تصحيح الأجور حتى في فترات الأزمة حق للمواطن وواجب على الدولة نظراً لتآكلها مع الوقت بسبب تضخم المصادر الخارجية والداخلية هكذا يحدد الامور د.لويس حبيقة
الاقتصاد الآنأكتوبر 22, 2011, 1:28 م 425 مشاهدات 0
يتخبط الاقتصاد الدولي في أزمات جدية لا تقتصر على الانتاج والاستهلاك فقط، وإنما تشمل السياسة والعلاقات الاجتماعية أيضاً . أمريكا حائرة في كيفية معالجة مشكلاتها، وها هو الرئيس أوباما يحاول انقاذ عهده عبر نشر مشروعه لمكافحة البطالة . اذا كان الرئيس غير قادر على التقدم سياسياً في الموضوع الفلسطيني، فيسعى الى القيام بخطوات تجذب له الأصوات في معركة مقبلة يمكن أن تكون قاسية . البريطانيون من ناحية أخرى واعون جداً لعمق مشكلاتهم، وها هو وزير الأعمال “فينسنت كايبل” من الحزب الليبرالي الديمقراطي يصف الوضع الداخلي بما يشبه فترة حرب بسبب تعثر الاقتصاد . في فرنسا، يسعى الرئيس ساركوزي عبر الاقتصاد إلى الفوز في انتخابات السنة المقبلة على الأرجح ضد مرشح الحزب الاشتراكي . هدف البرنامج الفرنسي تخفيض عجز الموازنة من 7،5% في سنة 2011 الى 4 .6% في سنة 2012 الى 3% في سنة 2013 وإلى 2% في سنة 2014 . جميع الدول تمر في نزاع مبدئي وعملي صعب وهو الاختيار بين التصحيح المالي والنمو، أيهما أهم؟ في فرنسا مثلاً، خسارة نقطة واحدة من النمو تعني انخفاضاً في الايرادات العامة توازي 10 مليارات يورو سنوياً . تسعى الدول الغربية الى تصحيح أوضاعها في ظروف نمو سكانية غير مناسبة، بالاضافة الى عدم رغبتها في استقبال المهاجرين . لا شك أن الأوضاع المعروفة التي تمر بها اليونان لا تحسد عليها، وهي تسعى بكل الوسائل الى الاستمرار ضمن الحفاظ على استقلاليتها السياسية والاقتصادية .
تعي كل الحكومات المسؤولة بأنه لا يمكن الاستمرار في الحكم من دون تحقيق عدالة اجتماعية إضافية . تعلم الحكومات بأن زيادة الفقر والبطالة تؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى اضطرابات اجتماعية تسيء الى الأنظمة الديمقراطية الانتخابية وتعطل النمو لاحقاً . تشير الدراسات التطبيقية الى علاقة قوية بين الناتج المحلي الفردي ومؤشر الديمقراطية المعتمد دولياً .
ما العمل اذاً؟ لا شك أن التعاون الدولي مطلوب لتجنب حرب عملات بين الفرقاء الأساسيين الأربعة أي أمريكا وأوروبا واليابان والصين .
المطلوب من الحكومات فهم واقع بلادهم أكثر ومحاولة تصحيح القواعد والقوانين . يقول “جورج سوروس” إنه كمستثمر عمل ضمن القانون حاول تحقيق أعلى الأرباح ونجح . لكنه كمواطن، يقول إن عليه مساعدة المسؤولين على تطوير قواعد اللعبة حتى لو أتت ضد مصلحته الشخصية .
ينتقد سوروس المسؤولين الحكوميين ومن القطاع الخاص بأنهم بالرغم من الخسائر الكبيرة نتيجة أزمة 2008 يفضلون اعتبارها أزمة عابرة دون محاولة تغيير بعض القواعد أو الأدوات الخطرة . يعتبر سوروس حتى اليوم من المستثمرين الدوليين الكبار الذين لم تجر بحقهم أي اتهامات فساد أو غش أو سوء أمانة .
لبنان لم يتأثر كثيراً بالأزمة المالية الدولية لكنه متأثر جداً بما يجري خارج حدوده وخاصة في سوريا . تشير أرقام السياحة الى هذا التأثر كما أن تعديلات صندوق النقد الدولي بشأن النمو تعكس هذه الحقائق . منذ أيام خفض الصندوق توقعاته الى 1 .5% نمواً لهذه السنة، وربما يتبين لنا في الأسابيع المقبلة أن هذا الرقم تفاؤلي . تخفيض النمو المتوقع لا يعني غض النظر عن المشكلات الاجتماعية القائمة وإهمال معالجتها بما فيها الأجور . تحسين العلاقات الاجتماعية يصبح أهم في فترة صعوبات للتضامن وحل المشكلات الوطنية المشتركة .
هنالك مباحثات مباشرة وغير مباشرة تجري اليوم بين ممثلي العمال وأرباب العمل لدراسة امكانية زيادة الأجور ومدى سلامة هذه الخطوة بالنسبة إلى الاقتصاد .
