تركيا العثمانية العلمانية وشرف صندوق الانتخابات (الحلقة الرابعة)
عربي و دوليسلسلة تحقيقات عن التحولات في الجمهورية التركية تنشرها ((الآن)) على حلقات
داهم القحطاني يونيو 19, 2011, 8:27 م 3712 مشاهدات 0
انتهت مطلع شهر يونيو الجاري الانتخابات التركية بفوز كبير لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أوردغان لفترة ثالثة ليتولي هذا الحزب حكم تركيا للمرة الثالثة على التوالي في إنجاز لم يسبقه إليه حزب تركي آخر.
وتزامنا مع هذا الحدث المهم، ومع المرحلة المقبلة والتي يتوقع فيها أن تكون للسياسة التركية في منطقة الشرق الأوسط تأثيرات أكبر، تنشر جريدة الآن الإلكترونية وعلى حلقات سلسلة من التحقيقات قام بها الكاتب والمدون داهم القحطاني خلال رحلة سياسية شارك فيها مؤخرا في الجمهورية التركية، وضمت الرحلة سياسيين وبرلمانيين وأكاديميين من عدد من الدول العربية.
حين تتحول الأحزاب إلى أساس لنهضة الدولة ... التجربة التركية
في مقر حزب التنمية والعدالة لا شيء محدد في المبنى يوحي بأنك في مقر حزب له جذور إسلامية بالضرورة، فهناك عدد من الفتيات اللاتي لا يرتدين الحجاب -وهي معلومة ليست ذات قيمة لدى المتابعين للشأن التركي- إلا أنها تعطي دلالة واضحة على أن حزب العدالة لا يطرح نفسه كصوت لتيار إسلامي رغم أنه اتهم رسميا بذلك، ففي العام 2008 حينما تمت مقاضاته في المحكمة الدستورية التركية على هذا الأساس، ورغم أن الحزب عوقب بغرامة مالية، الا أن الامر لم يصل إلى حد إغلاق الحزب.
الفتاة التركية المرافقة للوفد العربي خلال تواجده في مقر حزب العدالة والتنمية كانت ذات جمال لافت، وكانت غير محجبة وترتدي 'جينز ضيقًا' ورغم ذلك لم تتردد -بعد أن انتهت من دراسة العلاقات الخارجية في إحدى جامعات لندن- في البحث عن فرصة عمل لدى حزب ذي جذور إسلامية لتعمل كباحثة في قسم الشؤون الخارجية في الحزب، ما يبين -وإن كان ذلك بشكل رمزي- أن حزب العدالة والتنمية لا يقدم نفسه نمطيا كحزب إسلامي، بل كحزب لكل الأتراك بما في ذلك المنادين بالعلمانية، ولذلك قام في انتخابات عام 2007 بترشيح عدد من الشخصيات العلمانية على قوائمه.
ورغم هذا، فخصوم حزب العدالة والتنمية وخصوصا حزب الشعب الجمهوري يرون في محاولات حزب العدالة والتنمية تنصلا من حقيقته الإسلامية، ويرونها كذلك نوعا من الألاعيب التي لا تنتهي، ما جعله يرفع قضية ضد حزب العدالة والتنمية يتهمه فيها بأسلمة تركيا والسعي نحو تقويض النظام العلماني في البلاد.
هذا الاتهام الذي لم يؤدي إلى حل حزب العدالة والتنمية انتهى كما هو معروف إلى توقيع غرامة لم تثنه -وهو الحزب الحاكم- عن مواصلة تقديم نفسه كحزب لكل الأتراك، وهو ما يفسر تنوع طاقم موظفي الحزب الذين واجههم أعضاء الوفد العربي بما لا يوحي بأن هذا الحزب إسلامي التوجه وإن كان للنساء المحجبات وجود لافت لا تخطئه العين الراصدة.
