الشحنة الناسفة قرب هرمز
عربي و دولينوفمبر 1, 2009, منتصف الليل 2540 مشاهدات 0
يحمّل بعض المحللين تعبير (الجيوبوليتيك) مسؤولية الإيحاء لأدولف هتلر بطموحاته التوسعية المدمرة، فقامت دول المحور المنتصرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بالتوقف عن استخدامه في وسائل إعلامها، بل جرى حذفه من برامج التعليم في فرنسا وألمانيا، كما يقول ألكسندر دوفاي (Alexandre Defey) مؤلف كتاب الجيوبوليتيك (La géopolitique) لكن الكلمة المحظورة ظلت ذريعة رجال السياسة لتفسير معنى المجال الحيوي للدولة.
وقبل أيام هزت نظام الأمن في إيران عملية (سرباز) التي أعلنت جماعة جند الله البلوشية تبنيها لها؛ حيث إنه من المتوقَّع أن تطيح هذه العملية برؤوس عدة في المؤسسات العسكرية الإيرانية؛ لأنها تعني هشاشة النظام المسؤول عن أمن الجمهورية الإسلامية وهو العاجز عن حماية قادته في زمن الحرب في منطقة مضطربة. وبلوشستان منطقة جنوب غرب باكستان، كما أنها جنوب غرب أفغانستان وهي أيضا شرق إيران، وتبعد هذه المنطقة 300 ميل فقط عن مضيق هرمز.
وحتى نحيط بالصورة الكاملة لما يجري في بلوشستان علينا أن ننظر إلى مفهوم الجيوبوليتيك من الزاوية الإيرانية والأميركية والباكستانية ثم الخليجية، وهنا نشير إلى أن خير من يعرف معنى الجيوبوليتيك هم الإيرانيون أنفسهم، حتى إننا لا نذهب بعيدا في أن مفهوم المجال الحيوي ومفهوم الخليج العربي صيغتان مترادفتان في المعهد الدبلوماسي في طهران. ومن متابعة ردة الفعل الإيرانية غير الرسمية حيال العملية نلاحظ التذمر الإيراني ليس من باكستان والغرب فحسب بل من دول الخليج العربي، وهو تذمر لا يسنده شيء في عالم الواقع، بل لا يعدو أن يكون تفكيراً من منظور عقائدي، فبحكم دعمهم لحزب الله الشيعي في لبنان والحوثيين في اليمن وتحول الهلال إلى دائرة حولنا، يتوقع الإيرانيون تعاطفا سنيا مع جند الله البلوشي لفتح ثغرة في هذه الدائرة. وفي ذلك تجاوز إيراني لحقيقة أن طهران تمسك بمفتاح الخروج من الأزمة من خلال التعامل بحكمة مع إحدى أقلياتها ومن خلال سحب الباسيج من شوارع وقرى سرباز وإدارتها إدارة مدنية تسمح للسنة والجماعة بممارسة حقوقهم الأساسية المشروعة، ووقف سياسة القمع والاضطهاد والتمييز العنصري والطائفي. ولأن الجيوبوليتيك تكرس أهدافها للمستقبل، فعلى إيران أن تمنع تحول الجيب البلوشي على مشارف هرمز إلى نقطة توتر تشرع الأبواب للتدخل الدولي لحماية شريان النفط.
ورغم أن تمرد البلوش يعود إلى فترة طويلة فإن هذه الحادثة قد قفزت بقضية بلوشستان إلى واجهة الأحداث رغم التعتيم الإعلامي الغربي المقصود سابقاً. ولا يمكن لمراقب أن يتجاهل الاتهامات الإيرانية للولايات المتحدة وبريطانيا ودورهما في إعادة دفع منظمة جند الله إلى واجهة الأحداث استكمالا للدراسة التي وضعتها مؤسسة «راند» للدراسات الاستراتيجية (RAND Corporation) وفيها رسمت خريطة الأقليات في إيران وعلاقتها بطهران وسبيل تحريكهم ضدها. أما الأمر الثاني لاستقرار بلوشستان فهو في تجاوز مخططي واشنطن لقصر نظرهم الجيوبوليتيكي، فالمنطقة المطلة على هرمز أضيق من أن تستوعب شاحنة مفخخة، وأخطر من أن تُخلق بها نسخة أخرى من تنظيم القاعدة الذي أرضعته حكومة ريغان في أفغانستان ثم انطلق من عقاله فعقرها في نيويورك. لقد جندت واشنطن رجال المخابرات بدل رجال السياسة، وهو نفس قصر النظر الجيوبوليتيكي الذي تم في العراق وجاء بنتائج وخيمة.
