من بلاط الخميني الى سجون نجاد
عربي و دوليتقاطعات المشهد الإيراني الحالي مع المشاهد الأخيرة لسقوط الشاه
يناير 9, 2010, منتصف الليل 4310 مشاهدات 0
في مشهد عريض سنحت لي الفرصة لأرى الزلزال السياسي الذي انتشرت صدوعه في شوارع طهران والمدن الإيرانية لأخرى. فقد شاهدت مظاهرات بمناسبة الاحتفال بمرور 40 يوما على سقوط المتظاهرين في قم. وشاهدت تظاهرات دينية عنيفة في تبريز حيث قام رجال الدين الإصلاحيون بدخول الساحة وعارضوا النظام القائم، كما شاهدت رجل طهران يقول بجلافة: لا أحد يمكنه الإطاحة بي، تدعمني غالبية الشعب وكل العمال و700 ألف جندي. كما رأيت إحراق سينما (ركس) في مدينة عبران وسقوط 400 قتيل. وقرأت تأكدت سي.أي.أيه بأن إيران 'ليست في وضع ثوري ولا حتى في وضع ما قبل ثوري'. وفي مشهد آخر اجتمع بضعة آلاف من الأشخاص في ساحة جاله في طهران. لكن التظاهرة منعت وأطلق الجنود الرصاص وسقط عشرات القتلى. وشاهدت تظاهرات في أكثر من 40 مدينة. وإضراب 30 ألف عامل. والمطالبة بإلغاء القانون العرفي وإطلاق سراح السجناء السياسيين. ثم التوقف شبه الكامل لأكبر مصافي البترول الإيرانية. وفي المشهد الأخير من الكوميديا السوداء قرأت سطرا يقول فيه بطلها محمد رضا بهلوي: من أين يأتي هذا العصيان وهذا الاضطراب؟ من هو المحرّض عليهما؟ من يدير هذه المعارضة؟ من أطلق هذه الحركة الدينية؟
تلك كانت ولادة الثورة الإسلامية في إيران في كتاب 'من بلاط الشاه إلى سجون الثورة' لمؤلفه عالم الاجتماع والمؤرخ الإيراني إحسان نراغي. وقد مضى على نشره 10 سنوات. وقراءة ذلك الكتاب مؤلمة وسوداوية. ففي الجزء الأول نقف أمام طاغية ينهار حتى أن نراغي قد نجح بشكل كامل في جذب تعاطفنا مع الشاه محمد رضا بهلوي، حيث يظهر كرجل يقوده إلى الهاوية أمران، أولهما عناده وصلفه، وثانيهما 'سحن قاتمة لمتزلفين عديمي الذمة وصعاليك يستحقون الشنق 'كما وصف فريدريك مايور الذي كتب مقدمة الكتاب الحلقة المحيطة بالشاه. وفي الجزء الثاني يتحدث نراغي عن تجربته في سجن 'نيفين' الرهيب وكيف سقط بازرقان وبني صدر ومنتظري وغيرهم.
ولطالما آمنت بأن التشابه في المقدمات لا يفضي بالضرورة إلى تشابه في النتائج، لكن ما أثارنا في هذا الكتاب هي القفزة الذهنية التي تجبرك سطوره على القيام بها، حيث قفزت الأحداث إلى الأمام 30 عاما، لتتفرق في شوارع طهران تسطر مقدمات مشابهة لما جرى في شتاء 1979م، حيث نجد الآن صدامات عنيفة في 'عاشوراء' هي الأعنف، فخرج عشرات الآلاف من المتظاهرين اعتراضا على حكومة نجاد، مرددين شعارات الموت للديكتاتور. وفي مكان آخر ذكرت جماعة رجال الدين الإصلاحيين 'في انتخابات الرئاسة الأخيرة، تزعزعت ثقة الجمهور بشدة'. لكن رجل طهران رد قائلا: لقد عكست نتائج الانتخابات تأييدًا من قِبل الأغلبية الكاسحة من الشعب الإيراني. ليرد عليه تلفزيون الدولة الناطق بالإنجليزية 'برس تي في' أن 8 أشخاص قتلوا في التظاهرات المناهضة للحكومة. وكما كانت قراءة وكالة الاستخبارات الأميركية للوضع الإيراني قبل 30 عاما مؤيدة للشاه بشكل فج ومضللة لكل من يقرأها اتهمت فنزويلا الحليفة الرئيسة للرئيس الإيراني نجاد الولايات المتحدة بمحاولة زعزعة استقرار إيران، لكن دعم شافيز لم يغير شيئا، فتجددت الاضطرابات في العاصمة، في أثناء إحياء الذكرى الـ40 لمقتل ندا أغا سلطان. وقد ردت الحكومة الإيرانية في بيان لها'، أن المعارضين للحكومة قد جعلوا أنفسهم خدما للعدو ويتوهمون أنهم يستطيعون إسقاط النظام الإسلامي. ومن جهة أخرى قال مراسل لبي بي سي إنه من المتوقع تنظيم المزيد من الاحتجاجات في طهران حيث تزايد الغضب من سوء معاملة المئات من المحتجين في السجون. وقال الرئيس محمود نجاد إن إيران قد ترد بوقف مبيعات النفط إذا أحيل ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي.
