قل الناصحون واندثروا، وشح الصادقون، وانتعش المجاملون، وتقدم المنافقون، وتصدر المادحون!.. واقعنا المؤلم كما يرصده د.خالد القحص
زاوية الكتابكتب يوليو 21, 2010, 12:16 ص 785 مشاهدات 0
دعوه يبكي!
كتب د.خالد القحص
يذكر الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» أنهم قدموا رجلاً من الخوارج الى الخليفة عبدالملك بن مروان لتُضرب عنقه.ودخل على عبدالملك ابن له صغير قد ضربه المعلم، وهو يبكي، فهمَّ عبدالملك بالمعلم.فقال له الخارجي: دعوه يبكي، فانه أفتح لجرمه- أي لحلقه- وأصح لبصره، وأذهب لصوته.فقال له عبدالملك: أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ فقال الخارجي: ما ينبغي لمسلم ان يشغله عن قول الحق شيء.فأمر عبدالملك بتخلية سبيله.انتهت القصة.
من يتأمل واقعنا، خاصة في العلاقات بين الناس يجد ان هناك ثقافة انتشرت، وقيماً سادت، ومبادئ طغت، حيث قل الناصحون واندثروا، وشح الصادقون أو كادوا، وانتعش المجاملون، وتقدم المنافقون، وتصدر المادحون! تأمل معي مرة أخرى قول الخارجي «ما ينبغي لمسلم ان يشغله عن قول الحق شيء»، كلمة جميلة، بل هي منهج حياة.فهذا الرجل الخارجي كان ينتظر تنفيذ حكم الاعدام لكنه لم يستطع منع نفسه من إسداء النصح لعدوه، وإبراء ذمته أمام الله.
تصادق أصدقاءك وتزامل زملاءك، وتؤاخي اخوانك، فترى ما تكره، وتبصر ما تظنه خطأً، ويعتمل في صدرك قول الحق مع كتمانه، فمن جهة أنت تود ان تخبر زميلك أو صديقك عن عيبه، وتواجهه بقصوره، ومن جهة أخرى لا تود ان تغضبه أو تخسره، فتحدث معركة نفسية ميدانها صدرك وساحتها فؤادك، وفي النهاية غالباً ما ينتصر السكوت على قول الحق، والمديح المبالغ فيه على إسداء النصيحة، فيستمر الصديق في غيه أو مشكلته أو زلته، دون ان يدرك ذلك، والسبب خشيتنا من قول الحق حتى لا نخسره!
يذكر بريان تريسي في ألبومه الصوتي الرائع «الثقة بالنفس» ان بعض الباحثين قام بسؤال مجموعة الناس سؤالاً بسيطاً واضحاً وهو: لو كان لديهم مشكلة في رائحة أفواههم أو أجسادهم وهم لا يعلمون عنها شيئاً، هل سيفضلون لو أخبرهم أحد زملائهم في العمل بذلك؟ أجاب أغلب الناس بأنهم يحبون لو جاءهم الزميل مباشرة، وقال لهم ذلك بكل صراحة ووضوح، وسيشكرونه عليها.الطريف أنه تم سؤال نفس المجموعة في حالة أنهم لاحظوا ان أحد زملائهم في العمل أو أقربائهم لديه مشكلة في رائحة فمه أو رائحة جسده، هل كانوا سيبادرون الى اخباره وتنبيهه؟ جاء الجواب مناقضاً للجواب الأول لأن الناس ذكروا أنهم لن يقولوا شيئاً أبداً لأنهم يخشون ان يفهمهم هذا الزميل أو ذاك القريب بطريقة خاطئة وبالتالي يخسرون علاقته!
الصراحة لا تعني الوقاحة، وقول الحق لا يعني التشفي، والنصيحة لا تعني الفضيحة، فلقول الحق شروط وآداب يعرفها الجميع، ولكن مع مرور الزمن تحولت تلك الآداب الى قيود تمنعنا من التحدث، وتلجمنا عن التقدم، فظل الخطأ خطأً، والعيب عيباً والزلة زلة، والقصور قصوراً، ونحن نبتسم ظاهراً، ولكننا نرهق أنفسنا من الداخل، والطريف أننا قد نخبر الجميع عن خطأ شخص ما أو مشكلته أو حتى رائحة جسده، ولكننا لا نجرؤ على اخبار الشخص نفسه، ألا ترون المفارقة المرة هنا؟ نفضل ان نفضحه على ان ننصحه، وان نغتابه على ان نؤدي حقه! عجيب أمرنا، نذهب الى الطريق البعيد حتى لا نسلك الطريق المختصر، يبدو أننا لا نحب الخطوط المستقيمة، ولا العمل تحت الشمس، وأصبحنا كأصحاب الجنة في سورة القلم نتبع مدرسة «وهم يتخافتون»، فأصبحنا ندمن العيش في الظلام، ونتخافت حتى لا يسمعنا أحد! تلك عيشة لا أرضاها وطريقة لا أريدها وحياة لا أحسنها.
د.خالد القحص
تعليقات