تركيا العثمانية العلمانية وشرف صندوق الانتخابات (الحلقة الثالثة)

عربي و دولي

سلسلة تحقيقات عن التحولات في الجمهورية التركية تنشرها ((الآن)) على حلقات

داهم القحطاني 2605 مشاهدات 0

لقطة من الأعلى للعاصمة التركية أنقره

 

انتهت مطلع شهر يونيو الجاري الانتخابات التركية بفوز كبير لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أوردغان لفترة ثالثة ليتولي هذا الحزب حكم تركيا للمرة الثالثة على التوالي في إنجاز لم يسبقه إليه حزب تركي آخر.

 

 

وتزامنا مع هذا الحدث المهم، ومع المرحلة المقبلة والتي يتوقع فيها أن تكون للسياسة التركية في منطقة الشرق الأوسط تأثيرات أكبر، تنشر جريدة الآن الإلكترونية  وعلى حلقات سلسلة من التحقيقات قام بها الكاتب والمدون داهم القحطاني خلال رحلة سياسية شارك فيها مؤخرا في الجمهورية التركية، وضمت الرحلة سياسيين وبرلمانيين وأكاديميين من عدد من الدول العربية.

 

 

 

حزب العدالة والتنمية... الإصلاح حينما يصبح حقيقيا

 النقاشات التي تدور في ردهة فندق شيراتون أنقرة  بين أعضاء الوفد العربي مساءً بعد انتهاء اللقاءات والزيارات، كانت بحد ذاتها رحلة ثرية وغنية، إذ يتم عبرها تبادل مئات القصص والطرائف والآهات والحسرات والضحكات حول الواقع العربي المليء بالإحباطات مع استثناءات قليلة للتفاؤل.

 

 ونظرا لتنوع الوفد وتشكله من شخصيات سياسية وبرلمانية وأكاديمية ذات خبرة وباع طويل أتيحت للجميع معلومات عن بلدان عربية أخرى قد لا تتوفر لغيرهم حتى في داخل تلك الأوطان فالبساط كما يقال كان أحمديا.

 

 النقاش بالفعل كان ثريا، وأتاح لنا الاطلاع على خفايا لم تذكر في الثورتين التونسية والمصرية وعلى الكيفية التي ينظر بها الشعبان التونسي والمصري إلى المستقبل في ظل تباطؤ التغييرات رغم زخم هاتين الثورتين، ما جعل المشاركين من الدول الأخرى يقدمون مقترحات بديلة يرونها ضرورة في حين يصر من حضر من تونس ومصر على أن الوضع في الداخل يختلف كثيرا عما توصله وسائل الإعلام إلى الخارج... وحقا وكما قال العرب قديما 'ليس من رأى كمن سمع'.

 

 ويمر الحديث بالعراق وبالتطورات التي تعصف باستقراره تارة، وبالتحركات التي تشيع جوا من التفاؤل فيه تارة أخرى، وتبدأ إثر ذلك سلسلة من التحليلات التي يتطوع بها مشاركون في الوفد العربي من غير العراق قبل أن تسمع تعليقات من مشاركين عراقيين تفيد بأن الأوضاع وإن كانت سيئة إلا أنها حتما ستتحسن 'فالعراق تاريخ وحضارة ولن يهزم في معركة نهوضه بغض النظر عمن يحكمه'

 

 ويمضي قطار النقاش ليمر بمملكة البحرين وما تشهده من أحداث يعتبرها البعض محاولات للهيمنة الإيرانية عبر الأغلبية الشيعية في حين يراها بعض آخر بأنها مجرد مطالبات لفئة عانت الكثير من الظلم في حين يؤكد بعض ثالث أن الأمر بين هذا وذاك.

 

 

هل سيبحث الربيع العربي عن هويته في تركيا ؟

 ذن الربيع العربي الذي لا يزال يحصل في الوطن العربي لا يزال يبحث عن هويته، ولا يزال السياسيون والمفكرون يبحثون السؤال الأهم: هل من المناسب مواصلة التجارب المريرة والمريعة إلى حين الوصول إلى أنموذج خاص بكل بلد يعكس ثقافة وفكر وتاريخ هذا البلد ولو كان  ذلك على حساب دفع تضحيات كبيرة تؤخر الاستقرار والتنمية؟ أم أن المنطق يقول أن الدول التي تخرج للتو من أتون الديكتاتورية عليها البحث عن أنموذج لبلد مشابه لطبيعتها ثم يتم تعديل هذا الأنموذج تدريجيا ليتمخض عنه نظام سياسي قادر على تحقيق الأهداف والآمال التي كانت وراء قيام الثورات العربية؟!.

