ثقل العجمي بدراسة قانونية خص بها ((الآن)):

محليات وبرلمان

التحجج باطاعة أوامر والرؤساء والقادة لا يعفي من المسئولية القانونية

5577 مشاهدات 0

د.ثقل سعد العجمي

خص د.ثقل العجمي أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان بجامعة الكويت بمقال قانوني عن التحجج بإطاعة أوامر والرؤساء والقادة، جاء فيها:

إلى من يهمه الأمر

التحجج بإطاعة أوامر والرؤساء والقادة لا يعفي من المسئولية القانونية

يعتقد بعض الموظفين أو المرؤوسين سواء كانوا مدنيين أم عسكريين أن ارتكابهم لبعض الجرائم سوف يكون مبرراً في كل الأحول بحيث لا يسألون عنها طالما ارتكبت تنفيذا لأمر صادر إليهم من رؤساءهم في العمل أو قادتهم العسكريين الأعلى منهم رتبة, وهذا الفهم والاعتقاد غير صحيح وسوف لن يعفي هذا هؤلاء الموظفين أو المرؤوسين من المسؤولية القانونية بكل صورها , كما أنه ومن الناحية الدولية - إذا ما شكل هذا الفعل جريمة دولية – فإنه غير مقبول ولم يكن قط سببا في إعفاء أي شخص من المسؤولية الجنائية الدولية في كل المحاكمات الدولية السابقة, وذلك على النحو التالي:

أولا: على مستوى القانون الكويتي

جاء تنظيم مسألة التحجج أو الدفع بإطاعة أوامر الرؤساء في القانون المدني والقانون الجزائي والقانون الإداري, وسوف نقتصر على بيان القانونين الأوليين نظرا لأهميتهما إذ يتعلق الأول بإمكانية مساءلة المرؤوس مدنيا ومن ثم الرجوع عليه بالتعويض بسبب تنفيذه لأمر غير مشروع صادر إليه من رئيسه , أما القانون الثاني فهو الأخطر ويتعلق بإمكانية مساءلة المرؤوس جزائيا ومن ثم توقيع العقوبات الجزائية عليه إذا ثبتت إدانته.

- القانون المدني:

نصت المادة 237 من القانون المدني الكويتي على أنه 'لا يكون الموظف العام مسئولاً عن عمله الذي أضر بالغير, إذا أداه تنفيذاً لأمر القانون أو لأمر صدر إليه من رئيسه, متى كانت إطاعة الأمر واجبة عليه, أو كان يعتقد لمبررات مقبولة أنها واجبة, وأثبت أنه كانت لديه أسباب معقولة جعلته يعتقد مشروعية العمل الذي أتاه, وأنه راعى في عمله الحيطة والحذر'

وهكذا فإنه يشترط لقيام هذه الحالة وهي حالة عدم تحمّل الموظف العام لأية مسؤولية مدنية بسبب تنفيذه لأمر من رئيسه أدى إلى الإضرار بالغير:

1- أن يكون محدث الضرر هو موظفاً عاماً طبقاً لما تنص عليه القوانين الإدارية في تحديدها للموظف العام.
2- أن يكون العمل الذي أدى إلى حدوث الضرر قد وقع منه تنفيذاً لأمر صادر إليه من رئيس إداري أعلى, ولو لم يكن الرئيس المباشر.  وعلى ذلك لا تنطبق النصوص السابقة على الموظف الذي يقوم بتصرف من تلقاء نفسه ودون أمر من القانون أو من رئيسه.
3-  أن تكون طاعة هذا الرئيس واجبة أو يعتقد أنها كذلك.
4-  أن يعتقد مشروعية الفعل الذي أتاه وراعى في إتيانه هذا الفعل جانب الحيطة والحذر.

- القانون الجزائي:
نصت المادة (38) من قانون الجزاء الكويتي على أنه 'لا يسأل الموظف إذا ارتكب فعلا استعمالا لسلطة يعتقد أن القانون يقرها له أو تنفيذا لأمر يعتقد أن القانون يوجب عليه طاعته, ويجب على الموظف أن يثبت أن اعتقاده بني على أسباب معقولة, وأنه قد قام بالتثبت والتحري اللازمين للتحقق من مشروعية الفعل'.

