عبداللطيف الدعيج يُعدد انتكاسات السلطة من بعد التحرير ، ويبرر سبب تعزيز الشعور الطائفي لدى الشيعة والبدوي لدى القبائل، واصطفاف نواب المناطق بدلا من نواب القبائل حول الحكومة

زاوية الكتاب

كتب 1480 مشاهدات 0





الرهان المنتظر 

كتب عبداللطيف الدعيج : 

 
* غياب التربية الوطنية وحلول الدروشة الدينية مكانها في مدارس التربية وفي وسائل الإعلام أديا إلى تعزيز الشعور الطائفي لدى الشيعة والبدوي لدى القبائل
* من حسن حظ الحكومة ان انحسار الدعم القبلي عوضه اصطفاف نواب المناطق الداخلية خلف الحكومة
* عقدة الذنب وراء صرخات ومبالغات الحفاظ على الدستور
* العبث والتدخل في الانتخابات العامة حولا مجلس الأمة إلى عبء على النظام الديموقراطي ومعطل للتنمية

كتب وأعلن الكثيرون من المعنيين بالشأن السياسي وبالذات بالصراع الحكومي البرلماني ان الحكومة تملك «أغلبية مريحة»، تستطيع بها ومعها ان تمرر وان تقرر ما تشاء من قوانين واجراءات. والواقع ان هذا التقرير والتسليم يفتقر إلى الدقة والموضوعية. وقد يكون صحيحا قبل سنوات، وقبل التغيرات السياسية والاجتماعية، خصوصا التي حدثت بعد الغزو، لكنه بالتأكيد ليس صحيحا هذه الأيام، فالحكومة أو السلطة بشكل عام ضعفت، فقدت سيطرتها و«ميانتها» على الكثيرين، كما تقلصت قدراتها المادية والأدبية. هذا إلى جانب ان التحالفات والانعطافات الاجتماعية والسياسية قد خلقت صعوبات جديدة أمام السلطة، وحيدت الكثير من القوى التي كانت تستثمرها عند الحاجة أو توجهها لكبح جماح المعارضين.
لقد تعرضت سطوة أو هيبة السلطة ــ «الحكومة» كما نعرفها في الكويت ــ الى اهتزاز كبير بعد الغزو. وبعد السقوط الفاضح والسريع للدولة في احضان الغزو العراقي، وكان من الممكن تعويض هذا النقص أو استعادة هيبة الدولة لو أن مؤسساتها واركانها كانت السبب الأساسي او الواضح او على الاقل المشارك في عملية التحرير. لكن تكفل الدول الغربية بالامر وتوليها بشكل مباشر وواضح عملية طرد الجيش العراقي واستعادة الكويت، بغياب اي حضور فعلي أو حتى اعلامي للسلطة الكويتية، حرم هذه السلطة من استعادة هيبتها.
حتى الدخول الرمزي لجيوش التحرير لمدينة الكويت المحررة حُرمت منه السلطة وتشرف الجيش السعودي باستقبال وامتنان صامدي الكويت، فقد كان هو وليس الجيش الكويتي أول من دخل مدينة الكويت المحررة. كل هذا، ورغم محاولات الاعلام الحكومي بعد التحرير اسباغ البطولة على بعض قيادات السلطة وتجيير التحرير للتحركات الحكومية الدبلوماسية، كل هذا لم يجد نفعا أمام الحقائق والوقائع التي عايشها الكويتيون في الداخل قبل الخارج.
كان من الممكن التقليل من مساوئ هذه النكسات التي تعرضت لها السلطة بعد الغزو لو كان «الاعلام» والتربية الكويتية موجهين وطنيا، أو حتى مجيرين، مثل بقية اعلام سلطات المنطقة، مجيرين لخدمة السلطة وتلميع مؤسساتها وقياداتها. لكن الاعلام والتربية الكويتية منذ 1976 تم احتواؤهما من قبل الجماعات والاتجاه الديني الذي قتل الروح الوطنية وحاصر كل الشعارات السياسية لمصلحة نشر الانتماء الديني وغرس الالتزام والانتماء الاخلاقي وليس السياسي لدى الناشئة وعموم الناس. لدرجة انه حتى «السلوغنات» الحكومية الطفولية، مثل «بابا سعد وبابا جابر» تم الغاؤها واحتواؤها بحجة ان التقديس لله وحده. وعلى هذا المنوال فإن محاولات الاعلام الحكومي تجيير عملية التحرير للقيادات الكويتية كانت تقابل بحزم وبقوة من قبل الاتجاه الديني المهيمن على اعلام الحكومة نفسه بحجة ان «الفضل الاول والاخير هو لله في عملية التحرير».
لسوء حظ السلطة فإن هذا تزامن مع ضعف القيادات الموجهة والاقطاب النافذة فيها، فقد تعرض الامير الراحل المرحوم الشيخ سعد الى العجز عن ممارسة مهامه، وهو الذي كان له دالة كبرى على من جنسهم من ابناء القبائل. من الملاحظ هنا ان فرع ابناء الامير سالم من الاسرة الحاكمة هم الاكثر التصاقا بابناء القبائل وهم من تولى امور الدفاع والداخلية التي كانت حلقة الوصل المباشرة بين السلطة و«البدو» أو نوابهم، ممن كان يحرص على التسيد على لجنة الداخلية والدفاع في مجلس الامة، ومن الملاحظ ايضا هنا ان هذا الفرع خسر طبيعيا مع الاسف كل افراده ممن تولوا مسؤولية الداخلية او الدفاع. فقد توفي الشيخ المرحوم علي صباح السالم ثم المرحوم سالم صباح السالم والامير الراحل الشيخ سعد، وكل هؤلاء تولوا مقاليد وزارتي الداخلية والدفاع، وكان لهم تبعا لذلك تأثير واحيانا حظوة لدى القبائل وقادتها المحليين، بل ان الفرع خسر ايضا المرحوم جابر العلي الذي كان له دالة على بعض نواب العجمان.