 

 خلال نقاشات أعضاء الوفد العربي في أنقرة كان أنموذج حزب العدالة والتنمية التركي حاضرا على الدوام، فالجميع تقريبا كانوا  يثنون على النجاحات التي حققها الحزب في حكم تركيا منذ العام 2002 رغم أنه أتى في فترة تحولات مهمة في التاريخ التركي، وواجه خلال ذلك بيئة علمانية آنذاك لم تكن تشجع على تولي حزب ذي توجهات إسلامية في جمهورية تضع حماية النظام العلماني في عهدة جنرالات جيش له تاريخ في الانقلاب على الحكم المدني، وفي حماية قضاء لا يتساهل مع أي شبهة للمس بالعلمانية كنظام ولو كان ذلك مجرد طرح لفكرة السماح بارتداء النساء للحجاب في الجامعات!

 

لهذا كله كانت تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم من أهم محطات رحلة الوفد العربي إلى تركيا.

 



 
الزميل داهم القحطاني ولقطة تذكارية من على منصة لحزب العدالة والتنمية

 

حزب العدالة والتنمية..التاريخ والحاضر والمستقبل

ولكن قبل ذلك ما هو حزب العدالة والتنمية؟ وماذا يمثل سياسيا وفكريا؟ وما هي النظريات التي يتبناها؟

حزب العدالة والتنمية والذي اشتهر بعبارة طالما كررها أحد رؤسائه وأحد أهم مؤسسيه طيب رجب أردوغان رئيس الوزراء الحالي 'نحن أتينا كخادمين للشعب لا كحكام'، هذا الحزب يطرح نفسه كحزب محافظ معتدل. 

ورغم أن الكثيرين يعتبرون أن لحزب العدالة والتنمية  جذورًا وتوجهات إسلامية، إلا أن الحزب لا يرى نفسه كذلك، فالشعارات التي يطلقها لا تتضمن شعارات إسلامية محددة، ليس فقط لأن الدستور التركي حساس جداً من هذا الطرح، بل ربما لأن المصلحة تتطلب طرحا براغماتيا برع الحزب فيه، ولهذا  ينفي أن يكون حزبا إسلاميا، ويحرص على ألا يستخدم الشعارات الدينية في خطابه السياسي.

 حزب العدالة والتنمية ذو الطرح العصري والمحافظ والمعتدل تشكل بعد انشقاق بعض النواب عن حزب الفضيلة المحافظ إثر قرار المحكمة الدستورية بحل هذا الحزب عام 2001، ليكون مصيره مشابها للحزب الذي قام على أنقاضه وهو حزب الرفاه الإسلامي الذي رأسه رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان.

 

 يطلق البعض على قادة حزب العدالة والتنمية لقب 'العثمانيون الجدد' نتيجة لسياساته الخارجية التي تتقارب مع الدول العربية والإسلامية، ما جعل المراقبين يرددون مقولات مفادها أن الدولة العثمانية التي حكمت الشرق العربي تعود من جديد عبر وجوه 'عثمانية' جديدة  كرئيس الوزراء طيب رجب أردوغان أو كالرئيس التركي الحالي عبدالله غول أو وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو والذي لم يتردد -ردا على وصف قادة حزب العدالة والتنمية بالعثمانيين الجدد- بالاعتزاز بما أسماه ميراث الدولة العثمانية، وبلقب العثمانيين الجدد ما جعله يعطي أوامره للخارجية التركية وفق أحد تصريحاته، بأن يجد الرئيس الفرنسي ساركوزي، الذي يرفض بشدة انضمام تركيا للاتحاد الأوربي،  سفارة تركية في كل بلد وفي أحسن المواقع ردا على ما أسماه أوغلو 'تعقب فرنسي وراء الدور التركي في أفريقيا'.

