الإسلام أكبر وأرحب من أن يختزل في مذهب واحد أو تفسير واحد أو اجتهاد واحد.. كلمات من كتاب لباحث عراقي يستعرضه د. عبدالحميد الأنصاري
زاوية الكتابكتب أغسطس 8, 2011, 12:54 ص 694 مشاهدات 0
الجريدة
لا إسلام بلا مذاهب
د. عبدالحميد الأنصاري
لا إسلام بلا مذاهب
يجب علينا أن نتيقن بأن الإسلام أكبر وأرحب من أن يختزل في مذهب واحد أو تفسير واحد أو اجتهاد واحد، علينا ألا نضيق بالاختلاف المذهبي بل نسعى إلى حسن توظيفه وإدارته لخدمة مجتمعاتنا فيما يثريه ويزيده قوة وفق قاعدتين ذهبيتين: الأولى “نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا”. والأخرى “الخلاف لا يفسد للود قضية”.
هذا عنوان لكتاب جدلي يثير قضايا في التراث حول الفكر والسياسة والدين والأدب للباحث العراقي النشط المقيم بلندن رشيد الخيون، يقوم الكتاب على فكرة محورية: أن إسلاماً بلا مذاهب لا وجود له ولا سبيل إليه، لأنه مضاد لطبائع الحياة والبشر والدين القائمة على الصيرورة والتغير وجدلية الشيء ونقيضه، ولا يمكن تصور دين صالح لتلبية احتياجات المجتمعات المتجددة إلا أن يتقبل الاختلاف المذهبي والسياسي. لا يريد المؤلف أن يصادم دعاة إسلام بلا مذاهب أو يحبط سعيهم للتقارب حين يقول إن دعوتهم إلى إسلام بلا مذاهب دعوة عاطفية وليست واقعية، لأنها تخالف الطبيعة التي جبل الناس عليها والمسلمون ليسوا خارجين عنها حتى يمكن جمعهم في فرقة واحدة، كما أن الافتراق المذهبي لن يزول بمحاولات الترضية والتظاهر بالتوفيق والمصالحة، والأفضل منها أن يكتفي الدعاة بالممكن والمعقول وهو “السلام المذهبي” القائم على أن لكم مذهبكم ولي مذهبي.
يرى الباحث أن المجتمع الذي يفرض عليه فكر أو مذهب أو دين واحد مجتمع خامل خال من حافز التقدم، فالإسلام واحد لكنه متنوع بحسب البيئة والثقافة، والطريق الأسلم في التقارب المذهبي هو “الاعتراف بالآخر”، وكل ما وضع من أحاديث الافتراق وما كتب في نصرة الفرقة الناجية في تاريخ الملل والنحل كان هدفه: إقصاء التنوع الرحب لفرض وحدة مفتعلة يضيق بها الزمن المتجدد وهو هدف يجب تجاوزه، لأنه كرس تعصب المسلم لمذهبه وكراهيته للآخر، هذا التعصب هو أساس الداء ومصدر البلاء وهو الآفة المترسخة والمتوارثة في بنية الثقافة العربية إلى يومنا هذا، ورغم أن كبار الأئمة مؤسسي المذاهب حذروا أتباعهم من التعصب والمغالاة في تقليدهم، فإن الأتباع المتعصبين من حراس الكراهية لم يلتزموا بوصايا أئمتهم وغالوا في تعصبهم لدرجة تقديس مشايخهم والطعن في المخالفين وتجريحهم، في مصر خشي الفقيه المالكي أشهب على ذهاب فقه شيخه مالك بسبب انتشار مذهب الشافعية فقال “اللهم أمت الشافعي وإلا ذهب علم مالك”.
كان هذا التعصب المبني على الكراهية منتشراً بين الأتباع واستمر إلى يومنا هذا ممثلاً في مدارس وجامعات تلقن طلابها فكر الكراهية العمياء، فلا عجب أن تمنح إحدى الجامعات رسالة دكتوراه لباحث سعودي كفّر فيها كل دعاة الإصلاح والتنوير وجوز قتلهم لأنهم في نظره مرتدون! هذا المتعصب الأعمى ضحية الفكر الانغلاقي والتعليم الأحادي لم يعش في بيئة تعددية ترى في الاختلاف مزية وإثراء ولم يتعلم ليدرك أن الاختلاف حق مشروع وأصيل قانوناً وشرعاً، وأن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم امتن على عباده بأن منحهم حق الاختلاف وحرية الاختيار وقد خلقهم مختلفين فقال تعالى “ولذلك خلقهم” قال المفسرون: أي من أجل الاختلاف، فلا حرج في الاختلاف المذهبي أو الطائفي، لأنه يعكس ثراء الفكر الإسلامي ومرونته أمام المتغيرات، وقد أثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام “اختلاف أمتي رحمة”. وكان من نعم الله تعالى أن رزقنا ديناً لا يعرف “كهنوتاً” ولا “بابا” يتحكم في عقائدنا ويفرض وصايته علينا، فلا مشكلة في الاختلاف المذهبي كما توهم صاحب كتاب “إسلام بلا مذاهب” مصطفى شكعة، وطار به فرحاً دعاة التقارب أول صدوره 1960م، وطبعوه في 13 طبعة ظناً أن فيه الحل التوفيقي للاختلاف المذهبي ولكنه عنوان بدون مضمون، إذ لن يجد فيه الباحث ذلك الإسلام الذي بلا مذاهب إلا في العنوان فحسب، أما المحتوى فهو للدفاع عن الإسلام ضد من قال إنه انتشر بالسيف، والدفاع عن تعدد الزوجات، ثم رصد لتاريخ الفرق الإسلامية واختلافاتها.
