د. حسان الجودي في قراءة لقصيدة "القطيع" للشاعرة نور الموصلي
فن وثقافةالآن ديسمبر 4, 2024, 5:27 م 556 مشاهدات 0
النص:
يطفئون قناديلَهم باكراً
هادئين يغيبون قبلَ الغروبِ
ويضرمُني ألفُ عودِ سؤالٍ
ويتركُني شعلةً في الهزيعْ
يتبعون الرعاةَ صباحاً إلى السهلِ
منتظمين كحبَّاتِ عقدٍ
ومنسجمين بحدوِ العصيّ
ووحدي أجوبُ القفارَ
بلا وجهةٍ...
طائشاً أتحرَّى السرابَ
وأفقدُ بوصلتي وأضيعْ
الحظيرةُ موطنُهم
وإليه يعودون كلَّ مساءٍ
ليحرسَهم بين أحضانه الحانياتِ
سياجٌ وديعْ
وأنا لا سقيفةَ تسترُ أوجَ جنوني
وما من جدارٍ يطيقُ امتدادَ غصوني
يضيقُ عليَّ العراءُ الوسيعْ
قانعون
بجرعةِ ماءٍ وسلَّةِ تبنٍ
يبيعون أعمارَهم
ويجدُّون في السيرِ نحو الفناءِ...
وأنفقُ عمري
أفتِّشُ بين المجاهلِ
عن عشبةٍ للخلودِ
وإلا فموتٍ رفيعْ
ينضجون بلمحِ المراعي
ويستفتحون بعمرِ الزهورِ خواتيمَهم
وأعيشُ مديداً..
ولا أستبينُ شراسةَ هذا الوجودِ
لأمضيَ مثلهمُ خانعاً ووديع
مثقلاً بالنِّضالِ سدىً
حاملاً دمَهـم بعدهم..
يُسحبون إلى مذبحِ العمرِ
راضين مستسلمين
أراقبُهم
ينعمون هناك بموتٍ رحيمٍ
ووحدي أكابدُ عيشي المريعْ!
...........………
في قصيدة الشاعرة الصديقة نور الموصلي
" القطيع" يجتمع ثبات الإيقاع مع ثورة المضمون.
القصيدة نموذج على براعة الشاعرة في استثمار المفارقة بين شكل كلاسيكي منضبط ومضمون متمرد متسائل. تنطلق القصيدة من إيقاع ثابت "فاعلن" - لكنها تملأ هذا الإطار الموسيقي المنتظم بصوت يرفض الانصياع والاتباع، محققة بذلك مستويين متناقضين من الدلالة يثري كل منهما الآخر.
يرسم النص صورتين متقابلتين: صورة القطيع المنساق في طمأنينة وسكون، وصورة الذات المتمردة المشتعلة بالأسئلة. فبينما "يطفئون قناديلهم باكراً"، تضطرم الذات الشاعرة بـ "ألف عود سؤال". وحين "يتبعون الرعاة صباحاً إلى السهل منتظمين كحبات عقد"، نجد صوتاً متفرداً "يجوب القفار بلا وجهة". هذا التقابل الحاد بين الانتماء اليقيني والبحث القلق يتجاوز النظرة الكلاسيكية التي ترى الوجود منجزاً محسوماً إلى رؤية حداثية ترى في كل شيء سؤالاً يستحق المراجعة.
تتعمق المفارقة حين نتأمل علاقة هذا المضمون المتمرد بالشكل الإيقاعي المنضبط. فالشاعر يختار أن يصب تمرده في قالب "فاعلن" المنتظم، وكأنه يستعير أداة القطيع ذاته ليعبر عن رفضه له. هذا التناقض الخلاق بين انضباط الشكل وثورة المضمون يخلق توتراً جمالياً يثري التجربة الشعرية ويضاعف تأثيرها.
يمتد هذا التقابل إلى مفهوم الموت والحياة. فبينما يقبل القطيع مصيره ببساطة، "يبيعون أعمارهم ويجدون في السير نحو الفناء"، نجد الذات تبحث عن معنى أعمق للموت والحياة: "أفتش بين المجاهل عن عشبة للخلود وإلا فموت رفيع". هذا البحث عن معنى أعمق للوجود يتجلى في حركة مستمرة تتناقض مع سكون القطيع وثباته.
تصل المفارقة ذروتها في نهاية القصيدة حين تصف الشاعرة نفسها "مثقلاً بالنضال سدى"، بينما ينعم القطيع "هناك بموت رحيم". هذه النهاية المفتوحة على السؤال تؤكد أن التمرد، رغم مرارته، هو اختيار واعٍ وموقف وجودي عميق.
هكذا تنجح القصيدة في تقديم رؤية حداثية متسائلة من خلال استثمار التناقض بين شكل كلاسيكي منضبط ومضمون متمرد. إنها تثبت أن الشكل التقليدي يمكن أن يحمل مضموناً ثورياً، وأن الإيقاع المنتظم يمكن أن يكون وعاءً للتمرد والسؤال، في مفارقة جمالية تثري التجربة الشعرية وتعمق دلالاتها.
***
تقدم القصيدة مفارقة لافتة حين تختار الشاعرة صوتاً ذكورياً للتعبير عن التمرد. إنها بذلك تحقق تمرداً مزدوجاً: الأول في رفض الانصياع للقطيع، والثاني في تجاوز التوقعات النمطية للكتابة النسوية.
يعمل هذا القناع الشعري على توسيع أفق النص من قضية شخصية إلى موقف إنساني عام، مؤكداً أن التمرد على "القطيع" أكبر من حدود النوع الاجتماعي.
د. حسان الجودي
تعليقات