أن الخطر الذي يواجه العالم هي الدوامة الاقتصادية الهابطة التي سيكون عكس اتجاهها صعباً على نحو متزايد ونحتاج الآن إلى زعماء يتطلعون إلى المستقبل البعيد برأي جومو كوامي *

الاقتصاد الآن

625 مشاهدات 0


بعد الكارثة المالية التي شهدتها الفترة 2008-2009، أصبح الناس في توتر شديد ومفهوم إزاء الخراب الذي قد يترتب على اندلاع أزمة مالية أخرى. ولكن احتمالات حدوث أزمة أخرى ضئيلة للغاية في واقع الأمر، وإذا حدثت فإن تأثيرها السلبي سوف يكون أقل تدميراً هذه المرة، حيث لم يعد هناك المزيد من الائتمان الضخم أو فقاعات الأصول التي قد تنفجر.

ولكن هذا لم يمنع الخبراء ووسائل الإعلام من المبالغة في تضخيم هذه المخاوف، الأمر الذي أدى إلى تشتيت الانتباه وتحويله عن الجهود الأعظم الرامية إلى التغلب على الركود المطول في الكثير من بلدان العالم المتقدم، وهو ما من شأنه أن يؤدي حتماً إلى تباطؤ التعافي الاقتصادي في أماكن أخرى من العالم، وخاصة الدول النامية.

لقد أصبح الدين العام البعبع المفضل حاليا. فنحن نبالغ في التخوف من المستويات العالية من الديون السيادية على جانبي الأطلسي، وفي اليابان. وكما أشار المعلق الاقتصادي مارتن وولف: 'فإن التحدي المالي الذي يواجهنا مؤثر في الأمد البعيد وليس المتوسط'. على نحو مماثل، وفي حين تعاني اليابان من أعلى نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بين الدول الغنية، فإن هذا لا يمثل مشكلة خطيرة هناك لأن الدين محلي. والآن بات من المعترف به على نطاق واسع أن مشاكل الديون في أوروبا راجعة إلى جوانب من التكامل الأوروبي لم يخطط لها جيداً ولم تخضع لدراسة وافية.

لقد فشل المجتمع الدولي حتى الآن في وضع ترتيبات فعّالة وعادلة لإعادة هيكلة الديون السيادية، على الرغم من العواقب المخلة بوضوح والمثيرة للمشاكل نتيجة لأزمات الديون العامة الدولية في الماضي. وهذا من شأنه أن يعيق القدرة على حل مشكلة الديون عند الحاجة، وأن يعرقل بالتالي عملية التعافي بوضوح.

وفي العديد من الدول النامية أيضاً تستخدم حجة ارتفاع الدين العام كذريعة لدعم التقشف المالي. ولكن الاندفاع إلى خفض الموازنات يعمل على تقويض جهود التعافي السابقة بدلاً من دعمها. وفي ظل ضعف الطلب من جانب القطاع الخاص فإن التقشف يعمل على إبطاء عملية التعافي وليس التعجيل بها. وقد تسبب التقشف بالفعل في خفض معدلات النمو وتشغيل اليد العاملة. وفي حين تصر الأسواق المالية على خفض العجز فإن الانحدار الأخير في جودة وأسعار السندات ــ وما يعكسه هذا من فقدان الثقة ــ يشير إلى أنها تدرك أيضاً العواقب الضمنية السلبية المترتبة على خفض العجز والديون الحكومية في وقت حيث يعاني الطلب الخاص من الضعف الشديد.

يزعم معارضة التحفيز المالي أن كل هذه الجهود مصيرها إلى الفشل حتما، ويستشهدون بخفض الضرائب الذي أقره الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش كدليل! ويشير آخرون إلى أن نجاح جهود 'التيسير الكمي' من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كان متواضعاً في أفضل تقدير. وفي حين نجحت 'المثبتات التلقائية' في أوروبا بلا أدنى شك في تخفيف تأثيرات الأزمة فهناك من الأدلة القوية ما يؤكد أنها غير كافية لضمان التعافي الاقتصادي.

إن تباطؤ النمو يعني تضاؤل العائدات، وتسارع دوامة الانحدار. والواقع أن العجز المالي في أغلب الدولة الكبرى يعكس الانهيار الأخير للعائدات الضريبية في أعقاب انحدار النمو، فضلاً عن عمليات الإنقاذ الباهظة التكاليف في القطاع المالي. ورغم ذلك فإن العديد من صناع القرار السياسي يصرون على اتخاذ إجراءات فورية ليس فقط لتصحيح العجز المالي بل وأيضاً لتصحيح الخلل في التوازن التجاري وضعف القوائم المالية لدى البنوك. ورغم ضرورة معالجة هذه الأمور في الأمد البعيد بلا أدنى شك، فإن منحها الأولوية الآن من شأنه في واقع الأمر أن يحبط الجهود الأقوى والأكثر استدامة لتحقيق التعافي.