وهكذا فإنه طبقا للنص السابق يجب حتى لا يسأل الموظف أو المرؤوس جزائياً عن فعله الذي ارتكبه تنفيذاً لأمر رئيسه أن تتوافر الشروط التاليه:
1- حسن نية المرؤوس أو سلامتها: فيجب أن يكون المرؤوس قد اعتقد صحة الأمر الصادر إليه وأن ما قام به من عمل هو من صميم اختصاصاته, ولابد أن تكون هناك أسباب معقولة تبرر هذا الاعتقاد مثل طبيعة عمله أو درجته الوظيفية ...إلخ.
2- الاعتقاد بمشروعية الفعل: فيجب على المرؤوس أن يثبت أنه كان يعتقد أن ما قام به من عمل هو عمل مشروع بالنظر إلى فهمه للقانون الذي اعتقد مخطئاً أنه ألزمه بالقيام بهذا العمل عند صدور أمر من رئيسه في ذلك أو أن ما قام به من عمل يستند إلى السلطة التي اعتقد مخطئاً أن القانون أعطاه إياها. 
3- سبق التثبت والتحري واتخاذ الحيطة: فيجب على المرؤوس أن يكون قد قام بكل ما يمكن في سبيل التحقق من مشروعية الفعل, كأن يقوم باستقاء المعلومات وجمع البيانات المتاحة وأن يكون متبصرا فيما يقوم به من عمل.

ثانيا: على المستوى الدولي:
يوجد على المستوى الدولي الكثير من الأحكام الدولية والقواعد القانونية التي تذهب جميعها إلى عدم جواز الأخذ بإطاعة الأوامر العليا بشكل كامل كسبب لإعفاء مرتكب الجريمة الدولية من المسئولية الجزائية الدولية.  ومن الأمثلة على ذلك:
1- محاكمات نورمبرغ
- قضية جودل (Alfred Jodl)
أتهم جودل بأنه هو من بدأ وأصدر أوامر هتلر لغزو النمسا وألبانيا وروسيا, وهو من قام بتدوير ما عرف ب(Commando Order) والذي يقضي بالإعدام السريع لأي من مقاتلي الحلفاء الذين يقبض عليهم خلف الخطوط الألمانية في تشيكوسلوفاكيا وفرنسا وإيطاليا والنرويج, واتهم جودل أيضا بتوزيع أمر هتلر القاضي بإخلاء شمال النرويج وحرقها.  دفع جودل بأنه جندي من جنود هتلر وأن عليه طاعة أوامر هذا الأخير, ومع ذلك يقول جودل إنه قام بتأخير بعض هذه الأوامر والاعتراض على بعضها الآخر مثل اعتراضه على الأمر القاضي بقتل طياري التحالف الذين يقبض عليهم ودون أي محاكمة.

رفضت محكمة نورمبرغ هذا الدفع وقالت إنه 'لا يوجد هنا ما يدعو إلى تخفيف العقوبة.  ذلك أن الاشتراك في مثل هذه الجرائم هو أمر غير متطلب من أي عسكري, ومن ثم يجب ألا يحتمي مثل هؤلاء خلف هذه المطالب الخرافية بالطاعة العسكرية كعذر لارتكاب مثل هذه الجرائم'.

- قضية كايتل (Wilhem Keitel)
يُعد كايتل المتهم الأعلى رتبة عسكرية في محاكمات نورمبرغ, حيث اتهم بأمور عدة منها التحضير والإعداد لغزو النمسا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي واليونان ويوغسلافيا.  كذلك ما عرف عن كايتل بإصداره أوامر إلى القادة العسكريين بقتل من 50 إلى 100 من الرهائن المحتجزين في منطقة البلقان في مقابل كل جندي ألماني تقتله المقاومة في تلك المنطقة.  دفع كايتل بأن ما فعله هو تنفيذ لأوامر هتلر وأنه لا يمكن في تلك الأثناء منع مثل هذه الأوامر.  رفضت المحكمة هذا الدفع وقالت إن 'حقيقة أن قانون الحرب قد تم انتهاكه تنفيذا لأوامر صادرة من سلطة عليا لا يعد دفاعاً مقبولاً لدى المحكمة إلا إذا كان المتهم لا يعلم أو لا يمكن - وبشكل معقول - أن يتوقع منه أن يعلم أن الأفعال التي أمر بالقيام بها هي أفعال غير مشروعة'.