أنتي تذكرينا بصلاة الجمعة ؟ ...أنتي تجعلينا ننسى
الطريف أن هذه الفتاة التركية المرافقة للوفد أتت وبجمالها الفاتن لتذكر أعضاء الوفد بموعد صلاة الجمعة، ما جعل أحد أظرف الأعضاء -وهو زميل من اليمن- يقول معلقا 'أنتِ تذكرينا بصلاة الجمعة؟!!...أنتِ تجعلينا ننسى' ما جعلها تصر -وهي تضحك وتسمع ضحكات المشاركين في الوفد- على معرفة ما قال وبترجمة حرفية قبل أن تبادر، بعد أن عرفت المعنى، بضحكة مدوية و... مترجمة.
المسجد الجامع الذي توجه له أعضاء الوفد العربي مشيا على الأقدام لم يكن بعيدا عن مقر حزب العدالة والتنمية، ما جعل الجميع يحظى بفرصة للتريض في شوارع أنقرة الجميلة ومشاهدة التطور العمراني فيها عن قرب. أحد المشاركين في الوفد العربي -وهو يحتل منصبا تشريعيا في مجلس النواب العراقي- يقول 'لماذا لا يحصل هذا التطور في بلداننا؟!.. بيئتهم مقاربة لنا.. ما نراه يثير الحسرة على النقص الذي نعيشه.. ولكنه أيضا يبعث على الأمل، فما يتحقق هنا قد يتحقق هناك'.
المسجد الجامع لم يكن يوحي بأنه سيكفي عدد المصلين المتزايد قبل أن نكتشف أن المسجد كان عبارة عن ثلاثة مساجد في مسجد واحد،إن صح التعبير، فهناك دور علوي وسرداب خصصت أماكن فيهما للنساء.
صلاة الجمعة على الطريقة التركية
المسجد الذي أدى فيه الوفد العربي صلاة الجمعة
المصلون يأتي بعضهم مشيا على الأقدام، وبعضهم يأتي عبر سيارات أجرة، فالمكان يضم مبان رسمية وتجارية، وفترة صلاة الجمعة تتزامن مع يوم عمل رسمي في تركيا.
وبدا لافتا حرص كثير من الشبان على أداء الصلاة رغم أن المسلسلات حاولت أن تخلق صورة نمطية لدى المشاهدين العرب عن الشباب التركي مفادها أنهم شباب متحرر ومنغمس في ملذات العصر، ولهذا لم يتذكر بعض ممن يتابع المسلسلات التركية في الوفد العربي خلال حديث سابق أنه رأى لقطة لأداء لصلاة في مسلسل تركي.
ملاحظة هذا الزميل في حينها أثارت ضحكات البعض، وانتهت بتعليق من أحدهم 'للأسف الدين لدينا كعرب ولدى من يطرحون أنفسهم كليبراليين لا يرتبط سوى بكبار السن وبمشاهد العزاء، في حين أن تركيا العصرية أعطت صورًا نمطية عصرية للإسلام المنفتح على كل تطور وتقدم'
هذه الملاحظة أتت في محلها، فالنمط التركي الذي تشكل بعد مجيء حكومات حزب العدالة والتنمية أو ما يسميه البعض توازنا بين التراث والعصرنة، فلا يقطع الجذور، وفي الوقت نفسه لا يرفض الورود الجميلة وإن كانت هجينا.
المسجد من الداخل ويظهر فيه إهتمام الأتراك بالزخارف الإسلامية
خطبة الجمعة التي قدر الله أن نحضر قبل أن تبدأ، كان مطلعها وعباراتها الاستهلالية باللغة العربية، قبل أن يتحول الخطيب بطبيعة الحال إلى اللغة التركية، ما أتاح لنا فرصة مراقبة ما يحصل حولنا وما يحيط بنا من زخارف في المسجد توضح كيف يهتم الأتراك بالمساجد وكيف يعنون بزينتها.