 

 حزب العدالة والتنمية الذي نجا من الحل عام 2008  بسبب تهمة 'قيادة تركيا نحو أسلمة المجتمع بعيدا عن العلمانية' لم تؤثر هذه الاتهامات على فرص فوزه المتكرر وللمرة الثالثة في الانتخابات البرلمانية، ففي انتخابات العام 2002 وبعد أشهر قليلة من تأسيسه فاز الحزب بما نسبته 34 في المئة من الأصوات وبـ 363 مقعدا في البرلمان  من أصل 550 في حين حصل منافسه حزب الشعب الجمهوري على نسبة 19 في المئة وبـ 178 مقعدا ليتمكن حزب العدالة والتنمية من تشكيل الحكومة التي رأسها ذلك الحين عبدالله غول لفترة بسيطة قبل أن يصدر قانون يزيل حظر الترشح عن طيب رجب أروغان، والذي كان قد حظر ترشيحه رغم أنه كان رئيساً للحزب حينها، بسبب إدانته بتهمة التحريض على الكراهية الدينية حينما قال وهو رئيس لبلدية إسطنبول  'عندما تصبح المآذن سيوفنا والقباب خوذاتنا والمؤمنون جيوشنا'، لينتخب بعد إزالة حظر الترشيح  كنائب في إحدى الدوائر التي شهدت إعادة للانتخابات ويتولى لاحقا رئاسة الوزراء ويعود غول إلى منصب وزير الخارجية.

 

 انتخابات العام 2007 والتي اعتبرها بعض المحللين الأخطر في تاريخ تركيا لأن الشعارات التي رفعتها الأحزاب المنافسة لحزب العدالة والتنمية كانت الحفاظ على علمانية الجمهورية، انتهت بفوز ساحق لحزب العدالة والتنمية حيث حصل على 47 في المئة من الأصوات وعلى 341 مقعدا في البرلمان من أصل 550 في حين حصل منافسه حزب الشعب الجمهوري على ما نسبته 21 في المئة من الأصوات وعلى 112 مقعدا ما يبين مدى نجاح حزب العدالة والتنمية في الحكم واكتسابه ثقة الشعب التركي خصوصا في المناطق الكردية حيث حصل على أصوات أعلى من الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب الكردية ذاتها.

 

 أما في انتخابات العام 2011 التي أجريت مطلع الأسبوع الحالي فقد ارتفعت نسبة حزب العدالة والتنمية إلى 50.4 في المئة من مجموع الأصوات وحصل على 326 مقعدا  في حين حصل منافسه حزب الشعب الجمهوري على ما نسبته 25 في المئة من مجموع الأصوات  وعلى 135 مقعدا.



نائب رئيس حزب العدالة والتنمية لشؤون السياسة الخارجية عمر تشيليك

 

هكذا  يشكل حزب العدالة والتنمية سياساته الخارجية

هذه الانتصارات جعلت من قراءة نهج حزب العدالة والتنمية من الداخل وعبر أحد مؤسسيه فرصة لا تفوت لتشكيل رؤية أقرب للصحة ولهذا حظت المحاضرة -التي ألقاها على الوفد العربي أحد صناع السياسة في الحزب نائب رئيس حزب العدالة والتنمية لشؤون السياسة الخارجية الدكتور عمر تشيليك النائب في البرلمان التركي عن مدينة إسطنبول- بالاهتمام الكبير الذي يتناسب مع تأثير الرجل في الحزب.

 تشيليك تحدث مطولا وباهتمام وعمق ما يبين أن حزب العدالة والتنمية يراهن كثيرا على هذا المؤتمر في خلق توجهات في الرأي العربي وفي البرلمانات العربية تدعم التقارب مع تركيا وتتفهم وتتفاعل مع السياسات التركية في المنطقة العربية.

 

 منذ البداية  لم يبتعد تشيليك عن تخصصه كأستاذ للعلوم السياسية، فبدأ الحديث بالتذكير بأن الحضارات تتغير بمر الزمن 'فالإمبراطوريات التي حكمت العالم كالإمبراطورية الرومانية والعثمانية وحاليا الأميركية تتغير وفقا للتغيرات الزمنية ما يجعل من الصعب على الجميع بما في ذلك أنا كأستاذ للعلوم السياسية،  مواكبة سرعة التغييرات التي تحصل حاليا في الوطن العربي، لهذا من المهم جدا التهيؤ للتغييرات كي يمكن التعامل معها'.

