والمستهلكين، فتشيع الفوضى داخل الاقتصاد ويلجأ الناس إلى بديل عن عملتهم المحلية· والتضخم أيضاً له آثار اجتماعية لأنه يعيد توزيع الدخل القومي بين طبقات المجتمع بطريقة غير عادلة، فالمتضررون منه هم بالدرجة الأولى أصحاب الأجور الثابتة والمحدودة والمتقاعدون الذين لا تطالهم قوانين تصحيح الأجور، والذين تدهورت مداخيلهم لكونها ثابتة في أغلب الأحيان، وتغيّرها يحدث ببطء شديد، وبنسبة أقل من نسبة ارتفاع المستوى العام للأسعار· كما أن المدخرين لأصول مالية، كالودائع طويلة المدى بالبنوك، كثيراً ما يتعرضون جرّاء التضخم لخسائر كبيرة بسبب التآكل في القيمة الحقيقية، بينما تحظى المدخرات في الأراضي والعقارات والمعادن الثمينة بالفائدة·
ومن آثار التضخم على الاقتصاد أيضاً، تدهور قيمة العملة في سوق الصرف، واختلال ميزان المدفوعات، حيث تتعرّض الصناعة المحلية إلى منافسة شديدة بسبب المنتجات المستوردة، فينجم عن ذلك تعطيل للطاقات وزيادة في البطالة وانخفاض في مستوى المعيشة·
من هنا، نرى أن مهمة البنك المركزي تتركز أساساً في تحقيق استقرار الأسعار على المدى المتوسط والطويل من دون التسبب بركود تنتج عنه بطالة· فدوره هنا يتلخص في تحديد الجرعة الكافية من الكتلة النقدية للحفاظ على النمو الاقتصادي مع استقرار الأسعار· كما أن لوزارتي المال والاقتصاد أدواراً فاعلة لكي تبقيان على القوة الشرائية للعملة النقدية الوطنية، وأن لا تصل الأسعار في ارتفاعها إلى أرقام فلكية، وتزداد سرعة دوران النقود، وتعطل وظيفة النقود كمخزن للقيمة الحقيقية للعملة الوطنية، وأن لا تستخدم كوسيط للتبادل فقط· وتُعدّ السلطات النقدية والمالية في الدولة هي المسؤول الأول عن حدوث التضخم الجامح والمدمر، لأنها تستسلم لدورة التسارع في التضخم من خلال قيامها بإصدار النقود بلا غطاء فعلي لدورة الإنتاج· وتبقى هذه السلطات هي التي تملك سلطة اتخاذ القرار، وتملك استخدام الأدوات المالية والنقدية الكفيلة بمحاربة التضخم والسيطرة عليه· كما أن على هذه السلطات أن تُجنّب أصحاب الدخل المحدود الذين يتأثرون بالآثار السلبية للتضخم، وذلك بسبب انخفاض الدخل الحقيقي الذي يحصلون عليه نظراً لارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية للوحدة النقدية·
والمعروف أيضاً أن ارتفاع الأسعار سيؤدي إلى انخفاض الاستهلاك الحقيقي لذوي الدخل المحدود، وبخاصة العمال الذين يحصلون على أجورهم من العمل اليومي أو الموظفين من الفئات الدنيا، لذلك سيكون من الصعب الشديد على العمال زيادة أجورهم النقدية لتعويض الارتفاع في الأسعار وزيادة تكاليف المعيشة، وإذا حصل العمال على زيادة الأجور سيؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف المتغيّرة للإنتاج، لذلك سيحاول المستثمر أو صاحب العمل زيادة الأسعار من جديد، وعلى حساب المستهلك، وهذا يؤدي إلى زيادة التضخم، فزيادة الأسعار تؤدي بدورها إلى زيادة تكاليف المعيشة، فيُطالب العمال بأجور أعلى، وبهذه الطريقة يحدث السباق بين الأجور والأسعار وتكتسب عملية الارتفاع التضخمي في الأسعار قوة دافعة· وإذا استمر ذلك فإنه سيؤدي إلى حدوث التضخم الجامح، الذي يمثل سباقاً محموماً بين الأجور والأسعار·
فإذا ارتفع مستوى الأسعار بصورة فجائية وسريعة، سيكون المتضرّر من جراء ذلك الفئة الوسطى وأصحاب الدخل الثابت، لأنهم سوف يشترون بدخلهم سلعاً وخدمات أقل من ذي قبل· ويستفيد من ارتفاع مستوى الأسعار فئة رجال الأعمال والمنظمون وذلك بسبب ارتفاع أسعار منتجاتهم، لأن الأجور في الشركات الخاصة مثلاً تكون محددة باتفاقيات لا يمكن أن تعدّل فوراً، وكذلك مصاريف الإيجار والفائدة تظل أيضاً كما هي· أما الفئة التي تحصل على دخلها لقاء عملها فإنها تخسر عندما ترتفع الأسعار، لأن أجورهم لا ترتفع بالتناظر مع الأسعار، مما يؤدي إلى انخفاض أجورهم الحقيقية·