- قضية الرهائن (Hostage Case)
وتتلخص وقائع هذه القضية في أن القوات النازية بعد احتلالها لليونان ويوغسلافيا واجهت مقاومة عنيفة في هاتين الدولتين ألحقت بها كثيراً من الخسائر البشرية.  لذلك وكمحاولة لردع المقاومة, قامت القوات النازية بقتل مئات الألوف من المدنيين الذين كانت تحتجزهم هذه القوات على دفعات ودون أي محاكمة, حيث كان يقتل ما بين 50 إلى 100 محتجز في مقابل كل جندي ألماني يتم قتله كما جاء في قضية كايتل.

وفي رفضها المحكمة الدفع الذي تقدم به المتهمون في هذه القضية, من أن ما قاموا به لا يعدو كونه تنفيذاً لأوامر عليا صادرة إليهم من السلطات العليا, قالت إن 'المبدأ القاضي بأن الأوامر العليا ليست دفاعاً كاملاً عند ارتكاب الأعمال الإجرامية هو من المبادئ الأساسية في العدالة الجنائية التي تنتهجها الدول المتمدنة'.  كما قالت المحكمة إن الطاعة لا تكون إلا فيما يتعلق بالأوامر المشروعة وإن النية الإجرامية للمرؤوس سوف تكون قائمة عندما يكون هذا المرؤوس يعلم أو كان بإمكانه أن يعلم بعدم مشروعية الأمر الصادر إليه.  وأضافت المحكمة أن من المسائل التي يمكن أخذها في الاعتبار لبيان إذا ما كان المرؤوس يعلم أو يجب أن يعلم بعدم مشروعية الأمر هي الخبرة العسكرية لهذا المرؤوس؛ فالشخص الذي عمل مدة أربعين سنة لابد أن يكون لديه من الخبرة ما يكفي لمعرفة إذا ما كان الأمر مشروعاً أو خلاف ذلك.  كذلك فإن الرتبة العسكرية هي أيضا من المسائل التي يمكن التعويل عليها في افتراض هذه المعرفة, فالضابط الأعلى لابد أن يكون أعلم من الشخص الذي يقل منه رتبة عسكرية كما أن قدرة الضابط الأعلى على رفض الأوامر لابد أن تكون أكبر من الذين هم أدنى منه رتبة.

2- المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا
نصت المادة 7 (4) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا على أنه 'حقيقة كون الشخص المتهم قد تصرف طبقاً لأمر من حكومة أو رئيس أعلى سوف لن تعفيه من المسؤولية الجنائية, ولكن يمكن أخذها في الاعتبار في تخفيف العقوبة إذا رأت المحكمة أن العدالة تستلزم ذلك'.

- قضية اردموفك (Erdemovic Case)
تعد هذه القضية أول قضية تصدر فيها المحكمة الخاصة بيوغسلافيا حكمها بالسجن 10 سنوات (تم تخفيضه إلى 5 سنوات لاحقا) على اردموفك المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية كما اعترف هو بذلك.  وتتلخص وقائع هذه القضية في أن الجندي اردموفك, وهو من أصل كرواتي, انضم إلى الجيش الصربي في البوسنة إبان فترة الحرب في البلقان.  وفي 16/7/1995 وجد اردموفك نفسه, كما يقول, يعمل عضواً في إحدى فرق القتل الصربية, وكان ذلك في إحدى المزارع في شرق البوسنة وبالقرب من منطقة سيربينيتشا, حيث يوجد بها ما يقارب 1200 من المدنين المسلمين تم احتجازهم بوساطة الجيش الصربي.  ادعى المتهم بأن رئيسه أمره بقتل هؤلاء المدنيين وأنه عندما رفض ذلك, قال له رئيسه:  إذا كنت تشعر بالحزن والأسى لأجل هؤلاء فاذهب واصطف معهم حتى نقتلكم جميعا.  ولهذا يقول اردموفك إنه بسبب خشيته على نفسه وزوجته وأولاده اضطر إلى الاشتراك في قتل هؤلاء المدنيين الذين لم يستغرق قتلهم سوى خمس ساعات.