إن السياسات العامة الخاطئة قد تستحث الركود. ولقد حدث هذا أثناء الفترة 1980-1981، عندما رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة الحقيقية في محاولة للحد من التضخم، الأمر الذي أدى إلى استحثاث تباطؤ اقتصادي عالمي. ولم يسفر ذلك عن تفاقم الديون السيادية والأزمات المالية فحسب، بل وأسهم أيضاً في امتداد الركود إلى خارج شرق آسيا، بما في ذلك 'العقد الضائع' في أميركا اللاتينية، فضلاً عن 'التراجع لربع قرن' في أفريقيا.

وتُعَد المبالغة في تضخيم خطر التضخم عامل آخر من بين عوامل التشتيت. فمؤخراً كان التضخم في العديد من الدول راجعاً إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وخاصة الوقود وأسعار المواد الغذائية. وفي هذه الظروف فإن السياسات الانكماشية المحلية لن تسفر إلا عن المزيد من تباطؤ النمو ـ هذا فضلاً عن عجزها في منع التضخم المستورد.

من المؤسف أن أقصى أولويات السياسة اليوم تكرس لمعالجة احتمالات بعيدة، في حين يتم تجاهل المهمة العاجلة الحقيقية ـ تنسيق وتنفيذ الجهود الرامية إلى رفع وتعزيز النمو وتوفير فرص العمل. وفي الوقت نفسه فإن خفض الإنفاق الاجتماعي لا يسفر إلا عن زيادة الطين بلة، مع استمرار معدلات تشغيل الأيدي العاملة والطلب الاستهلاكي في الانحدار.

ومن المرجح أن تستمر الضغوط المفروضة على ميزانيات الأسر وتشغيل الأيدي العاملة. والواقع أن الأصوات المرتفعة المطالبة بالإصلاحات البنيوية تستهدف في الأساس أسواق العمل وليس أسواق المنتجات. فيُعَد افتقار العامل إلى الشعور بالأمان على نحو متزايد أساساً للاقتصاد السليم. والواقع أن تحرير أسواق العمل في مثل هذه الظروف لن يؤدي إلى تقويض الحماية الاجتماعية المتبقية فحسب، بل ومن المرجح أيضاً أن يفضي إلى تقليص الدخول الحقيقية والطلب الكلي، وبالتالي الإضرار بتوقعات التعافي.

فضلاً عن ذلك فإن الأرباح في العقود الأخيرة لم ترتفع على حساب الأجور فحسب، بل وأيضاً المزيد من النمو في القطاعات المالية والتأمين والعقارات مقارنة بقطاعات أخرى. كما تسببت الزيادات الفاحشة في أجور ومكافآت المسؤولين الماليين التنفيذيين في الأعوام الأخيرة ـ والتي لا يمكن إرجاعها إلى زيادة الإنتاجية ـ في زيادة تركيز القطاع المالي في الأمد القريب، وتفاقم تعرض القطاع للمخاطر في الأمد الأبعد، وبالتالي تفاقم الضعف النظامي.

وفي أغلب البلدان، كان التفاوت المتنامي في الدخول قبل الركود العظيم سبباً في تفاقم الأمور سوءا، وذلك من خلال تقليص مدخرات الأسر وزيادة الائتمان المخصص للاستهلاك وشراء الأصول، بدلاً من زيادة الاستثمار في قدرات اقتصادية جديدة.

إن العالم يحتاج الآن إلى زعماء يتطلعون إلى المستقبل البعيد. والواقع أن المؤسسات المالية الدولية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية كان من المفترض أن تضمن ليس فقط الاستقرار النقدي والمالي على المستوى الدولي، بل وأيضاً توفير الشروط اللازمة لتحقيق النمو المستدام وتوليد فرص العمل وإعادة البناء في مرحلة ما بعد الحرب والتنمية في مرحلة ما بعد الاستعمار.

ولكن من المؤسف أن السياسات الحالية تبرر باعتباره اختيارات 'مؤيدة للسوق' ــ أو مسايرة للدورة الاقتصادية في واقع الأمر. ولكن ما نحتاج إليه بشدة الآن هو الجهود والمؤسسات والأدوات القادرة على مواجهة التقلبات الدورية.

يبدو أن الزعامات العالمية اليوم وقعت أسيرة للمصالح المالية ووسائل الإعلام المتحدة، والإيديولوجيين، والقِلة الذين يمكنهم نفوذهم السياسي من الحصول على المزيد من الأرباح وسداد ضرائب متناقصة في حلقة مفرغة بالغة العمق. والواقع أن الخطر الذي يواجهنا الآن ليس الدين العام أو التضخم، بل الدوامة الاقتصادية الهابطة التي سيكون عكس اتجاهها صعباً على نحو متزايد.


* جومو كوامي سوندارام

الأمين العام المساعد للأمم المتحدة لشئون التنمية الاقتصادية، وحائز على جائزة واسيلي ليونتيف لتوسيع حدود الفكر الاقتصادي لعام 2007.

المصدر : جريدة الوطن العمانية

صحيفة الوطن العمانية

تعليقات

اكتب تعليقك