ولا يمكن أن يعود الاستقرار لمنطقة بلوشستان وهي مقسمة إلى 3 أقسام بين دول متنافرة في عقائدها وطموحاتها. كما أن استقرارها بالصيغة التي كانت قبل العملية الأخيرة مشروط كما نعتقد بخروج باكستان من دوامة الضياع التي تعيشها، والتي أوصلت حركة طالبان إلى مشارف المفاعل النووي الباكستاني في روالبندي، وهو الضعف الذي جعل إيران تهدد بمطاردة جند الله داخل الأراضي الباكستانية في إعادة للمشهد الكردي بين العراق وإيران وتركيا، وهو ضعف جعل من سمائها مسرحا للطائرات الأميركية من دون طيار، ما يجعلنا نتساءل عن جدوى توثيق العلاقات العسكرية الخليجية، فمنذ تفجير باكستان لقنبلتها النووية وهي تعتمد على الردع النووي لتوفير ميزانيات الدفاع، ما أثر على تطور القوات المسلحة التقليدية في مجالات التسلح والتدريب، حتى إننا نتساءل عن جدوى تمرين (الصمام 3) بين القوات المسلحة السعودية الشقيقة وباكستان وهي في حالتها هذه. بل إن الملاحظ للأمور يصل مرغما إلى قناعة بأن هذا البلد الشرقي المسلم ينطبق عليه المنظور المتطرف لجمال الدين الأفغاني القائل (لا يُصلح الشرق إلا مستبد عادل)، والمستبد هنا هو أحد ضباط الجيش الباكستاني، فالعسكر هم خير من أدار باكستان طوال تاريخها.
وتقول الجيوبوليتيك إن مضيق هرمز هو القصبة التي يتنفس منها اقتصاد دول مجلس التعاون، كما أن بلوشستان بأقسامها الثلاثة هي لمضيق هرمز في قربها كعظمة الترقوة للحنجرة. وقد عاد الباحثون كما يقول ألكسندر دوفاي في نهاية سبعينيات القرن الماضي إلى استخدام مصطلح الجيوبوليتيك، وتعلمنا منها أن الدائرة الثانية لأمن الخليج العربي تتجاوز بلوشستان لتصل في امتدادها إلى باكستان والهند وأفغانستان. وما حدث يدق ناقوس خطر جديدا يضاف إلى العبء الاستراتيجي الملقى على عاتق دول مجلس التعاون.
ولأن الجغرافيا السياسية كما يقال تشغل نفسها بالواقع بينما الجيوبوليتيك تكرس أهدافها للمستقبل، لذا فقد توسع استخدام مفهوم المجال الجغرافي الجيوبوليتيكي في جارتنا العزيزة إيران، لتصبح المنطقة مسرحا لمنافساتها مع الدول الراغبة في زيادة قوتها المادية والمعنوية، بينما ما زالت دول مجلس التعاون مشغولة بالجغرافيا السياسية، رغم ما نملكه من قاعدة لتطبيق الجيوبوليتيك لصالحنا، فقد كانت لدول الخليج العربي امتدادات في بلوشستان منذ القدم، منها: تأمين الطرق الاستراتيجية إلى بلوشستان حيث عرف ربابنة البحر من أهل الخليج ميناء غوادار Gwadar البلوشي على مدخل الخليج العربي وكان لهم فيه تواجد ضخم. من جانب آخر، يسكن البلوش في عُمان والإمارات وبقية دول الخليج بنسب متفاوتة، ما يشكل امتدادا بشريا في اتجاهنا ويدعم أهدافنا المستقبلية، وكمثال ناجح تملك دولة الإمارات العربية المتحدة ممثلة بشركة أبو ظبي للاستثمارات البترولية الدولية حصة %74 في مشروع مصفاة نفط في إقليم بلوشستان.
بقي أن نقول إن علم الجيوبوليتيك لم ينضج في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية ليصل إلى أدولف هتلر إلا بعد دراسات مستفيضة صهرت في بوتقة واحدة علوم الجغرافيا والتاريخ والفكر السياسي والقومي، لتقود إلى حق ألمانيا المستقبلي في أراضٍ خارج حدودها لكنها تخدم مصلحتها، بينما نحن مطالبون بالحد الأدنى وهو صياغة الفكر الجيوبوليتيكي الخليجي للإحساس بالخطر الذي يسيل على خليجنا من جبال بلوشستان.
تعليقات