 

 وفي إشارة لافتة تنم عن فطنة ومتابعة، يقول تشيليك في إسقاط تاريخي 'معظم الكتب تقول أن باب الاجتهاد قد أقفل... وحين أغلق باب الاجتهاد في الجزائر رأينا كيف فتح في ميدان التحرير'.

 

 السياسي التركي الذي جمع بين أكاديمية السياسية وبين ممارستها كقيادي في حزب مدني ذي جذور إسلامية، وجّه ملاحظة نقدية شديدة لخطاب الإسلام السياسي حين لاحظ عدم وجود ما أسماه الفكر السياسي أو العقيدة السياسية 'فمقولات مثل الحل في الإسلام ليست سوى عبارة عاطفية والإيمان بها أمر، ولكن تحويلها إلى مشروع سياسي أمر آخر!'

 

 ويعرض تشيليك كيف تعامل حزب العدالة والتنمية مع مثل هذه الشعارات، حينما قال أنه يرفض القول أن الحزب واءم بين الإسلام والسياسة، فتلك مقولة غربية يرفضها فهناك ثقافة إسلامية وهناك فكر سياسي إسلامي، فالدين وفق فهم تشيليك ليس مشروعا سياسيا ولكن عبر ظلاله من الممكن الوصول إلى مشروع سياسي'.

 

 ويشير تشيليك إلى النهج الذي يمكن معه تحويل المقولات العاطفية إلى مشروع سياسي، حينما يربط بين الأيدولوجيات التي قيل أنها قاسية وستزول لأنها كقميص مجنون ألبس لإنسان، وبين توفير الخدمات العامة وبناء المستشفيات والأنفاق وتحسين البنى التحتية، فالفكر السياسي ليس مجرد تمثال لرجل يفكر يوضع في الحدائق العامة.

 

 وفي عودة لانتقاد الخطاب السياسي للإسلام السياسي يقول 'إن الفكر الإسلامي السني رفض رفع الصوت أمام الحكام الظالمين درءاً للفتنة، ولهذا كانت السلطة تحصل على المشروعية من هذا الفكر لمجرد القول أن القوميين العرب والأتراك هم الأعداء في الخارج، ولهذا كان هذا الفكر يقول بوجوب إرجاء الحريات ودولة المؤسسات'.

 

 وهكذا يفسر تشيليك تأخر الربيع العربي عشرين عاما عن وقته الطبيعي حين انهارت الأنظمة في أوربا الشرقية بالقول 'إن  فترة الحكم الطويلة للأنظمة العربية والتي لم تأت بالحريات ولا بالحقوق تطلب الأمر أن يتم إدخال المفاهيم العصرية في الحكم فالحياة التي تفتقد الحرية يجب ألا تستمر'.

 

وينتقل تشيليك إلى الثورات العربية والذي رأى أنها تحولت من مطالبات في الشارع من أجل الحريات والحقوق والكرامة إلى ثورة لم يتحدد النموذج الأمثل لها بعد.

 

وفي محاولة للتقريب بين نموذج الحكم في تركيا ممثلا بحزب العدالة والتنمية، وبين الثورات العربية، يشير تشيليك أن حزب العدالة والتنمية أثبت أن الفكر السياسي الإسلامي يتواءم مع مفاهيم الديمقراطية والمجتمع المدني.

 

وفي مقارنة مباشرة، يقول أن الأيدولوجيات التي حكمت في السابق في تونس ومصر،  ومفادها أن الديمقراطية ستفتت وحدة المجتمع وستثير النعرات، سبق أن طبقت في تركيا ومع ذلك مضت تركيا في درب الديمقراطية، وعانت الكثير من الانقلابات العسكرية ومن شنق أحد رؤساء الوزراء، ومع ذلك لم يتم التراجع طالما كان الشعب هو من طلب النظام الديمقراطي.

