الصين تتحكم في منابع مياه الانهار العابرة للحدود وترفض المشاركة وتتجه للهيمنة على صناعة بناء السدود حول العالم لتتجه الى هيمنة سياسية براي براهما تشيلاني
الاقتصاد الآنأكتوبر 24, 2011, 10:15 ص 513 مشاهدات 0
الكاتب براهما تشيلاني
كانت المناقشة الدولية الدائرة حول صعود الصين تركز على قوتها التجارية المتزايدة، وطموحاتها البحرية المتنامية، وقدرتها المتوسعة على استعراض القوة العسكرية، ولكن من بين القضايا الحرجة التي لا تحظى بالاهتمام الكافي عادة تلك المسألة المتعلقة بصعود الصين باعتبارها قوة مائية مهيمنة لا مثيل لها في التاريخ الحديث.
فلم يسبق لأي دولة أخرى أن تمكنت من فرض مثل هذا القدر من الهيمنة النهرية التي لا ينازعها فيها أحد على إحدى قارات العالم، من خلال التحكم بمنابع أنهار دولية متعددة والسيطرة على تدفقات هذه الأنهار عبر الحدود. إن الصين، الدولة الأعظم نشاطاً في مجال بناء السدود على مستوى العالم- حيث شيدت ما يزيد قليلاً على نصف ما يقرب من خمسين ألف سد ضخم على كوكب الأرض- تعمل على تعظيم نفوذها بسرعة كبيرة في مواجهة جيرانها من خلال إنشاء مشاريع هندسية مائية ضخمة على الأنهار العابرة للحدود.
لقد تغيرت خريطة المياه في قارة آسيا جوهرياً بعد انتصار الشيوعية في الصين عام 1949، وتنبع أغلب الأنهار الدولية المهمة في آسيا من مناطق تم ضمها قسراً إلى جمهورية الصين الشعبية. فهضبة تايوان، على سبيل المثال، تُعَد المستودع الأضخم للمياه العذبة على مستوى العالم ومصدر أعظم أنهار آسيا، بما في ذلك تلك التي تعتبر شريان الحياة للبر الرئيسي للصين وجنوب آسيا وجنوبها الشرقي. وهناك مناطق صينية أخرى مماثلة تحتوي على منابع أنهار مثل إرتيش، وإيلي، وآمور، التي تتدفق إلى روسيا وآسيا الوسطى.
وهذا يجعل من الصين مصدراً لتدفقات المياه العابرة للحدود إلى أكبر عدد من البلدان في العالم، ورغم ذلك فإن الصين ترفض مجرد التفكير في تقاسم المياه أو قبول التعاون المؤسسي مع دول المصب لهذه الأنهار.
وفي حين تلتزم الدول المجاورة التي تتقاسم أنهاراً مشتركة في جنوب شرق وجنوب آسيا باتفاقيات المياه التي أبرمتها فيما بينها بعد مفاوضات، فإن الصين لم تبرم أي معاهدة خاصة بالمياه مع أي من الدول المجاورة التي تشترك معها في أنهار، والواقع أن الصين شريك حوار ولكنها ليست عضواً في لجنة نهر الميكونغ، الأمر الذي يؤكد اعتزامها عدم الالتزام بالقواعد التي أقرها مجتمع حوض نهر الميكونغ أو التقيد بأي التزامات قانونية. والأسوأ من ذلك أن الصين تتجاهل التعاون المتعدد الأطراف بين دول أحواض الأنهار في حين تدعو إلى التعددية على المسرح العالمي، وترى دول مصب نهر الميكونغ على سبيل المثال في هذه الاستراتيجية التي تتبناها الصين تجسيداً لمبدأ “فَرِّق تَسُد”.
ورغم أن الصين تؤيد علناً المبادرات الثنائية وتفضلها على التعاون مع المؤسسات المتعددة الأطراف في التعامل مع قضايا المياه، فإنها لم تبد أي حماس حقيقي في أي تحرك ثنائي، ونتيجة لهذا فإن قضية المياه تحولت على نحو متزايد إلى سبب جديد للفرقة والانقسام السياسي في علاقات الصين بدول مجاورة مثل الهند وروسيا وكازاخستان ونيبال.
وتعمل الصين على تحويل الانتباه عن رفضها لتقاسم المياه، أو الدخول في تعاون مؤسسي من أجل إدارة الأنهار المشتركة على نحو مستدام، وذلك بالتباهي بالاتفاقات التي وقعت عليها بشأن تبادل إحصاءات التدفقات مع الدول المجاورة، فهذه ليست اتفاقات للتعاون بشأن الموارد المشتركة، بل إنها في واقع الأمر اتفاقات تجارية لبيع البيانات الهيدرولوجية التي تقدمها دول المنابع الأخرى مجاناً لدول المصب.