رفضت المحكمة سواء في الدرجة الأولى أو في الاستئناف اعتبار الدفع بالإكراه والتهديد دفاعاً كاملاً يعفي من المسؤولية الجزائية في الجرائم ضد الإنسانية, في حين عدّت أن هذا الدفع بسبب ارتباطه الوثيق مع الدفع بإطاعة الأوامر العليا قد يكون من أسباب تخفيف العقوبة.

3- المحكمة الجنائية الدولية الدائمة
نصت المادة 33 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه:
'1- في حالة ارتكاب أي شخص لجريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة, لا يعفى الشخص من المسؤولية الجنائية إذا كان ارتكابه لتلك الجريمة قد تم امتثالاً لأمر حكومة أو رئيس, عسكرياً كان أو مدنياً, عدا في الحالات التالية:
أ‌- إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني.
ب‌- إذا لم يكن الشخص على علم بأن الأمر غير مشروع.
ج- إذا لم تكن عدم مشروعية الأمر ظاهرة.
2- لأغراض هذه المادة تكون عدم المشروعية ظاهرة في حالة أوامر ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية'.

وهكذا فإنه, طبقا لهذه المادة, يجب عدم الاعتداد بالدفع بإطاعة الأوامر العليا ما لم تتوافر ثلاثة شروط مجتمعة:
1- وجود التزام قانوني على الشخص (المرؤوس) بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني.  وهذا يعني أن يكون للشخص مصدر الأمر, سواء كان يمثل الحكومة أو هو الرئيس الإداري الأعلى وسواء كان مدنيا أو عسكريا, سلطة تخوله إصدار الأوامر وأن تكون مثل هذه الأوامر من صلاحياته وأن يكون الأمر متضمنا للقيام بعمل معين وليس عاماً لا تحديد فيه.  ولمعرفة إذا ما كان هناك التزام قانوني يجب الرجوع إلى النظام القانوني الداخلي للدولة التي ينتمي إليها المرؤوس.  وبناءً على ذلك فإن الأفعال التي ترتكب تطبيقاً لأوامر صادرة من منظمات إرهابية أو أشخاص خاصين لا يعتد بها في هذا الدفع.
2- ألا يكون الشخص (المرؤوس) على علم بعدم مشروعية الأمر الصادر إليه.  وهذا معيار شخصي يتم الرجوع فيه إلى شخص المرؤوس فينظر في علمه وثقافته وخبرته ودرجته الوظيفية أو رتبته العسكرية.  والبحث فيما إذا كان الفعل مشروعاً أو خلاف ذلك يكون بالنظر إلى قواعد القانون الدولي وليس بالنظر إلى قواعد القانون الداخلي الذي ليس له أي اعتبار طبقاً لمبدأ سمو القانون الدولي على القانون الداخلي. 
3- ألا تكون عدم مشروعية الفعل ظاهرة.  وهذا معيار موضوعي يتم الرجوع فيه إلى معيار الشخص العادي إذا وجد في الظروف نفسها من حيث معرفته, وبسهولة, بعدم مشروعية الأمر الصادر إليه.

أخيرا, فإننا نود الإشارة إلى اتفاقية تحريم التعذيب والتي نصت في المادة 2 فقرة (3) على أنه 'لا يجوز التذرع بالأوامر الصادرة من موظفين أعلى رتبة أو عن سلطة عامة كمبرر للتعذيب', وهذه الاتفاقية قامت دولة الكويت بالمصادقة عليها بموجب القانون رقم (1) لسنة 1996 ومن ثم أصبحت هذه الاتفاقية بكل نصوصها جزء من القانون الداخلي الكويتي تخاطب جميع السلطات العامة  وجميع الأفراد في الكويت تطبيقاً للأصل القانوني العام وهو قابلية كل القواعد القانونية للتطبيق المباشر.

الآن- د.ثقل العجمي/ أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان

تعليقات

اكتب تعليقك