 

العلاقة بين المركز والأطراف في تركيا قبل مجيء حزب العدالة والتنمية كانت تقوم على سياسة تهمل الأطراف وتركز فقط على المركز، أي فقط المدن الكبرى، كما كانت تقوم على تعزيز  مفاهيم العصرنة من دون  مواءمتها مع المجتمع التركي إلى أن تحول الحزب السياسي بسبب ذلك إلى أشبه ما يكون بشركة سياسية، وبحيث لا ينتج عن الحزب الذي يصل للسلطة أي سياسة توصل تركيا إلى مراتب أعلى.... هكذا يصف تشيليك المشهد التركي قبل أن يقول 'أن حزب العدالة والتنمية أسس على مفهوم يزيل كل هذه المفاهيم، ويهدف إلى بناء نظام سياسي يوائم بين الحداثة والعصرنة، وبين المحافظة والعادات والتقاليد من دون أن يكون بينهما صراع بالضرورة'.

 

ويختم تشيليك بالقول أن هذه التغييرات جعلت تركيا اليوم تعتبر من المراكز الاقتصادية المعروفة في العالم، كما جعلها تملك ديمقراطية راسخة ومجتمعًا مدنيًا نشطًا يعمل في ظل سيادة القانون.

 

حزب العدالة حكم تركيا 'برفاه' و'فضيلة' 

 

لحزب العدالة والتنمية قصة ليست ككل القصص، فالحزب الذي تأسس عام 2002 لخوض الانتخابات البرلمانية عبر اجتماع 45 شخصية سياسية من بينهم 13 امرأة، لم يقم على أنقاض حزب الرفاه أو الفضيلة تماما، إنما استلهم من هذين الحزبين روحهما الإسلامية المحافظة من دون أن يكون لذلك أثر واضح في أدبيات الحزب، فالحزب يطرح نفسه كحزب مدني يركز على القضايا المختلفة وفق شعار 'التنمية يجب أن تتم بعدالة'، وهو مفهوم إذا ما أرجعناه إلى حالته الأولى لوجدناه لب الشريعة الإسلامية ذاتها، ومع ذلك لم يطرحه الحزب كشعار إسلامي له، لأنه وكحزب متجدد ترك الإسلام 'الشعاراتي' وركز على الواقعية في التعامل مع واحد من أكثر الأنظمة الجمهورية تطرفا في العلمنة.

 هذه الواقعية مكنت حزب العدالة والتنمية من الفوز -وعلى غير المتوقع في انتخابات العام 2002- ليقود الحكومة التركية هذه المرة منفردا وليس عبر تحالف مع حزب آخر كما حصل حينما قاد زعيم حزب الرفاه الإسلامي نجم الدين أربكان -في بداية تصاعد المد الإسلامي العام -1997 حكومة تحالف مع زعيمة حزب الطريق القويم  تانسو تشيلر، وذلك في بداية الصعود الإسلامي قبل أن ينتفض حماة علمانية الدولة في الجيش والقضاء ووسائل الإعلام لتنتهي تجربة أربكان بحل حزبه وبمنعه من العمل السياسي لخمسة أعوام.

 

 حزب العدالة والتنمية هذه المرة كان مستعدا لمثل هذه الاحتمالات، فواجهها طوال السنوات التسع بل وتجاوزها عبر سياسة 'خدامين لا حكام'، وعبر الميزة الأهم للديمقراطية التركية والتي أسماها مستشار الرئيس التركي أرشاد هورموزلو 'شرف صندوق الانتخابات' .

 

 

دور الأحزاب كمحرك رئيسي 

 

الأحزاب في تركيا تمول بشكل أساسي بتبرعات من أعضاء الحزب إضافة إلى معونة من الدولة تقدر بعدد المقاعد التي يحصل عليها كل حزب في آخر انتخابات برلمانية، لهذا يجد الراصد للنظام السياسي في تركيا أن الأحزاب -سواء كانت تحكم أو في المعارضة- تعتبر هي الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه الدولة التركية، فالساسة والوزراء وأعضاء البرلمان ومعظم القيادات العليا والوسطى يتلقون تجاربهم السياسية والعملية الأولية عبر الأنشطة الحزبية بمختلف أنواعها، خصوصا أن التنظيم الحزبي في تركيا -كما في  حزب العدالة والتنمية- لا يقوم فقط على الجانب السياسي بل يركز أيضا على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والثقافية، وهذا بالفعل ما تحتاجه كل دولة لتكون الأحزاب محركا رئيسيا لها.