تعزيز المذهبية والقبلية
غياب التربية الوطنية وحلول الدروشة الدينية مكانها في مدارس التربية، وفي وسائل الإعلام لم يضعفا التربية والانتماء الوطني وحسب، بل بفعل المتغيرات السياسية في المنطقة وبفضل خواص المجتمع الكويتي أديا بدرجة كبيرة إلى تعزيز الشعور الطائفي لدى الشيعة، والبدوي لدى القبائل. ومن هنا بدأت متاعب السلطة السياسية في السيطرة على أو احتواء حلفائها التقليديين. التقرب للجماعات الدينية كان له ثمن باهظ دفعته السلطة، ودفعته ولا تزال تسدد فاتورته الكويت برمتها.
لهذا فإن الحكومة أو السلطة بأكملها لم تعد تملك النفوذ الذي توافر لها في السابق داخل مجلس الأمة، ولم تعد مهيمنة كما في السابق على الأغلبية فيه. والذين رددوا مراراً وتكراراً مقولة إن الحكومة تملك أغلبية مريحة في المجلس مدعوون إلى إعادة التفكير في ما يطرحون ويزعمون. إذ لو صحت هذه المقولة غير الدقيقة وغير العلمية لما دخل البلد منذ التحرير، وحتى الآن في متاهات لم ينج منها بعد.
مشكلتنا هنا، وأنا رددتها مراراً، ان الحكومة لا تملك بالفعل أغلبية أو تكتلاً قوياً داخل البرلمان. على الأقل ليس كما في السابق. فقد تمرد الشيعة منذ الثمانينات، ولو ان أغلبهم في تحالف أو هدنة حالية مع الحكومة. كما ان نواب المناطق الخارجية الذين وفروا الدعم السابق للسلطة قد أصبحت لهم أجنداتهم الخاصة، وهم مضطرون حالياً لتلبية احتياجات ومطالب ناخبيهم الكويتيين، وليس المجنسين كما في السابق قبل الانصياع - كما في الأيام الماضية - للأوامر والنواهي الحكومية. هذا بالإضافة إلى ان المناطق الخارجية لم تعد تحت هيمنة الاتجاه الديني الذي حقق نفوذاً متنامياً فيها منذ حل مجلس الأمة عام 1976 وحتى السنوات الأخيرة التي كشفت عن حجم التناقض الحقيقي بين البداوة والتدين.
كان من الممكن ان يكون الوضع أسوأ للحكومة بكثير، لو ان انحسار الدعم القبلي لم يقابله تعويض، بالذات في المجلس الحالي، من قبل النواب الحضر أو نواب المناطق الداخلية الذين وجدوا انفسهم في معظم الاوقات «مضطرين» للدفاع عن السياسات الحكومية، وبالذات المدنية او التنموية منها التي اصبحت فجأة في مرمى نيران اما النواب البدو او التحالف القبلي الديني.

