تركيا العثمانية العلمانية وشرف صندوق الانتخابات (الحلقة الثانية)

عربي و دولي

سلسلة تحقيقات عن التحولات في الجمهورية التركية تنشرها ((الآن)) على حلقات

داهم القحطاني 2263 مشاهدات 0

لقطة من الأعلى للعاصمة التركية أنقره

 انتهت مطلع شهر يونيو الجاري الانتخابات التركية بفوز كبير لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أوردغان لفترة ثالثة ليتولي هذا الحزب حكم تركيا للمرة الثالثة على التوالي في إنجاز لم يسبقه إليه حزب تركي آخر.

 وتزامنا مع هذا الحدث المهم، ومع المرحلة المقبلة والتي يتوقع فيها أن تكون للسياسة التركية في منطقة الشرق الأوسط تأثيرات أكبر، تنشر جريدة الآن الإلكترونية  وعلى حلقات سلسلة من التحقيقات قام بها الكاتب والمدون داهم القحطاني خلال رحلة سياسية شارك فيها مؤخرا في الجمهورية التركية، وضمت الرحلة سياسيين وبرلمانيين وأكاديميين من عدد من الدول العربية.

 

سياسة تركيا ... نظرة من الداخل


تحرص تركيا على خلق علاقات متوازنة مع جميع الدول العربية من دون النظر إلى طبيعة هذه الدول وسياساتها المعلنة، العلاقة الجيدة مع كل الجيران، ولهذا تم الحرص على أن يكون الوفد العربي الذي يزور تركيا متنوعا ويضم سياسيين ونواب وأكاديميين من دول متنوعة ومن مذاهب وطوائف مختلفة، فتركيا حسب سياساتها المعلنة تقدم نفسها كصديق للعالم العربي بسنته وشيعته بإسلامييه ومحافظيه وقومييه وليبرالييه.

 في عدد من الدول العربية التي زارها رئيس الوزراء أردوغان لا يزال كثيرون ممن التقوه يفخرون وهم يتحدثون عن  الحماسة التي كان يتحدث بها الرجل وعن شخصيته الطاغية ذات الكاريزما التي لا تخطئها القلوب والتي تلهم الحضور خصوصا حينما كان يربط الحاضر بالماضي ويخلص إلى أن الأمة الإسلامية يجب أن يكون لها دور مؤثر بعيدا عن سيطرة الآخرين.

 

 وأردوغان نفسه قدم أمثلة عملية لما يدعو له ربما كان أوضحها موقف تركيا الصارم من الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية وهو الموقف الذي خلق من شخصية أردوغان بطلا إسلاميا اشتاقت لمثيله الأمة لدى كثيرين ممن فقدوا الأمل بالحكام العرب.

 

 هذه السياسة واتخاذ مثل هذه المواقف في لحظات تاريخية معينة هل أتت بشكل لقائي عفوي أم أنها كانت تنبع من فكر وعقيدة وعمل مؤسسي لا يتعلق بشخصية أردوغان وحده وإن كانت هذه الشخصية هي المفتاح لكل ذلك؟

 

 التعرف على العقلية التي يدير بها الساسة الأتراك  شؤون الدولة يتطلب أيضا معرفة المستشارين الذين يحيطون بهم ويكونون العين التي تشخص القضايا وتشرحها وتضع التوصيات والحلول، ولهذا اكتسب زيارة الوفد العربي لمقر مجلس الوزراء التركي في أنقره أهمية خاصة لتضمنها لقاء مع أحد أهم مستشاري رئيس الوزراء طيب رجب أردوغان، كما أنها كانت فرصة لا تعوض لمعرفة الكيفية التي تتخذ فيها الموقف والقررات في تركيا حزب العدالة والتنمية.

 


مجلس الوزراء التركي ...ورشة عمل

مجلس الوزراء التركي والذي تحكم تركيا من خلاله يشعرك مبناه حينما تدخله أنك في ورشة عمل حقيقة، فالجميع مشغولون بما لديهم من ملفات، كما أن السرعة في دخول المبنى من دون تعقيدات وتفتيش أمني مبالغ رغم حساسية المكان في ظل التوترات الأمنية التي تشهدها تركيا في جنوبها الشرقي توحي بأن تركيا الجديدة لا تتوقف عند حدث معين أو زمن معين.


لقطة لمستشار اردوغان مع الزميل داهم القحطاني

اللقاء كان مع مستشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للشؤون الخارجية الدكتور إبراهيم كالين والذي يعتبر العقل المفكر للسياسات الحكومية فيما يتعلق بالعلاقة مع الدول العربية والشرق الأوسط.