هنالك وعي عام لضرورة تصحيح الأجور نظراً لتآكلها مع الوقت بسبب تضخم المصادر الخارجية والداخلية . تصحيح الأجور هو إذاً حق وواجب، وليس هنالك من صاحب عمل منطقي وجدي يمكن أن يرفضه . الخلاف الحقيقي هو على النسب وحجمها وعلى الشطور وحول مدى تأثيرها عملياً في التضخم، اذ ماذا ينفع العامل أن يرفع أجره وتأتي الأسعار في اليوم التالي أو السابق للزيادة لتأكله؟
تصحيح الأجور يسهم اليوم دون شك في تحسين الأجواء الاجتماعية في البلد ويحسن العلاقات بين أطراف الانتاج، اذ من المضر أن تؤخذ قرارات لاحقاً تحت الضغط كما حصل مع السائقين العموميين ومن الممكن أن يحصل مع العمال عشية الاضراب المقرر ل 12 -10 . تصحيح الأجور بهدوء يسهم أيضاً في رفع انتاجية العمالة ومن الضروري أن يكون منطقياً ومدروساً أي من ضمن قدرات الشركات المتوسطة والصغيرة .
تكمن مشكلة الأجور فعلياً في أن الدولة اللبنانية لا تعالجها سنوياً بل تتركها تتراكم مع الوقت لتحدث مشكلة . لو تم رفع الأجور سنوياً بنسبة ما (مثلاً نصف) من قيمة مؤشر أسعار الاستهلاك الصادر عن المديرية العامة للإحصاء المركزي، لما كنا نقع في مشكلات كهذه كل عدد من السنوات . هنالك ضرورة في أن ترفع الدولة من صدقيتها كوسيط أي تعزز ثقتها عند العمال وأرباب العمل والرأي العام، وهذا يحصل عبر الممارسة الجيدة والصادقة لأعمالها فقط . فلنعتمد، بعد تصحيح أجور اليوم قبل آخر هذه السنة وبدءاً من سنة ،2012 تصحيحاً سنوياً للأجور بنسبة 50% من مؤشر غلاء المعيشة ما يمكن الشركات العادية من استيعابها بهدوء . من غير المنطقي ترك الموضوع يتراكم ثم نبحث عن زيادات مرتفعة دفعة واحدة وإن تكن محقة، اذ ربما تكون فوق قدرات الشركات في العاصمة والمناطق . هل تصحيح الأجور اليوم في لبنان يشعل التضخم؟ وما الشروط الممكن تطبيقها؟
درس الاقتصاديون العالميون لسنوات طويلة علاقة أسعار عوامل الانتاج بمؤشر التضخم، حيث تشير الدراسات الى انه عند استعمال الشركات للعمالة ورأس المال والمواد الأولية بشكل ضاغط ومكثف، رفع الأجور يسبب رفع تكلفة الانتاج ما يفرض على الشركات زيادة أسعار المبيع للحفاظ على الأرباح . في هذه الحالة، رفع الأجور يؤدي الى تضخم ربما يأكل تأثير هذه الزيادة في المستوى المعيشي .
في الحالة الأخرى أي عندما لا تستعمل الشركات عوامل الانتاج بشكل مكثف وضاغط، أي عندما تعمل القدرات الانتاجية للشركات دون المستوى الأعلى فليس هنالك أي دليل على انعكاس زيادات الأجور على تكلفة الانتاج وبالتالي على الأسعار .
لا شك أن لبنان يقع في الحالة الثانية حيث إن انتاجية شركاتنا وإن تكن جيدة، فهي ليست حتماً بالمستوى الأفضل كما يعرف ويشتهي أصحابها .
لبنان كاقتصاد يقع في مرتبة متدنية في مؤشر التنافسية الدولية وفي مؤشرات الفساد وسهولة الاستثمارات والأعمال، لذا في رأينا أن زيادة الأجور ستفرض على الشركات اللبنانية تنظيم نفسها بشكل أفضل لرفع انتاجيتها وبالتالي ستستفيد من هذه الزيادة لتحسن قدراتها الحالية والمستقبلية . فالاستمرار في الوضع الحالي للشركات سيأكل من قوتها مع الوقت، وإعادة التنظيم الدوري ضروري ليس للانتاج فقط وإنما للإدارة أيضاً . وحدها الانتاجية تخلق مع الوقت الثروة، وتصحيح الأجور في لبنان يدخل ضمن هذه السياسة الهادفة إلى رفعها .
هذا لا يعني طبعاً أن لا حدود للتصحيح المطلوب بل إن زيادة واقعية للأجور تصب في الوقت نفسه في مصلحة الشركات والعمال ولا تحدث تضخماً . رفع الحد الأدنى إلى 750 ألف ليرة شهرياً يبقى دون مستوى الحق، لكنه يقع ضمن امكانات الشركات اذ ماذا ينفعنا أن نرفع الحد الأدنى أكثر وترتفع نسبة البطالة . بعد زيادة الحد الأدنى 50%، ترفع الشطور الاضافية بنسب أقل يمكن الاتفاق عليها بسهولة . مثلا ال 500 ألف الأولى من الأجر 50%، وال50 ألف الثانية 40% والثالثة 30% والرابعة 20% والأعلى 10% . من له أجر مليون ليرة شهرياً يصبح مليوناً و450 ألفاً ومن يبلغ أجره مليونين يصبح مليونين و700 ألف ويمكن وضع سقف مليون ليرة مثلاً للزيادة الشهرية . تزول المشكلة بدءاً من السنة المقبلة اذا طبقنا التصحيح السنوي المنطقي والمعتمد في الدول الواعية . فلا نخلق اليوم مشكلة من لا شيء مع بداية العام الدراسي ولنفتح صفحة اقتصادية مالية اجتماعية جديدة مبنية على الحق والعدل .
تعليقات