تغيير الوزراء يعقد الوضع أكثر
إننا نعاني وضعا غير مستقر هنا، نتجت وتنتج عنه كل الازمات السياسية التي هيمنت على البلد منذ التحرير وحتى الآن. واذا كانت سذاجة البعض قد هونت او اخفت طبيعة الصراع وحقيقة الموقف عبر القاء اللوم على الحكومات الهشة والوزراء الذين لا حول لهم ولا قوة، وعبر المطالبة السخيفة بــ«وزراء دولة» يشكلون حكومة انقاذ وطني، وكأن هذه النوعية من الوزراء قادرة على الغاء التناقضات الاجتماعية، ومحو الاختلافات السياسية الحالية. فإن هذه التناقضات والمعضلات ستبقى قوية وهي قادرة الى حد كبير على شل الحكومة واعاقة حركة التنمية.
ان الوضع اكثر تعقيدا من تغيير الوزراء او حتى تغيير رئيس الحكومة الذي اعتقد البعض فجأة انه الحل السحري.
الحكومة الحالية بدرجة اساسية ورثت كل المعضلات من ادارة الشيخ سعد للبلد خلال السنوات التي اعقبت حل مجلس الامة عام 1976 وحتى التحرير. في الواقع فإن بداية تأثيرات الشيخ سعد في الوضع العام بدأت في مراحل متقدمة، سلميا او توافقيا في لجنة الدستور، ثم بشكل قسري بما لحقها من احداث وتغيرات سياسية واجتماعية. ومع تعقيدات وتبعات هذه الوراثة تواجه الحكومة ايضا انقلاب التحالفات وتغير المواقف وبروز معارضة جديدة من رحم الولاء الحكومي.
هذا الوضع المعقد اشار الى اسبابه بشكل واضح ومحدد حضرة صاحب السمو في لقائه الاخير مع جريدة فرانكفورتر الالمانية والكامنة في التوازن الذي لجأ اليه المشرع الدستوري في النظام الكويتي بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني. وحتى نكون منصفين للمشرع الدستوري ولمن اختاروا ان يكون النظام الكويتي بهذه المناصفة الدقيقة بين النظامين، يجب الاشارة، او في الواقع الاعتراف بان المشرع الدستوري عندما قام باختياره كان على علم وثقة بان مجلس الامة سيكون «متقدما» على الحكومة، وانه سيكون منحازا اكثر الى التطور والتنمية.
لهذا منح المشرع «السلطة» بعض القوة للسيطرة والتحكم في المجلس، وكبح جماح الحركة السياسية المتشوقة للنظام الديموقراطي. حاليا يشكل المجلس اداة اعاقة وعامل كبح فعال للتنمية. لقد خيب المجلس آمال المشرع، واصبح اغلب نوابه في وضع متناقض والنظام الديموقراطي والاحكام الدستورية بحيث انهم «مضطرون» في معظم الاحيان الى اتخاذ مواقف وسياسات وحتى سن قوانين تتعارض مع المبادئ الاساسية للنظام الديموقراطي، وتختلف او هي لا تتوافق وبعض مواد الدستور الذي اقسموا عليه.
اليوم، وربما من حسن حظ الكويت قبل حظ الاسرة ان هذا الكبح يمارس للحد من غلو مجلس الامة في التطرف الرجعي وفي الرقابة المبالغ فيها للسلطة التنفيذية.