 
الوفد العربي في لقطة تذكارية داخل مقر حزب العدالة والتنمية في أنقره

 

 حزب العدالة والتنمية ... المقر

 المقر الجميل لحزب العدالة والتنمية في العاصمة أنقرة لم يكن مزدحما بالأعضاء خلال زيارة الوفد العربي له، ليس لأن الزيارة وافقت يوم جمعة -كما ظن أحد أعضاء الوفد العربي- بل لأن أغلب الأحزاب التركية كانت منشغلة في فترة الزيارة بحملاتها الانتخابية والتي يجوب خلالها المرشحون مدن وقرى وسهول وسواحل وهضاب وجبال تركيا استعدادا للانتخابات البرلمانية التي جرت مطلع الشهر الحالي، وهي الانتخابات التي تكتسب أهمية خاصة هذا العام  كونها ستسبق أكبر تعديلات ستجرى على الدستور التركي، ليس من قبل حزب العدالة والتنمية فقط كما هو معلن، بل من قبل الأحزاب الأخرى، ولهذا ورغم أن هناك إحساسا بأن حزب العدالة والتنمية سيفوز بأغلبية تتيح له الحكم منفردا، إلا أن الصراع الحقيقي  لدى الأحزاب العلمانية الأخرى يتمحور حول سعيها إلى منع الحزب الحاكم من الحصول على عدد من المقاعد البرلمانية يتيح له تعديل الدستور، عبر تحالفات غير مرهقة مع أحزاب صغيرة.

 

 الجمعة يوم عمل في تركيا، ومع ذلك تتاح الفرصة لتأدية صلاة الجمعة في الجوامع القريبة من مقار الأعمال، ولهذا لم يكن هناك قلق لدى من سأل في الوفد العربي عن إمكانية تأديتها خلال جدول الزيارات لهذ اليوم، خصوصا أن وقت الصلاة يتزامن مع زيارة للوفد لمقر حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية.

 

 قبل ذلك دار حديث سريع حول حكم صلاة الجمعة في السفر، فتم الاتفاق على أنها تسقط عن المسافر وتستبدل بصلاة ظهر تجمع مع عصر، فالإسلام دين السهولة، ومع ذلك لم يكن هناك في الوفد ممن يصلي من يريد تفويت أداء صلاة الجمعة  في أجواء الجوامع  في دولة احتضنت الخلافة الإسلامية  نحو 800 عام.

 

 


ناشطة في حزب العدالة والتنمية تقف أمام صورة لرئيس الحزب طيب رجب أردوغان

 

 

اللقاء كان مع نائب رئيس حزب العدالة والتنمية عبد القادر آكسو، وهو عضو مؤسس في الحزب، وكان قبل ذلك وزيرا للداخلية في عهد الرئيس التركي الثامن تورغوت  أوزال، والذي حكم تركيا منذ 1989 إلى حين وفاته 1993، وهو الرئيس الذي اعتبره آكسو رئيسا إصلاحيا كان يريد تحقيق ما تحقق الآن في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية.

 آكسو، السياسي التركي الذي تبدو على ملامحه الصرامة التركية -والتي يميزها شنب معقوف من الطراز العثماني- لم يفوت فرصة اللقاء بالوفد العربي، كما يقول، لهذا أتى خصيصا قبل ساعات من اسطنبول حيث يخوض حملته الانتخابية للتجديد لمقعده البرلماني الحالي، وسيسافر بعد انتهاء اللقاء بالوفد مباشرة.

 


الحكومات أتت لتكون خادمة للشعب

نائب رئيس الحزب ركز في حديثه على الجانب الأهم -كما يرى-  في حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة منذ العام 2002، حيث يختصر المفاهيم التي قامت عليها تلك الحكومات بالقول أنها 'أتت لتكون خادمة للشعب' عبر توفير احتياجاته الأساسية بشكل عملي وعبر آليات لا ترهق الدولة وعن طريق خطط تنفذ، تبدأ ولا تنتهي، وتصحح مسارها من دون الركون إلى العراقيل. 