اللافت أننا كوفد عربي، ورغم أننا أتينا من عالم عربي يشهد فتنا طائفية مقيتة يحاول بها زعماء الحرب ودهاقنة السياسة السيطرة على المجتمعات العربية ومقدراتها،إلا أن الوفد بسنته وشيعته أدى الصلاة في المسجد الجامع جنبا إلى جنبا، وحتى من دون أن ينتبه أحد أو يثير كيفية أداء الزملاء الشيعة للصلاة في مسجد للسنة، ليتضح أن المساجد في حقيقتها لله جميعا، وأن التصنيفات التي تفرق ما هي إلا نتيجة لفشل البشر لا الدين.
أحد جدران المسجد التركي
المعادلة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية منذ توليه الحكم قامت على أساس كسب ود الشعب التركي، كل الشعب التركي، عبر سياسة 'خدامين للشعب لا حكام' والتي تركز على توفير الخدمات في كل أنحاء تركيا لتكون حياة المواطن التركي أسهل وأكثر تفاؤلا.
هدف: المدن التركية مراكز للحضارة مرة أخرى
من أهم الخطط التي قامت بها حكومات حزب العدالة والتنمية إعادة الاهتمام بالمدن كمراكز حضارية تنطلق منها الأمة التركية للتقدم والازدهار، ولهذا وحتى قبل فوز الحزب في انتخابات عام 2002 قدم رجب طيب أردوغان مثالا حيا، حينما كان عمدة لمدينة أسطنبول، في كيفية تحويل مدينة بهذا الحجم من مرتع للفساد والرشوات والنقص الخدماتي الحاد وشح للمياه، إلى مدينة متطورة وعصرية مليئة بالمرافق الجميلة والحدائق الغناء التي توفر جوا ملائما يتيح للمواطن التركي الاستمتاع الذي ينعكس إيجابيا على أدائه في الإنتاج والعمل.
لكن عمليا، كيف تم ذلك؟ وكيف عالج الحزب قضايا تشكل معضلة للأحزاب كافة في العالم، كالتعامل مع قضايا المرأة والشباب والأقليات ؟ وما هي الكيفية التي اتبعها في النهج الاقتصادي الذي أتاح التعامل مع الموارد وتطويرها لتوفر ليس فقط مستوى معيشيًا جيدًا، بل تتيح أيضا لتركيا أن تتنافس مع اقتصاديات عالمية عريقة وتتفوق عليها؟!
هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات تم عقد مؤتمر على هامش زيارة الوفد العربي للإجابة عليها طيلة يومين بمشاركة برلمانيين وسياسيين وأكاديميين أتراك، وللحديث أيضاً عن أدوار حزب العدالة والتنمية المتنوعة في تجديد سياسة التعاطي مع الشأن العام.
مفهوم : الدولة التركية في خدمة المجتمع
عضوة البرلمان التركي أديبة سوزان النائبة عن مدينة اسطنبول تقول أن الحزب قرر وببساطة أن يجعل سياساته موجهة لخدمة الشعب التركي، ولهذا استطاع تغيير مفهوم عمل الدولة التركية ليجعلها في خدمة المجتمع، وذلك كان -كما تقول أديبة- بمثابة توقيع عقد جديد بين الدولة والشعب، فالدولة تسعى دوما إلى رفاهية الشعب والارتقاء بأمره، وهو ما ورد حرفيا في الدستور التركي.
أديبة تبين أن تركيا استفادت من نقاط الضعف في ثورات بلدان البلقان التي اندلعت في السنوات الأخيرة، فتعاملت مع القضايا التي تواجهها باعتماد حزب العدالة والتنمية على مبادئ حقوق الإنسان عبر ما أسمته ثورة صامتة قام بها الحزب في هذا الشأن لإبراز مفاهيم حقوق الإنسان.
النائبة عن الحزب ذي الجذور الإسلامية -وهي بالمناسبة غير محجبة- تقول أن حزب العدالة والتنمية اكتسب سمعة عالمية عبر التعامل مع هدف تركيا بالسعي إلى الحصول على عضوية الاتحاد الأوربي وما قام به الحزب من خطوات إصلاحية لتحقيق ذلك ونجح فيها منذ العام 2005.