ندا سلطان لحظة سقوطها
في كتاب إحسان نراغي نجد أحداثا تحتفظ بكامل صلاحيتها لتكرار نفسها، ومن سماتها صعوبة التغير في إيران، فما زال هناك نظام في طهران كنظام الشاه يجهد نفسه لاحتلال الصدارة في المجتمع الدولي، ولا يرى من الأخطار المحدقة به إلا الآتي منها من الخارج على شكل تحد لعظمة فارس، سواء كدولة عظمى في الشرق الأوسط بأسلحتها التقليدية كما أراد الشاه، أو كدولة نووية كما يريد نجاد. وفي كلا الحالتين لم يكن النظام قادرا على أن يتنبه إلى أن الخطر ضده يأتي من الداخل.
ومن السمات الأخرى التهام النظام قبل 30 عاما لرجاله بشهية كبيرة، فقد غيبت الأحداث بشكل غير منصف رئيس الوزراء شهبور بختيار، ورئيس الوزراء مهدي بازركان، ورئيس الوزراء أبوالحسن بني صدر وغيرهم كثيرين. وها هي الأحداث المحتفظة بكامل صلاحيتها تكرر نفسها مع رجال عاشوا في بلاط سماحة الإمام الخميني، فقد دعا عباس واعظ طبسي، ممثل مرشد الثورة الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي لإعدام زعماء المعارضة في بلاده واعتبرهم أعداء الله. فتم اعتقال المعارض إبراهيم يزدي (78 عاما) أول وزير للخارجية بعد الشاه. وحين توفي المرجع الديني حسين علي منتظري أكبر المعارضين، أصدرت السلطات قرارا بمنع نشر صوره ونبأ وفاته، وأقامت نقاط تفتيش لمنع دخول الإصلاحيين إلى العزاء، كما باشرت الحكومة في مضايقة رفسنجاني، وخاتمي، وموسوي، وكروبي، تمهيدا لإرسالهم إلى المعتقلات أو الإقامة الجبرية كما حصل لمنتظري.
لقد خلص إحسان نراغي أن رجال الدين استطاعوا الاستحواذ على المفاصل الحياتية في إيران، ويبدو أن الرئيس محمود أحمدي نجاد قد وصل إلى أن إزاحته لن تتم إلا برجال دين آخرين قابعين في تلك المفاصل، وعليه، فلن يتردد في إصابة مفاصل الحياة الإيرانية بالشلل إن كان ذلك هو السبيل الوحيد لإخراجهم منها.
إن استرجاع ذكريات الأحداث التي مثلت لحظات تحول في حياة الشعوب الإيرانية كما صورها نراغي تظهر أن الشاه رغم هيكله الأمبراطوري الزائف كان يحمل هم الموجات العارمة من الغضب الشعبي، حيث كان سؤاله الأول لإحسان نراغي في كل لقاء هو (كيف ترى الوضع منذ لقائنا الأخير، هل تستطيع أن تشرح لي سبب هذه الاضطرابات؟) يقول ذلك رغم وجود قسم في جهاز السافاك الاستخباري الرهيب تحت اسم (مكتب استياء الشعب) لكن عملاء المكتب كما قالوا لنراغي في السجن لاحقا 'كلما تقدمنا في تحرياتنا اصطدمنا بقائدنا وهو يقول لا تضعونني في ورطة، فالشاه يحب من يبشره لا من ينذره. فهل يستطيع الرئيس محمود أحمدي نجاد الاقتناع بضرورة إزالة المطلقية عن يقينية أجهزة الاستخبارات الإيرانية التي تهون عليه الأمر؟
كما تأتي قيمة الكتاب من ذاكرة مؤلفه الفذة التي اختزنت حوارات مثقلة بالإشارات والرموز الكثيرة مع الشاه في الأيام الأخيرة من حكمه، فقد قال الشاه مصورا نفسه رمزا وطنيا حقيقيا: إن ما حققناه على الصعيد الاقتصادي والعسكري في الخليج يشكل سدا في وجه القوى العظمى، لقد تمكنا من بسط نفوذنا حتى المحيط الهندي، وكنا مصممين على أن نصير قوة هائلة في المنطقة، كانت خطتنا ترمي إلى بسط حزام أمننا حتى الدائرة العاشرة الموازية لخط الاستواء بين جنوبي الهند وشمالي سيلان. فكيف بإمكان المواطنين ألا ينتبهوا إلى هذا الأمر؟
وفي سبيل تنصيب نفسه رمزا وطنيا، انتبه نجاد لذلك الأمر، فصار يوم 29 أبريل من كل عام في التقويم الإيراني يعرف (باليوم الوطني للخليج الفارسي).
تعليقات