ان صرخات ومبالغات الحفاظ على الدستور التي نسمعها هذه الايام هي في حقيقتها تغطية ورد نفسي على الشعور بالذنب والاسف، بمعنى انه اعتراف بالذنب وتكفير مع الاسف غير صادق عن هذا الذنب الذي اقترفه ويقترفه «جماعة إلا الدستور» في حق النظام الكويتي وحق الحريات الشخصية التي برعوا في استهدافها، وفي الواقع تقليصها في السنوات الاخيرة.
لقد عبثت «السلطة» بالتوازن الذي كان متوافرا للنظام عبر اضعافها المتعمد لمجلس الامة من خلال اضعاف نوابه وتغييب الاتجاهات المتقدمة والديموقراطية عنه. لو ان السلطة لجأت الى «تعزيز» وضعها دستوريا او سياسيا او تنظيميا من دون العبث بالانتخابات العامة والتأثير في الناخب واتجاهاته لحققت ربما كسبا لمصلحتها ولمصلحة النظام العام ايضا. لكن المؤسف انه منذ الاستقلال وحتى الآن هناك محاولات محمومة مستمرة من قبل اطراف في السلطة هدفها الاساسي الانتقاص من سلطات الامة، والغاء الثوابت الدستورية في حق الأمة في التشريع والرقابة التي كرسها دستور 1962. هذه المحاولات آتت اكثر من اكلها، لكنها اضعفت كثيرا مجلس الامة بحيث اصبح «عبئا» على النظام العام وعبئا على السلطة نفسها. لقد تم الاخلال بالتوازن، ولكن ليس بتعزيز السلطة، ولكن عبر اضعاف مجلس الأمة، هذا احدث الشرخ الحالي في النظام السياسي الكويتي والذي يصعب جبره.
المطلوب إذن اعادة التوازن إلى النظام الكويتي، وتحقيق المعادلة المنصفة التي خطط لها المشرع الكويتي بين النظامين الرئاسي والبرلماني. وهذا لن يكون الا بتغيير الاجراءات عبر حالة دوران مغايرة للحالة الاولى، اي ان يتم عكس الامور. على طريقة «اللي شبكنا يخلصنا»، لكن المؤسف ان هذا صعب التحقيق، اولا لأن الظروف التي اختلقتها السلطة خلقت معها اطرافا وقوى ذات نفوذ وسطوة حالية لن تسمح بالتفريط بأي منها. ثانيا ان هذا يتطلب«عبثا» محمودا بالدستور، وبالاوضاع السياسية، وهو ما لا يراهن احد على سلامته او «محموديته».
ربما لو بذلت السلطة جهودا جبارة، وربما لو نشرنا الوعي السياسي بدلا من «الإيمان الديني» الذي تروج له الاجهزة الرسمية الإعلامية والتربوية هذه الأيام، ربما لو فعلنا ذلك وربما لو عدلنا الدوائر الى دائرة واحدة، فإننا - وربما ايضا - بعد ثلاثين او خمسين عاما سنكون في وضع افضل من وضعنا الآن... لكن من يملك الوقت ومن يملك القدرة لانتظار كل ذلك..؟! ليس لدينا الوقت وليس لدينا القدرة على انتظار عقود الإصلاح.. لهذا لا بد من عمل شيء اليوم قبل الغد، ولا بد من المغامرة في طريق الإصلاح، وان كانت خطرة، لأنه وببساطة لا حل ولا أمل في غير ذلك.


عبداللطيف الدعيج

القبس

تعليقات

اكتب تعليقك