الحزب لم يتأثر بمحاولات تعطيله وإلغاءه ومن ذلك محاولات حله قضائيا العام 2008 وهي المحاولات التي رفضتها حتى بعض الاحزاب الليبرالية في تركيا ورفضتها كذلك دول أوربية عدة فسقطت الدعوى القضائية لتشير الدكتورة أديبة من خلال هذا الحديث و من طرف خفي إلى أن حزب العدالة والتنمية أستطاع أن يكسب احترام حتى منافسيه بإتباعه سياسات متوازنة ,ولهذا السبب أستطاع القيام بإصلاحات جذرية في شأن القضاء منها تغيير تشكيل المحكمة الدستورية كما استطاع تغيير مواد دستورية لم تتغير منذ ثلاثين سنة.
الأكاديمية المتخصصة في تحولات البنية الاجتماعية وحقوق الإنسان تذكر أن تركيا دولة مسلمة، ولهذا فمن الطبيعي أن تهتم بحقوق الإنسان، ومع ذلك يتساءل بعض الأوربيين كيف استطاعت تركيا الوصول لهذه المكانة الدولية؟! ويتساءلون كذلك هل نمط حزب العدالة والتنمية يشابه الأحزاب السياسية المسيحية في أوربا، أم أنه أنشئ وفق نمط ثالث؟
وفي إجابة على هذه التساؤلات، تقول أديبة 'نحن دولة إسلامية، وفي إصلاحاتنا نضع في الاعتبار حقوق الإنسان وحرية المواطنين، ومع ذلك فلكل دولة خصوصيتها'.
الحزب قام بتغييرات جذرية في السياسة الخارجية، واتبع سياسات غير تقليدية، ولذلك ترى الدكتورة أديبة أن من النتائج الإيجابية لهذه التغييرات تحسن العلاقات مع الشرق الأوسط بعد أن كانت العلاقات شبه منقطعة، وتضيف 'كما أن العلاقة مع دول الجوار لم تعد تقوم على الخوف المتبادل'.
وتشرح الدكتورة أديبة كيف نجح حزب العدالة والتنمية في تطبيق السياسات الاقتصادية 'لا نتكلم هنا عن تحرك رؤوس الأموال، بل عن كيفية توظيف هذه الأموال بما يخلق مجتمعا منتجا عبر نهج يراعى العوامل الاجتماعية عن طريق تقديم مساعدات للفقراء والمحتاجين كي يجدوا فرصا مناسبة.
عضوة البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية الدكتورة أديبه سوزان والدكتور حسين يايمان
الحديث عن النظريات الاقتصادية التي اتبعها حزب العدالة والتنمية طوال تسع سنوات في الحكم بدا شيقا ومهما لأعضاء في الوفد العربي، خصوصا أن الاقتصاد الضعيف والإخفاقات المستمرة في توفير حد أدنى من الدخل يوفر الحياة الكريمة والكرامة كان من أهم الأسباب في قيام الثورات العربية على أنظمة الحكم التي لم تكن برأي هذه الشعوب سوى عصابات منظمة استولت على مقاليد الدول ووظفتها لصالحها.
لهذا كان من المهم معرفة الكيفية التي تعاملت بها الحكومة التركية مع المشاكل الهيكلية التي أنهكت الاقتصاد التركي، وحولته من اقتصاد شبه منهار عام 2001 إلى اقتصاد يحتل المركز الثامن عشر عالميا ويسعى إلى أن يحتل المركز العاشر.
هل لحزب العدالة والتنمية نظرية اقتصادية خاصة به ؟
نائب رئيس الحزب للشؤون الاقتصادية وعضو الإدارة الاقتصادية في حزب العدالة والتنمية أستاذ الاقتصاد في جامعة أنقرة الدكتور بولنت جدكل، والذي كانت رسالته للدكتوراه تتعلق في 'جودة الإدارة العامة للتحويل في النفقات في الميزانية على أساس الأداء في تركيا'، يشرح للوفد مفهوم الدولة الذي تقوم عليه إدارة الحزب للشأن الاقتصادي وهو السوق الحرة ورقابة السوق، حيث تبنى الخطة الاقتصادية للحزب وفق هذا المفهوم المتوازن الذي يتيح الحرية الاقتصادية ولكن وفق رقابة من الدولة لا تعيق، وتضمن في الوقت نفسه عدم جنوح الاقتصاد للجشع الرأسمالي.