 ابراهيم والذي يجيد اللغة العربية وتوحي ملامحه بأنه من جذور عربية -وإن لم يكن كذلك- كان يتحدث بالتركية عن التاريخ التركي، وحرص على ذلك رغم طلب بعض أعضاء الوفد أن يتحدث بالعربية، ربما لتوفير الوقت الذي تستغرقه الترجمة.

 مع مستشار رئيس الوزراء التركي 


المستشار الشاب كان يستذكر أحداثا تاريخية تتعلق بالعلاقة مع العرب وهي أحداث طواها التاريخ العربي،  بهدف تذكير الحضور بصورة غير مباشرة بالدور العثماني التركي في حماية المقدسات الإسلامية من العبث الصليبي في مراحل لا يذكرها تاريخ العرب بكثرة.

 



الربيع العربي تأخر عشرين عاما

 منذ بداية اللقاء في الوفد العربي ينبه إبراهيم إلى أن العالم العربي تأجلت مسيرته نحو عشرين عاما عما حصل من تغيرات في العالم قبل عشرين سنة في أوربا الشرقية  وهذا التأخر كان يفسر التغييرات ذات السرعة الفائقة التي تمر بها بعض الدول العربية حسب تحليل إبراهيم .

 

 ويركز  مستشار رئيس الوزراء على أهمية أن تنتهي الثورات العربية إلى شيء نافع ومحدد يعبر عن إرادة الشعوب، وألا يتكرر ما حصل في ثورات عربية إبان حقبة ستينات القرن الماضي حينما لم تنته هذه الثورات إلى نتائج ديمقراطية تعكس إرادة الشعوب.

 

 الثورات العربية التي تحصل حاليا في الوطن العربي تراقبها تركيا عن كثب وتسعى من خلال نتائجها إلى تعزيز علاقاتها مع العرب كي يتغير وضع  العلاقات التركية العربية، إلا أن إبراهيم  يعود بنبرة الشكوى من وضع العلاقات الحالي فيذكر أن رجال الأعمال الأتراك لا يحققون تواصلا مع نظرائهم في العالم العربي كما أن الأكاديميين الأتراك والصحافيين الأتراك لا يعرفون زملاءهم العرب جيدا حيث لا يوجد تواصل قوي بينهم إلا 'تحت أشجار الزيزفون' في إشارة فهمها بعض الحضور من الوفد العربي وضحك ولم يفهمها البعض الآخر فسأل قبل أن يشرح المترجم وسط ابتسامات إبراهيم أن المقصود أن تركيا تعرف عربيا من خلال مسلسلاتها التلفزيونية أكثر من أي شيء آخر.

 

 و'تحت أشجار الزيزفون' كان أحد أشهر هذه المسلسلات التي سرقت عيون وقلوب و...جيوب ملايين المشاهدين العرب.

 

 مستشار رئيس الوزراء التركي يبين أن الصورة النمطية السائدة لدى العرب عن الأتراك ولدى الأتراك عن العرب تحتاج إلى التصحيح كي لا يحتفظ العرب بصورة نمطية مفادها أن تركيا أدارت ظهرها للعرب واتجهت نحو أورب،ا إلى درجة أن البعض ربما لا يعتبر تركيا دولة إسلامية رغم أن العرب أيام حكم الشريف الحسين بن علي تحالفوا مع الإنجليز ضد تركيا المسلمة.

  

الأتراك ينظرون للعرب بإيجابية

 

إبراهيم يكشف عن استطلاعات قامت بها الحكومة التركية قبل سنتين لمعرفة ما إذا كانت الصورة النمطية لدى الأتراك قد تغيرت عن العرب! وكشفت نتائج هذه الاستطلاعات أن هذه الصورة النمطية في تحسن، فالأتراك رأوا العرب كأصدقاء، وقيموا حادثة  قيام شريف مكة الحسين بن علي بالوقوف خلال ما سمي بالثورة العربية الكبرى، كما يصفها ابراهيم، مع الإنجليز ضد دولة الخلافة الإسلامية، قيموا هذه الحادثة من خلال ظروف الحرب العالمية الأولى بالرغم أن الأتراك تقليديا كانوا يعتبرون فعل الشريف بمثابة الخيانة الإسلامية، كما تضمن الاستطلاع أن الأتراك لا يزالون يفتخرون بقيام أحد قادتهم العسكريين وهو فخر الدين باشا بالدفاع عن المدينة المنورة في تلك الفترة ضد محاولات الإنجليز لدخولها عبر حلفائهم.  