 عبر سلسلة من الأمثلة سردها آكسو، ينقل للوفد العربي صورة للخدمات التي تقدمها الحكومة التركية حاليا، خصوصا في القطاع  الصحي، حيث ركزت الحكومة على إصلاح هذا القطاع واعتبرت ذلك  تحديا لا يقبل التراجع، فوحدت كل المستشفيات في تركيا لتكون في عهدة وزارة الصحة لا في عهدة كل جهة على حدة، حيث كان للجيش والشرطة ولكل وزارة مستشفى منفصل لا يتلقى كل الشعب الخدمات الصحية فيه.

 


 
نائب رئيس الحزب عبدالقادر آكسو

 

ويبين أن الخدمات الصحية تتوفر في كل أنحاء تركيا، ويقدم مثالا على ذلك القرى الحدودية التي كانت تعاني ارتفاعا في معدلات موت الحوامل والأجنة بسبب عدم وجود مستشفى للولادة، وخصوصا في القرى التي تصل درجات الحرارة فيها إلى معدلات منخفضة تحت الصفر، حيث عولج ذلك بوضع نظام صحي يتم خلاله نقل النساء الحوامل من تلك القرى النائية إلى مستشفيات ولادة قرى أو مدن حتى قبل موعد الولادة بوقت كاف قد يصل إلى أسابيع.

 

 كلام خدماتي بحت كان آكسو يردده بمتعة شديدة، ما جعل مشاركًا في الوفد العربي يقول بصوت شبه مسموع 'هل أتينا لسماع تقرير طبي؟!' قبل أن يلفت زميل آخر انتباهه إلى أن حزب العدالة والتنمية حقق نجاحاته عبر الاعتماد على سياسة 'خدامين للشعب لا حكام'، فعاد الزميل المتبرم ليبتسم بعد أن فهم المغزى.

 

 آكسو عاد ليؤطر الكلام الخدماتي الذي قاله بإطار سياسي، حيث يركز في طرحه على مفهوم توازي التنمية الاقتصادية مع التنمية الاجتماعية بحيث لا يطغي الاقتصاد على الحاجات المجتمعية ولا تعطل هذه الحاجات مسيرة الاقتصاد، والآلية التي ضبطت هذا التوازن -حسب آكسو- هي عمليات تخصيص مدروسة العواقب والمخاطر.

 

 نائب رئيس الحزب والذي انتبه إلى رغبة أعضاء الوفد العربي في الحديث عن موضوعات تهم المنطقة التي أتوا منها انتقل  إلى الحديث عن السياسة الخارجية لتركيا وعن التوازن الدقيق التي تتعامل به مع جميع البلدان، فتركيا تحت قيادة حزب العدالة لا تريد أن تخسر أحدًا، لهذا تتبع سياسة تصفير الخلافات مع الجيران لتصل إلى الصفر.

 

 

 

القلب التركي  للعرب، والعقل لأوربا، والذراعان للناتو!


 

السياسي التركي المحنك لم يقاوم الانخراط في ضحكة جماعية حينما سأله كاتب هذه السطور السؤال التالي 'تركيا بالفعل مارست الخصخصة بشكل متقن، حيث قامت بخصخصة الجسد التركي فأعطت قلبها للعالم العربي والإسلامي، في حين يسعى عقلها إلى الاتحاد الأوربي، وفي حين تعمل الذراعان مع حلف الناتو'.

حين انتهى من ضحكته المدوية مسح شنبه 'العثماني' بحركة مألوفة تشاهد كثيرا  في المسلسلات التركية وفي الأفلام العربية القديمة، ورد بإجابة سريعة 'حسب المناهج التربوية التركية فإن خصخصة الجسد محظورة والأعضاء البشرية لا يمكن بيعها'.

 

انتهى  اللقاء مع نائب رئيس حزب العدالة والتنمية عبد القادر آكسو بالتقاط صور تذكارية أمام شعار كبير للحزب تمثل بمصباح مضيء برتقالي اللون يوحي بالنور والشفافية والحيوية... وهي تماما الصورة النمطية لحزب العدالة والتنمية حسب أدبياته.

الحلقة الرابعة إضغط هنا



أنقرة - من داهم القحطاني

تعليقات

اكتب تعليقك