وقال جدكل أن مفهوم الحزب لأدوار الدولة في الاقتصاد يتم وفق الآتي:
-تقديم الخدمات العامة، فخلال السنوات الثلاث الماضية، أي منذ 2008 إلى 2011، تحولت تركيا إلى أشبه ما يكون بورشة للحديد بسبب المشاريع المستمرة، ومن نتائج ذلك وصول عدد المطارات في تركيا إلى 47 مطارا، كما أن تركيا أصبح لديها قطار سريع على النمط الحديث، موضحا أن تنفيذ هذه المشاريع يتم عبر خصخصة الخدمات لتنفذها شركات القطاع الخاص بأنماط مختلفة طبقا لطبيعة المشاريع الخدماتية.
-التنظيم والإشراف والرقابة على الاقتصاد بشكل عادل يشمل الجميع، فالحكومة التركية -وفقا لهذا المفهوم الاقتصادي- حكومة منظمة وليست مشغلة، أما الرقابة فترك جزء منها لمؤسسات مختصة تراقب الاحتكار والفساد المالي.
- تركيا دولة المجتمع، أي أن الأهداف الرئيسية للخطط الاقتصادية لا تقوم فقط على تحقيق الربح، بل تركز أيضا وبشكل مواز على تخفيض نسبة الفقر، ففي تركيا -حسب الدكتور جدكل- لا يوجد فرد دخله أقل من دولار في اليوم (30 دولارا في الشهر)، فالحكومة تحارب الفقر بطرق عدة، منها نظام المساعدات الاجتماعية الذي يساعد المواطن التركي المعوز على التحول تدريجيا لفرد منتج، لهذا -وفي الوقت الذي يتضاءل فيه المفهوم الاجتماعي في الاقتصاديات العالمية في العالم- فإأنه يتزايد في تركيا.
ويبين جدكل أن تركيا وخلال الثماني سنوات الأخيرة حققت إصلاحات مهمة ضد الإسراف في النفقات العامة، وضد الفساد في القطاع العام، كما لجأت إلى خفض نسب الضرائب في قطاعات مهمة تشجيعا للإنفاق العام وتسهيلا لإنجاز المشروعات الكبرى التي تحتاجها المدن والبلدات التركية، وهي إصلاحات يعتبرها جدكل مهمة جدا.
وبنظرة فخر يخاطب جدكل الوفد العربي 'لم نصل إلى درجة الصفر بعد في معدلات الفساد والإسراف في النفقات العامة، ولكننا نكاد نقترب من ذلك، فمنذ فترة طويلة لم يعد يسمع أحد بقضية تلاعب في المناقصات كبيرة'.
إسطنبول مركز عالمي للطاقة والتمويل
الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد -والذي عمل في قطاعات حكومية متعددة تعنى بتطوير الاقتصاد التركي وبعد أن شرح النظرية التي قامت عليها مشاريع حزب العدالة والتنمية الاقتصادية، وبعد أن قدم أمثلة لنجاحها- ينقل الوفد العربي إلى أهداف أخرى للحزب في الشأن الاقتصادي من شأنها أن تخلق لتركيا دورا رياديا في الاقتصاد العالمي، ومنها العمل على أن تكون مدينة إسطنبول مركزا للتمويل في العالم كما نيويورك ولندن، كما يطرح فكرة أن تكون إسطنبول مركزا للطاقة في العالم عبر مشروع إنشاء بورصة الطاقة، فلطالما كانت تركيا نقطة عبور للطاقة من مصادرها في جمهوريات آسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى مستهلكيها في أوربا ومناطق أخرى، فتركيا -وفق رأي جدكل- تصلح بطبيعة الحال لأن تكون مكانا مناسبا لهذه البورصة، ويكشف كذلك عن أفكار لإيجاد مصادر جديدة للطاقة في تركيا لتكون مركزا للطاقة في العالم.