والواقع أن الصين تسببت بتحويل نشاطها المحموم في بناء السدود من الأنهار الداخلية إلى الأنهار الدولية في إدخال نفسها في نزاعات مائية مع كل الدول التي تشترك معها في أنهار تقريبا، ومن المحتم أن تتفاقم هذه النزاعات في ضوء تركيز الصين أخيراً على إقامة السدود العملاقة، والذي يتجسد في إضافتها الأخيرة على نهر الميكونغ- سد شياوان الذي تبلغ طاقة إنتاجه للكهرباء 4200 ميغاوات، والذي يجعل برج إيفل في باريس يبدو قزماً إلى جانبه- فضلاً عن سد براهمابوترا على نهر الميتوغ الذي تخطط الصين لإقامته بطاقة 38 ألف ميغاوات، بالقرب من الحدود المتنازع عليها مع الهند. وسوف يتجاوز حجم سد الميتوغ ضعف حجم نهر ثري غورغز الذي تبلغ قدرته 18300 ميغاوات، والذي يُعَد حالياً السد الأضخم على مستوى العالم، والذي تسبب إنشاؤه في نزوح ما لا يقل عن 1.7 مليون صيني. كما حددت الصين فضلاً عن ذلك موقعاً لبناء سد عملاق آخر على نهر براهمابوترا في دادوكيا، والذي يفترض أن يسخر، مثل سد الميتوغ، قوة سقوط المياه لما يقرب من ثلاثة آلاف متر من أقصى ارتفاع للنهر، والذي يتخذ منعطفاً جنوبياً حاداً من سلسلة جبال الهيمالايا إلى داخل الهند، الأمر الذي يجعله الوادي الأطول والأشد انحداراً على مستوى العالم. ويحتوي وادي براهمابوترا- الذي يبلغ عمقه ضعف عمق غراند كانيون في الولايات المتحدة- على أضخم احتياطي غير مستغل من المياه في قارة آسيا.
وتقع البلدان التي من المرجح أن تتحمل العبء الأكبر نتيجة لهذا التحويل الهائل للمياه على مسافة أبعد باتجاه المصب على أنهار مثل براهمابوترا وميكونغ- بنغلاديش التي أصبح مستقبلها مهدداً بسبب التغيرات المناخية والبيئية، وفيتنام التي تُعَد وعاء الأرز في آسيا. والواقع أن الحصة التي تستولي عليها الصين من نهر إيلي تهدد بتحويل بحيرة بالكاش في كازاخستان إلى بحر آرال جديد، والذي تقلص إلى أقل من نصف مساحته الأصلية. كما خططت الصين علاوة على ذلك لإنشاء ما أطلقت عليه “الطريق الغربية العظمى”، أو المرحلة الثالثة المقترحة من مشروع تحويل المياه الجنوبي الشمالي الأعظم- وهو البرنامج الأعظم طموحاً على الإطلاق لتحويل المياه بين الأنهار وبين أحواض الأنهار- الذي من المقرر أن يتم استكمال مرحلتيه الأولى والثانية، اللتين تشتملان على أنهار داخلية في قلب الصين من عرقية هان، في غضون ثلاثة أعوام، والطريق الجنوبية العظمى، التي تتمحور على هضبة التبت، مصممة لتحويل المياه، من أنهار محلية ودولية، إلى النهر الأصفر، وهو النهر الرئيسي في شمال الصين التي تفتقر إلى المياه، والذي ينبع أيضاً في التبت.
وفي ظل هيمنة الصناعة الصينية الآن على سوق معدات الطاقة المائية، فقد برزت الصين أيضاً بوصفها الدولة الأعظم نشاطاً في بناء السدود في الخارج، فمن كشمير التي تسيطر عليها باكستان إلى ولايتي كاتشين وشان في بورما المضطربة، عملت الصين على توسيع أنشطة بنائها للسدود إلى مناطق متنازع عليها ومناطق أخرى مزقتها التمردات المسلحة، وذلك على الرغم ردود الفعل العكسية في الداخل.
على سبيل المثال، تشارك وحدات من جيش التحرير الشعبي في بناء السدود وغير ذلك من المشاريع الاستراتيجية في المناطق المضطربة ذات الأغلبية الشيعية مثل منطقة جيلجتي بالتيستان في كشمير التي تسيطر عليها باكستان. كما أسهمت أنشطة بناء السدود التي تزاولها الصين داخل بورما من أجل توليد الطاقة لتصديرها إلى الأقاليم الصينية في تجدد الاقتتال الدموي أخيرا، فأنهت بذلك اتفاق إطلاق النار الذي دام سبعة عشر عاماً بين جيش استقلال كاتشين والحكومة.
وكما هي الحال مع نزاعاتها الإقليمية والبحرية مع الهند وفيتنام واليابان وغيرها من الدول، فإن الصين تسعى إلى إنهاء الوضع الراهن فيما يتصل بتدفقات الأنهار الدولية. لذا فإن إقناعها بالكف عن الاستيلاء على المزيد من المياه المشتركة بقرارات أحادية بات يشكل أهمية محورية لسلام آسيا واستقرارها، وإلا فمن المرجح أن تبرز الصين بوصفها سيدة صنابير المياه في آسيا، فتكتسب بالتالي قدراً هائلاً من النفوذ فيما يتصل بتوجيه سلوكيات الدول المجاورة لها.
تعليقات