لماذا ورغم مرور سنوات طوال لم تظهر نظرية ثالثة غير الرأسمالية والاشتراكية يتساءل ويجيب محمد علوان
الاقتصاد الآنأكتوبر 20, 2011, 11:14 ص 527 مشاهدات 0
مرور كل هذه الأعوام دون أن يطرح العالم نظرية اقتصادية ثالثة بحجم الرأسمالية والاشتراكية يثبت أن الأخيرتين لم تكونا مجرد نظريتين، بل هما طرفان لأقصى ما يمكن تحقيقه في حدود علم الاقتصاد
شاعت لخبير اقتصاديّ أميركي يوماً ما مقولة: 'أميركا اليوم أكبر بلد اشتراكي في العالم.. لأن العمال يملكون وسائل الإنتاج'. والمعروف أن امتلاك العمال لوسائل الإنتاج ـ سواءً عن طريق الحكومة أو بشكل مباشر ـ هو الأساس النظريّ للاشتراكية كما صاغها ماركس وآخرون. الذي دفع هذا الاقتصاديّ الأميركي لهذا القول هو توسّع صناديق التقاعد الأميركية في تملك الأصول الاستثمارية حتى تجاوزت في الولايات المتحدة الأميركية وحدها أكثر من عشرة تريليونات دولار أميركي. هذا يعني أن أصولاً توازي70% من الناتج القوميّ لأكبر اقتصاد في العالم لا تملكها الطبقة الغنية ولا الشركات الكبرى، بل يشترك في ملكيّتها مئات الآلاف من الموظفين الذين يدّخرونها لما بعد التقاعد. وقد قام مديرو هذه الصناديق التقاعدية بتوزيع استثماراتها في شتى الأنشطة المتاحة حتى ندر أن يوجد قطاع من قطاعات الاستثمار لا تملك صناديق التقاعد حصة معتبرة منه. الأهم من ذلك أن صناديق التقاعد ـ في سعيها للحصول على عوائد مضمونة ـ تستثمر جزءاً كبيراً من هذه الترليونات في سندات الخزينة الأميركية، ما يعني أنها تملك حصة كبيرة من الدين الأميركي العام. الموظفون في أميركا (أو العمّال حسب التعبير الماركسيّ) يملكون الحكومة والسوق معاً، وهذا يمنح صناديق التقاعد سلطة كبيرة على الاقتصاد الأميركي تخوّلها الاضطلاع بقرارات حاسمة في مسيرة الاقتصاد.
وجه الغرابة هو أن تجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها ـ وهي معقل الرأسمالية في العالم ـ قد انجرفت وفق قوى السوق ونظريات الرأسمالية نحو مصير شبه اشتراكي لم تتنبأ به. وإذا كان العقدان الأخيران هما اللذان شهدا توسّع هذه الصناديق التقاعدية ومشارفة أميركا لهذا الواقع الاشتراكيّ؛ فهذان العقدان أيضاً شهدا تفككّ الاتحاد السوفيتي ـ معقل الاشتراكية في العالم ـ وتحولها إلى دويلات ذات نهمٍ رأسمالي شديد يتجاوز حتى الحدود الأخلاقية للرأسمالية نفسها، وشهد أيضاً تحوّل الصين ـ أكبر مجتمع بشريّ اشتراكي في العالم ـ إلى قوة رأسمالية ذات عنفوان غير مسبوق تتطلع لأن تكون الاقتصاد الأقوى في العالم قبل عام 2050.
هل هذه لعبة من ألعاب الاقتصاد؟ أم أن الحدود بين نظريات آدم سميث وكارل ماركس أصبحت ضبابية ومتذبذبة مع تغير أحوال العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً؟ كيف اختلط الحابل الرأسمالي بالنابل الاشتراكي في غفلة من العالم بعد أن كانا قبل ذلك أكثر شيء جدلا، وشكّلا على مدى قرنٍ من الزمان الطرفين النقيضين لشؤون الاقتصاد في العالم، وانقسم العالم بينهما بين مراهنٍ على صمود أحدهما وانهيار الثاني، ليتفاجأ الجميع أنه - بدلاً من الصمود والانهيارات - دخل العالم في سلسلة من الاندماجات الاقتصادية صعبة التخيّل بين النظريتين.
إنه بندول الاقتصاد كما يبدو، يتأرجح يميناً ويساراً، من النقيض إلى النقيض. غير أن تأرجحه يستغرق عادةً أعواماً طويلة حتى يخيّل للبعض أنه ثابت في نقطة ما إلى الأبد.
الاشتراكية والرأسمالية - فلسفياً - تحملان رؤى عميقة ونافذة يصعب إنكارها، وهما من العمق النظريّ والتأصيل العلميّ على مدى أجيال من الباحثين والمفكرين والاقتصاديين والسياسيين إلى الحد الذي دفع كيانات بشرية كبرى إلى الاندفاع بكل قوتها في سبيل تحويلها إلى واقع عمليّ. وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير، وساهمت كلتا النظريتين في تحسين أحوال المجتمعات. فأنقذت الاشتراكية ملايين البشر من ربقة الفقر المدقع والاستغلال الطبقي والإقطاعية المهيمنة، مثلما أنقذت الرأسمالية ملايين البشر أيضاً من قلة الموارد وضعف الإنتاج وغياب الإبداع. هذا فيما يخصّ المنظور الاقتصادي البحت، بعيداً عن الامتطاء السياسي والتلغيم الآيديولوجي لكل منهما، والذي ملأ العالم حروباً ونزاعات تسببت في عودة آلاف البشر تحت خط الفقر الذي رفعتهم النظريتان فوقه.
مرور كل هذه الأعوام دون أن يطرح العالم نظرية اقتصادية ثالثة بحجم الرأسمالية والاشتراكية يثبت أن الأخيرتين لم تكونا مجرد نظريتين، بمعنى مجرد محاولتين لتفسير الاقتصاد وتطبيقه، بل هما طرفان لأقصى ما يمكن تحقيقه في حدود علم الاقتصاد، تماماً مثل البرودة والحرارة في علم الفيزياء. وبدون الدخول في التفاصيل، لا تملك المجتمعات البشرية في إدارة اقتصادها سوى أن (تشترك) في ملكية كل شيء أو (لا تشترك). وبين الطرفين، يمكن لكل مجتمع أن يصمم اقتصاده بتحريك النقطة على طول هذه المتوالية ليضعها في المكان المناسب، أقرب إلى الرأسمالية إذا أراد أو إلى الاشتراكية إذا شاء. كما يسع المجتمعات أيضاً أن تتبنى نظماً اقتصادية ذات طبيعة قانونية خاصة تناسب تشريعاتها الدينية وغيرها (الاقتصاد الإسلامي مثلاً)، ولكن كل هذه النظم ـ حتى اليوم ـ دائماً ما تقع في منطقة ما على الخط بين الرأسمالية والاشتراكية، حسب مستوى فرديّة تملك وسائل الإنتاج أو اشتراكيتها، وكل ما عداهما هو تفرعّات تطبيقية بين النظريتين. ولعل المقالة القادمة تناقش أسباب تأرجح البندول التاريخي بين النظريتين.
تعليقات