جدكل يعتبر القطاع الخاص هو المحرك الحقيقي للتنمية، ولهذا السبب قامت الحكومة التركية بتطوير قوانين عدة لخدمة هذا القطاع ليصب ذلك من أجل الهدف المعلن وهو جعل تركيا عاشر اقتصاد في العالم.
أسئلة الوفد العربي ركزت على الكيفية التي يمكن من خلالها حماية المواطنين من الجشع الذي تتسم به الرأسمالية بطبيعتها، إلا أن جدكل يوضح أن الرأسمالية تختلف عن اقتصاد السوق قبل أن يبين أن تركيا -ووفق رؤية حزب العدالة والتنمية- تتبع ما أسماه اقتصاد السوق المجتمعي، وحين تساءل أحد أعضاء الوفد العربي عن أي نظرية اقتصادية يتبعها هذا النوع من الاقتصاد، يجيب جدكل 'هي ليست نظرية محددة بل تطبيقات عملية ناشئة عن تجاربنا، أي أن النظرية أتت لاحقا ووفق ما نشأ من تجاربنا من قواعد.
مدى التوافق بين الاقتصاد التركي والشريعة
سؤال مهم طرحه عضو في الوفد العربي تساءل فيه عما إذا كان حزب العدالة والتنمية يتبع الشريعة الإسلامية في مشاريعه الاقتصادية طالما كان حزبا ذا خلفية إسلامية، يجيب عليه جدكل بتصحيح صيغة السؤال ليكون 'السؤال هل مشاريعنا تتوافق مع الإسلام؟' ويواصل الإجابة 'نحن نستفيد من كل التجارب، فكما أن الإسلام استفاد من تجارب الحضارات الأخرى نستفيد نحن من تجارب الآخرين، فنظامنا الاقتصادي مفتوح والفكرة الأساسية هي الاستفادة من التجارب، فعلى سبيل المثال الفساد في الاقتصاد التركي كان مصدره البنوك وذلك عبر ما يسمى بالقروض الفاسدة، وقد تصدينا لذلك بتنظيم العمل المصرفي ووضع أنظمة صارمة، أما في البلديات والتي تقوم بمشاريع البنى التحتية فقد تم وضع أنظمة إصلاحية تراقب الصرف وتزيد من مقدار الشفافية'.
حديث جدكل بدا مقنعا ومنظما، وساد انطباع لدى المستمعين من أعضاء الوفد العربي وخصوصا البرلمانيين منهم أن هذا الاقتصادي التركي المحنك وضع يده على الجرح العربي النازف الذي يتمثل بضياع الموارد في معظم الدول العربية إما عبر إسراف في النفقات العامة من دون خطط محكمة، أو من خلال عمليات فساد منهجية تشرف عليها الطبقة المحيطة بالرؤساء والزعماء العرب، وفي أحايين كثيرة الرؤساء والزعماء أنفسهم ،ولهذا راودت بعض أعضاء الوفد العربي المثقل بالهم العروبي أحلام وأماني بأن يؤدي الربيع العربي ثماره قريبا.
متابعة من أعضاء في الوفد العربي للمحاضرين الأتراك
لا ترشح لفترة ثالثة بما في ذلك أردوغان
الحزب الحاكم في كل بلد عليه أن يقدم الحلول في مجالات عدة، ولهذا تحظى الدول المتقدمة ديمقراطيا واقتصاديا بعمل حزبي منظم يقوم على الخطط لا الاجتهادات العشوائية، وهو ربما ما تفتقده الأحزاب العربية والتي تحولت إلى مجرد أنظمة شبيهة بالأنظمة الحاكمة، حيث لا يتغير رئيس الحزب ويبقى إلى الأبد إلى أن يجد أعضاء الحزب أنهم وحزبهم أصبحوا عالة على الدولة.