حديث الافتراق: ينتقل المؤلف رشيد خيون إلى تسليط الأضواء الناقدة على أخطر حديث نسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكم الأفق المذهبي للمسلمين ورسخ التعصب الطائفي ونظر للصراع العقدي والمذهبي بين أبناء أمة يقول لها دينها إن الاختلاف حكمة إلهية ورحمة واسعة، هذا الحديث المطعون سنداً ومتناً، اعتمده جمهرة فقهاء المسلمين أرباب المذاهب والفرق: سنّة وشيعة، أشاعرة ومعتزلة وسلف، تنبأ فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بمستقبل الأمة وقال إن اليهود والنصارى افترقوا إلى 71 و72 فرقة، وأما المسلمون فسيفترقون إلى 73 فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي، وفي رواية هي “الجماعة”.
ومما يؤسف له أن يتقبل المسلمون هذا الحديث ويسلموا به تسليماً دون أي نقد أو تمحيص ويقيموا عليه مؤسساتهم التعليمية والدعوية ويكيفوا علاقاتهم البينية وفقهها، وأي نظرة فاحصة تستبعد صدور هذا التنبؤ من الرسول الأعظم، إذ كيف يتنبأ بافتراق المسلمين بأكثر من افتراق اليهود والنصارى والقرآن الكريم يقول عن أمة الإسلام “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، كما أنه من غير المنطقي والمقبول أن جنة عرضها السماوات والأرض لن تسع إلا لفرقة واحدة من فرق المسلمين المتكاثرة، ثم إن الواقع التاريخي للمذاهب والفرق الإسلامية يثبت بجلاء أنها تجاوزت الـ73 فرقة عداً ووصلت إلى المئات، مما يشكك في صحة وسلامة النبوءة الواردة في هذا الحديث المزعوم، وهذا دفع بعض مؤرخي الملل والنحل إلى تلمس تعليلات واهية وتصنيفات غير منضبطة حتى يتوافق عدد الفرق مع العدد الوارد في الحديث تعسفاً وتحكماً ومن غير معيار سليم، حتى إن الشهرستاني في كتابه “الملل والنحل” انتقد هذا المسلك بقوله “ما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير الضابط، فقد استرسلوا في إيراد المذاهب كيف اتفق وعلى الوجه الذي وجد لا على قانون مستقر أو أصل مستمر”.
وقد أحسن أبوالحسن الأشعري حين خالف المؤرخين المتعصبين لفرقهم ومذاهبهم إذ أدخل الملل الإسلامية كافة في أمة الإسلام، فقال في كتابه المشهور “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” ما نصه: “اختلف الناس بعد نبيهم في أشياء كثيرة، ضلل فيها بعضهم بعضاً، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم”، يجب علينا أن نتيقن أن الإسلام أكبر وأرحب من أن يختزل في مذهب واحد أو تفسير واحد أو اجتهاد واحد، علينا ألا نضيق بالاختلاف المذهبي بل نسعى إلى حسن توظيفه وإدارته لخدمة مجتمعاتنا فيما يثريه ويزيده قوة وفق قاعدتين ذهبيتين: الأولى “نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا”. والأخرى “الخلاف لا يفسد للود قضية” وهما قاعدتان نرددهما كثيراً عبر المنابر الدينية والفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة لكننا لا نفعلهما على أرض الواقع في سلوكياتنا وعلاقاتنا بعضنا ببعض!
فالخلاف لا يفسد للود قضية عند جميع الأمم إلا عند العرب الذين تحكمهم عقلية التخاصم المذهبي والصراع السياسي على السلطة، لأنهم لا يعترفون بشرعية الاختلاف منهجاً حياتياً راسخاً يربون ناشئتهم عليها، ويقيمون مؤسساتهم التربوية والاجتماعية عليها، ويترجمونها نظاماً سياسياً حاكماً يستظلون بها كما فعل المتقدمون، علينا الاعتراف بشرعية الاختلاف كضمانة أساسية في تحصين مجتمعاتنا لتفادي الصراعات الدموية وأشكال الإقصاء والقمع والتكفير والتخوين كافة، علينا أن نتعلم كيف ندين الاختلاف بما يجعله مصدر ثراء وبهجة لنا، ختاماً: ما أحرانا في هذا الشهر الفضيل ونحن نتعرض لنفحاته الإيمانية أن نسمو لنتسامح ونعمق ثقافة المحبة والإيثار في مجتمعاتنا.
*كاتب قطري
تعليقات