 ويواصل إبراهيم 'السؤال الأهم في هذا الاستطلاع كان الكشف عن رغبة الأتراك في تعلم اللغة العربية وهي الرغبة التي كانت واضحة ليس فقط من باب معرفة اللغة بل ليكون ذلك أيضا مدخلا للتجارة مع العرب ولبناء علاقات في مجالات أخرى'، ولهذا يتحدث إبراهيم بنبرة متفائلة قائلا 'إن نظرة الأتراك للعرب تغيرت وأصبحت إيجابية' وهو التغيير الذي يفسره 'بأنه نتيجة للموقف الريادي الذي قام به رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان في قضية غزة وفي حادثة منتدى دافوس' (حين تصدى أردوغان للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز وغادر المنصة احتجاجا على ما طرحه بيريز من أكاذيب بشأن حرب غزة).

 

 ويخلص  إبراهيم 'أن تحسن العلاقة مع العرب يعود أيضا كنتيجة للنظرة الجيوسياسية التي تعامل بها أردوغان مع العرب ما ساهم بتعزيز هذه النظرة الإيجابية نحو العرب والعكس صحيح'.

 

 مستشار أردوغان يشرح للوفد العربي السياسة التركية الجديدة ويبين أنها تقوم على التركيز على المعاني الإنسانية قولا وفعلا عبر قرار عقد مؤتمر تم بالفعل في اسطنبول في التاسع من مايو العام الحالي لبحث كيفية تقديم العون للدول الأقل دخلا في العالم بحضور هذه الدول والدول الغنية معا في رسالة تركية مفادها 'أيها العالم الثري لأجل العدالة علينا النظر للآخرين كي لا يحصل الاحتقان في العالم'.

 

 إبراهيم والذي يعتبر أحد أهم منظري السياسة التركية الجديدة يذكر أن تركيا تعمل من أجل تغيير الرأي العام الأوربي تجاه القضية الفلسطينية، لذلك وخلال زيارة رسمية لرئيس الوزراء التركي لواشنطن وجهت تركيا رسالة مباشرة إلى الإدارة الأميركية مفادها أن تكرار واشنطن لموقفها من حرب غزة 2006 سيكون خطأ آخر، ولهذا تسعى تركيا ومنذ ثلاث سنوات وبالتعاون مع مصر ما قبل ومصر ما بعد الثورة إلى تأمين المصالحة الفلسطينية.



دعونا السوريين للبدء في حوار فوري مع المعارضة

 

الشأن السوري كان من ضمن القضايا التي حرص الوفد العربي على إثارتها في اللقاء على اعتبار أن تركيا جار لصيق لسوريا وتربطهما مصالح كثيرة، وفي هذا الشأن يبين مستشار رئيس الوزراء التركي أن تركيا ترى أن الأوضاع في سوريا تبعث على القلق، ولهذا قام رئيس الوزراء أردوغان باتصال مع الرئيس السوري بشار الأسد، كما توجه مبعوثون من أردوغان لسوريا لإجراء وساطات، إضافة إلى مطالبة تركيا السوريين بالبدء في مسيرة حوار مع المعارضة والمطالبة وعلى الفور بوقف استخدام العنف ضد المدنيين وبالعمل على عدم حصول الصراع المذهبي.

 ويؤكد 'أن القلق التركي لا ينبع من كون سوريا دولة جارة بل لأننا ننظر إلى فقدان روح مواطن سوري وكأننا فقدنا روحًا لمواطن تركي'، وهنا وفي هذه العبارة لاحظنا استخدام ابراهيم للعبارات ذات البعد الإنساني وهو الأسلوب ذاته الذي يطغى أحيانا على خطب أردوغان وخصوصا في قضايا الصراع المسلح.

 

 ويبين 'أن تطبيع العلاقات مع سوريا والانفتاح مع الدول العربية واجه في البداية معارضة من داخل تركيا، ومعارضة حتى من قبل إسرائيل وأميركا، لهذا بالفعل كانت مسيرة تطبيع العلاقات مع سوريا صعبة، ولكن التطورات تواصلت إلى أن تحولت العلاقات إلى الإيجابية في ظل الاهتمام نفسه لدى الطرف العربي.

 

 وكي لا يعطى للتواصل التركي مع العرب صفة الدعم الكامل للقضايا العربية يحرص إبراهيم على التوضيح بأن تطور العلاقات مع العرب لم ولن يكون على حساب العلاقات مع أميركا 'فنحن لا توجد بيننا وبين الأميركيين عداوة ويهمنا أن نبني علاقات إيجابية معهم'! 