ويتضح أثر التغيير في الأسعار على المدينين والدائنين وفقاً لما يلي، عندما ترتفع الأسعار، يستفيد من ذلك المدينون لأن الديون تسدد عن طريق بيع السلع والخدمات· وفي حال كون المدين منتجاً، فإنه يتنازل عن كمية أقل من إنتاجه لسداد مبلغ معين من الدين· وفي حال كون المدين عاملاً، فإن كمية العمل اللازمة لسداد دين معين ستكون أقل في حال ارتفاع الأسعار· أما في حال انخفاض الأسعار فإن المدينين يخسرون، لأن عليهم تخصيص كميات أكبر من السلع والخدمات لسداد دين معين· ويكسب الدائنون لأن النقود التي يستردونها ستمكنهم من شراء كميات من السلع والخدمات أكثر مما كانت تشتري حين إقراضها· وكذلك العمال يخسرون، لأن كمية العمل اللازمة لسداد دين معين ستزداد في حال انخفاض الأسعار·
إن تغيّر الأسعار الزائد عن الحد المقبول، وبوتيرة غير مدروسة في أي من الاتجاهين، سيكون له أثر سيّء على المشاريع الاقتصادية والدورة الاقتصادية عامة· لذلك فإن المحافظة على استقرار نسبي في الأسعار يُعدّ أمراً ضرورياً لتحقيق تنمية مستدامة ومتوازية· ولمحاربة التضخم والحد من آثاره السلبية، لا بد من اتخاذ العديد من الإجراءات، ومن بينها الإجراءات النقدية التي تهدف إلى خفض الإنفاق الكلي، حيث تعمل السياسة النقدية عن طريق التحكم في تكلفة الائتمان وإتاحته· فعندما يحدث التضخم يستطيع البنك المركزي رفع تكلفة الاقتراض وتخفيض مقدرة البنوك التجارية على خلق الائتمان المالي غير المضبوط· وهذا سيؤدي إلى انخفاض الطلب على الاقتراض، لتصبح تكلفته أكثر من ذي قبل· ومع انخفاض مقدرة البنوك على خلق الائتمان غير المضبوط، سوف تكون هذه الأخيرة أكثر حذراً في سياستها الائتمانية·
والنتيجة ستكون انخفاضاً في حجم الإنفاق النقدي الكلي، مما يخفّض من التضخم النقدي في الاقتصاد الوطني· وهذا يتم أيضاً عن طريق زيادة سعر الخصم مع رفع سعر الفائدة، بحيث يقوم البنك المركزي ببيع أوراق مالية حكومية إلى الجمهور أو إلى البنوك التجارية، مع رفع نسبة الاحتياطي النقدي في المصرف المركزي، والطلب إلى المصارف التجارية الاحتفاظ بحد أدنى معين من العملات بالنسبة إلى حجم ودائعها·
ومن الممكن محاربة التضخم عن طريق الإجراءات المالية العامة، حيث أن السياسة المالية للحكومة يمكن أن تسهم في السيطرة على التضخم عن طريق خفض الإنفاق الخاص، وذلك بزيادة الضرائب على القطاع الخاص مثل الفوائد المصرفية وفرض ضرائب إضافية على العقارات، أو عن طريق خفض الإنفاق الحكومي·
وبهذا نخلص إلى أن أهم الإجراءات المالية لمحاربة التضخم تبدأ بخفض الإنفاق الحكومي، وفرض ضرائب جديدة أو زيادة نسبة الضرائب القديمة لتخفيض حجم الدخل الممكن التصرّف به في أيدي النّاس، وتشجيع الادخار وتخفيض عرض النقود عن طريق تحسين مستوى أداء إدارة الدين العام· إن رفع سعر صرف العملة المحلية تجاه العملات الأجنبية هو أداة لمحاربة التضخم عن طريق زيادة الإنتاج، وزيادة الواردات، وتقليل الصادرات بهدف زيادة العرض المتاح من السلع، والتحكّم بالأجور النقدية لإبقاء التكاليف منخفضة، بالتزامن مع الرقابة الواجبة على الأسعار والخدمات· وبهذا يكون أمام مجلس الوزراء برنامج يمكّنه من تجنّب التضخم الذي لا محال أنه آت لو بقيت هذه الوزارات تمارس مشاريع غير مدروسة نتيجة للسياسة الاقتصادية الهوجاء
* خبير مالي ومحلل اقتصادي· * دكتوراه في المالية الدولية·
تعليقات