مبادرة الحوثيين بعد الصدمة والترويع
عربي و دولييناير 27, 2010, منتصف الليل 3455 مشاهدات 0
رغم ورود أخبار غير مؤكدة عن وساطة قادها الرئيس السوري بشار الأسد الذي زار السعودية في 13 يناير الجاري لوقف القتال بين المتمردين الحوثيين والمملكة العربية السعودية الشقيقة، فإن المراقب لطبيعة سير العمليات العسكرية بين الطرفين لا يجد مفاجأة في إعلان زعيم المتمردين عبدالملك الحوثي في اليمن عن مبادرة تم بموجبها انسحاب مقاتليه من جميع المناطق السعودية. فقد كشف سير العمليات العسكرية عن الفكرة الهجومية الاستراتيجية لكلا الطرفين على الجبهة، وتبادل كلا الطرفين الاستراتيجية القتالية نفسها منذ أن بدأ القتال في نوفمبر الماضي.
والاستراتيجية تعريفا هي الإدراك المسبق لما في الأفق، فعندما احتل الحوثيون جبل دخان كانوا بذلك يعلنون الحرب على المملكة العربية السعودية الشقيقة. فاعتبرت الرياض أن ذلك الخرق لحدودها انتهاك لسيادتها فخلقت بذلك هدفا كان على العسكريين السعوديين تحقيقه من خلال رد الحوثيين 10 كيلومترات داخل الأراضي اليمنية كشرط لوقف القتال.
لقد جهز الحوثيون في مراحل القتال الأولى مسرح العمليات، بل وقاموا بتسمية اللعبة التي أرادوا من السعوديين منازلتهم فيها، وهي حرب تقوم على استراتيجيات الاستنزاف؛ حيث يرى العديد من المراقبين أن القائد الميداني السعودي قد انقاد إلى التمسك بأصول اللعبة الحوثية رغم خياراته العديدة الأخرى. ويؤكد ما نذهب إليه حديث مساعد وزير الدفاع السعودي الذي أشار فيه في 23 يناير الجاري إلى أن قوات بلاده واجهت خلال العمليات ضد المتمردين الحوثيين أفراداً مدربين على مستوى عالٍ، ويمتلكون أسلحة متطورة لا تتوافر إلا للجيوش، موضحاً أن التدريب والتسليح والتخزين لدى المتمردين تدل على أن لهم أهدافاً من سنين، وأن هناك جهات دربتهم ودعمتهم في ذلك.
وهنا نشير إلى أن استراتيجيات الاستنزاف تقوم على إنزال ضرر متتابع بالخصم عبر سلسلة من الضربات المستمرة والمتصاعدة على فترة زمنية طويلة، لخلق أثر تراكمي عند العدو يؤدي إلى إنهاكه ماديا وبشريا ويقوض معنوياته ويجهد إرادته.
وفي الوقت نفسه قدَّر الحوثيون أن لا قِبَل لهم بالنصر على القوات السعودية، فكان الاستنزاف خيارهم الوحيد؛ لأنه في أدبيات الحروب خيار الفريق الذي يعرف أن ميزان القوى ليس في صالحه في المعركة الدائرة رحاها حاليا أو في المستقبل القريب. لكنه من جهة أخرى لا يستطيع التوقف كلياً عن العمل العسكري لأسباب سياسية أو عسكرية ملحة.
تبنى الحوثيون اعتماد استراتيجية الاستنزاف الدفاعي بعد خرقهم الأول للحدود السعودية لتحقيق أهداف عدة..
أولها: المناورة لكسب الوقت من أجل بناء قوتهم الذاتية؛ حيث وصل عددهم إلى 10 آلاف مقاتل بعد تشكل المحور الثلاثي المكون من القاعدة- الحوثيين- الحراك، وإن كانت مشاركة الحراك في دعم الحوثيين تهمة خرجت من صنعاء ولم تؤكد من مصادر محايدة.
ثانيها: حاول الحوثيون في اعتمادهم استراتيجية الاستنزاف استكمال التعبئة المادية، ويؤيد هذا الأمر ما تبثه وزارة الدفاع اليمنية من قطعها بشكل مستمر لإمدادات وتعزيزات في طريقها للحوثيين من الداخل اليمني.
ثالثها: الاستنزاف الحوثي هو كسب للوقت لزيادة الدعم الخارجي، سواء من إيران أو إريتريا أو حتى من الصومال على شكل مقاتلين لا يحملون إلا الكلاشنكوف.
رابعها: انتظار تحولات في الموقف السعودي حيال ما يجري في اليمن كالخروج وترك صنعاء تواجه مصيرها، أو بانتهاج الحل الدبلوماسي الطويل، ولعل هذا أهم ما كان يريده الحوثيون من حرب الاستنزاف.