حزب العدالة والتنمية في تجربته المتفردة في التعاطي مع الشأن العام انتبه إلى هذه الإشكالية، فقرر ألا يترشح أعضاؤه لأكثر من ثلاث دورات انتخابية، وهو قرار يشمل الجميع في الحزب، ولهذا لم يكن مفاجئا للأتراك أن يعلن رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان وهو في أوج انتصاره كزعيم لحزب يحكم تركيا للمرة الثالثة على التوالي أنه لن يترشح في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
بهكذا عقلية ورؤية استطاع الحزب حلحلة أكثر مشاكل تركيا تعقيدان ومنها على سبيل المثال مشكلة التعاطي مع مطالبات الأكراد في جنوب و شرق تركيا، وهي معضلة كبيرة واجهت الحكومات التركية السابقة وسالت دماء كثيرة من الجانبين التركي والكردي بسببها، إلا أن حزب العدالة والتنمية استطاع التعامل معها بنفس طويل وبرؤية جديدة لم تقم على تبني رأي لا يقبل التغيير، ولهذا استطاع أن يحصل على مقاعد برلمانية في انتخابات عام 2007 بمرشحيه في المناطق ذات الغالبية الكردية فاقت عدد المقاعد التي حصلت عليها الأحزاب الكردية نفسها، وهو ما اعتبره محللون تصويتا من المناطق الكردية على عدم الرغبة في الانفصال، وهو الهدف المعلن لحزب العمال الكردستاني والذي خاض حربا طويلة من أجل دولة كردية مستقلة.
الأتراك والأكراد من الدم إلى السلم
في جلسة خصصت لهذا الشأن خلال زيارة الوفد العربي يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة غازي الدكتور حسين يايمان أن تركيا واجهت القضية الكردية منذ تأسيس تركيا، وإلى عام 2000 تم التعامل معها على اعتبار أنها مسألة أمنية مع إنكارها كقضية قومية، إلى أن أتت أولى حكومات حزب العدالة والتنمية فبدأت المرحلة الثانية، فكانت محاولات حلها بشكل ديمقراطي وعبر مفاهيم حقوق الإنسان.
ويضيف 'الأتراك والأكراد إخوان منذ مئة سنة، وكل مواطن له حقوق وفق الدستور، لهذا قام حزب العدالة والتنمية بتغيير سياسة الدولة في هذا الشأن، فوضع العلاقة مع الأكراد على أساس المواطنة وعلى أساس إعطاء الحقوق وهكذا وخلال الثماني سنوات الماضية حقق الحزب ما أسماه يايمان انقلابا صامتا عبر 'وضع قضايا الإسلام والأخوة الإسلامية لتطفو على السطح وبالتأكيد وفق مفهوم دمقرطة تركيا'.
ويشرح يايمان كيف استطاع الحزب الحاكم تحقيق ذلك عمليا 'أردوغان كان ديمقراطيا في المسألة الكردية بالأفعال لا الاقوال، ومن ذلك السماح بالتدريس باللغة الكردية، والموافقة على إنشاء محطات تلفزيونية باللغة الكردية، والقيام بإلغاء محكمة أمن الدولة، إضافة إلى إجراءات أخرى، ولهذه الأسباب حزب العدالة والتنمية يأتي أولا في الانتخابات البرلمانية في المناطق التي تسكنها أغلبية كردية ومتفوقا حتى على الأحزاب الكردية'.
وينوه أن ذلك حصل بالاتفاق بين الحزب والعسكر والبيروقراطية (البيروقراطية: القضاء والشخصيات التي تدعم علمانية تركيا) وكان دور حزب العدالة والتنمية في ذلك دعم أي حلول تهتم بتحقيق العدالة الاجتماعية والاعتراف بالحقوق الثقافية وبالمساواة وبالمواطنة فيما يتعلق بالقضية الكردية.
(غدا الحلقة الخامسة : موقف حزب العدالة والتنمية والأحزاب العلمانية من قضية منع الحجاب في الجامعات وحظره في البرلمان )
الحلقة الخامسة اضغط هنا
تعليقات