 



ضحينا في حرب العراق بالمصالح

 بعض الحضور من الوفد العربي لم يكن مقتنعا بما طرحه مستشار رئيس الوزراء التركي مما يعتبرونه مثاليات قد لا تتحقق سياسيا على أرض ، ما جعل إبراهيم يتعمد سرد بعض ما اعتبره تضحيات بالمصالح التركية من أجل المبادئ، ومنها رفض البرلمان التركي مذكرة قانونية تسمح بمرور القوات الأميركية للعراق عبر جنوب تركيا قبيل حرب 2003 وما ترتب عليه من خسارة لبعض المصالح في العراق، ومن هذه التضحيات أيضاً  الموقف التركي من حرب غزة وما ترتب عليه من كلفة اقتصادية وأخرى سياسية.

 

 وبنبرة من يمهد لهدف لاحق وبأسلوبه الممتع في السرد التاريخي يذكر إبراهيم -من باب الطرافة- قصة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت حينما غزا مصر وطريقته في تقديم نفسه على أنه مسلم وقيامه ببدء خطابه الموجه لأهل مصر بالبسملة والقول أنه أتى لخدمة مصر والإسلام إلى أن انتهى خطابه بعبارات التهديد بحرق القرى التي لا تستسلم لفرنسا ما جعل المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتي والذي عاصر تلك المرحلة يرد على نابليون برسالة شهيرة فند فيها أقوال وادعاءات نابليون.

 

 وهنا يصل إبراهيم إلى مراده من ذكر قصة نابليون حينما قال 'هناك فرق بين الهوية السياسية والانتماء، فالله خلقنا شعوبًا وقبائل لنكون مختلفين بطبيعتنا، ولهذا فالتحدي يكون وفق قدرتنا على الاتحاد، فالقوة تكون بالوحدة أي وحدة الأهداف وبذلك نستطيع التغلب على قضايا كقضية الشيعة والسنة'

 

 

مطلوب آلية تعزل القضايا المذهبية عن المطلبية

  إبراهيم والذي نوه إلى أن أردوغان وفي زيارة قام بها إلى العراق مؤخرا تعمد أن يخرج من المنطقة الخضراء في بغداد ويزورالأماكن الدينية في النجف وفي مسجد أبي حنيفة في بغداد، والتقى خلال الزيارة  بالمرجع الشيعي السيد علي السيستاني، عاد إبراهيم ليشدد للوفد العربي والذي يضم السنة والشيعة على أهمية الحديث عن قضية الشيعة والسنة، وعن ضرورة إيجاد آلية تدير مثل هذه الخلافات بحيث يتم الفصل بين القضايا المذهبية والسياسية والتركيز على القضايا المطلبية'.

 

 ومرة أخرى حين واجه إبراهيم اتهامات من البعض في الوفد العربي بأن الأمر يتعلق أولا بالمصالح التركية أجاب مستشار رئيس الوزراء التركي مستعينا بخبراته الأدبية 'اللغة العربية جميلة ومفردة 'مصلحة' فيها تدل على الإصلاح والمصلح ولهذا فلنقل أن في ذلك مصلحة لتركيا وللجميع'.

 

 ويحاول إبراهيم مرة أخرى أن يبسط المفاهيم 'خلال الحروب العالمية وما بينهما وبعدهما كانت المعادلة تقوم على أنني إن أردت أن أكون قويا فيجب علي إضعاف غيري.. أما اليوم فالمصلحة هي المعادلة التي تفيد الجميع معا'

 

 تركيا الجديدة يصفها إبراهيم بأنها  تقوم على الاستفادة من أخطائها القديمة 'أخطأنا في الماضي فيما يتعلق بحقوق غير المسلمين، وأخطأنا بحق حرية الصحافة، وبدأنا نتشكك في المتدينين، أما الآن فيشغلنا التفكير في قضايا الديمقراطية والنهوض الديمقراطي والنهضة الإجتماعية'.

 

 وفي نبرة تعبر عن تفكير أممي، يقول مستشار رئيس الوزراء التركي وبصوت متحمس ولكن هادئ 'الله أعطانا القوة والعقل، فلماذا نلجأ لغيرنا؟ ولماذا مثلا يقوم الأميركان بتمويل نشاط مؤسسات المجتمع المدني لدول عربية ولا نقوم به نحن كأتراك؟!'

 

 وفي تعليقات سريعة على أسئلة حول الثورتين التونسية والمصرية، قال مستشار الرئيس التركي 'ليس من السهل الانتقال من الأنظمة القمعية إلى الديمقراطية خلال أسبوعين، فالأمر يتطلب أولا وجود مؤسسات ديمقراطية'.

 

 وعن التدخلات الإيرانية في الشأن العربي باستخدام القوة الناعمة بين'أن عدم التدخل في الشأن الداخلي مبدأ هام تتبعه تركيا، ولهذا فنحن حساسون ضد استخدام ما يسمى بالقوة الناعمة الإيرانية'

 

الحلقة الثالثة إضغط هنا  

 


تعليقات

اكتب تعليقك