خامسها: تمنى الحوثيون تحولات في الساحة العالمية، ومن ذلك ما جرى قبل فترة قصيرة عندما أعلنت واشنطن نيتها لمساعدة اليمن للخروج من أزمته الراهنة، فجاءت ردود الفعل على قرار التدخل الأميركي متنوعة ومتضاربة من قِبَل دول وجماعات هدد بعضها بضرب المصالح الأميركية، وأدت لإغلاق واشنطن لسفارتها في صنعاء لفترة قصيرة. ومن التحولات الأخرى التي أرادها المتمردون تدخل أطراف عربية تؤمن انسحابهم مع حفظ ماء الوجه وهذا ما جلبته الوساطة السورية.
سادسها: من أسباب تبني الحوثيين لاستراتيجية الاستنزاف رفع كلفة الحرب نسبيا على السعودية معتمدين على أن من إيجابيات ما يجري أنهم يطبقون الاستنزاف الدفاعي، فالقتال يدور على الأراضي اليمنية مما يقلل من الكلفة بالنسبة لهم ماديا ومعنويا.
ولا يمكن لخبير تحت أية مدرسة فكرية عسكرية أن يسمى ما جرى طوال شهرين من بداية القتال إلا بحرب الاستنزاف، فقد أخلت المملكة 11 مدرسة من مراحل مختلفة، على الشريط الحدودي مع اليمن، ونزح أهل القرى الحدودية. وفي 23 يناير 2010م أعلن الأمير خالد بن سلطان أن السعودية قد عثرت على 20 جثة من أصل 26 جنديا فقدوا في القتال. وبهذا يرتفع عدد ما خسره الجيش السعودي إلى 133 شهيدا. وفي ذلك مراعاة سعودية لحقيقة أن حرب الحوثيين قد أفرزت وضعا عسكريا استنزافيا من دون أن يكون هذا هو الهدف المنشود من قبل السعوديين. ثم جاء تبادل الأدوار فقامت القوات البرية والجوية السعودية الشقيقة بتطبيق استراتيجية استنزافية هجومية، في قبول ذكي للالتزام بقواعد لعبة فرضت عليهم قسرا.
لقد ارتبطت حرب الاستنزاف في أذهاننا بخنادق الحرب العالمية الأولى، وللخروج من مستنقعاتها وأنفاقها تفتق الذهن الألماني الفذ عن أبرع فنون الحرب على الإطلاق وهي «الحرب الخاطفة»، لكن حرب الحوثيين قد أفشلت سلفا أهم عنصر تعتمد عليه الحرب الخاطفة، وهو عنصر المفاجأة، وإن لم يكن مبررا عدم العودة إلى المربع الأول عسكريا، وإعادة تشكيل مسرح العمليات سعوديا هذه المرة، وإجبار الحوثيين على الدخول في لعبة جديدة، تتم في ثناياها ممارسة الحرب الخاطفة بشكل صغير وعلى جبهات متفرقة، خصوصا أن المملكة قد أعلنت عن وجود وحدات من المظليين والقوات الخاصة في المنطقة.
ومع تراجع فرص نجاح عقيدة الحرب الخاطفة الشاملة ولتلافي حرب الاستنزاف لاحظ المراقبون ارتفاع وتيرة النجاح العسكري السعودي الذي قام على تطبيق آخر مبتكرات الفكر العسكري في القرن الـ21 باستخدام القوة الكاسحة والتفوق التقني والعملياتي ضد الحوثيين بالطائرات والمدفعية وغيرها من الأسلحة المتفوقة ناريا والتي تدار من قِبَل قوات صفوة عالية التدريب؛ حيث تم تطبيق «عقيدة الصدمة والترويع Shock and awe» التي نفذتها قوات الولايات المتحدة في حرب تحرير العراق عام 2003م وأدت لإثارة الهلع في قلوب جنود صدام بالقوة النارية الرهيبة حتى انتهى كل شيء. وقد شملت العقيدة التي طبقتها القوات السعودية وأدت إلى تراجع الحوثيين من خلال مبادرتهم بالانسحاب، القصف العنيف بهدف خفض الروح المعنوية وإحداث توتر شديد لقوة الحوثيين، بالإضافة إلى إلحاق أكبر الخسائر واستنزاف الإمدادات العسكرية، وإنهاك الحصون الدفاعية للحوثيين، تخللها قيام مجموعات كبيرة من القوات الخاصة بالتسلل خلال نقاط الضعف الحوثية واقتناص المتمردين؛ حيث أخرجت الصدمات السعودية فلول الحوثيين منسحبين من خنادق الاستنزاف وهم في هلع من جرَّاء ما تعرضوا له.
تعليقات