مساجلة شعرية بين مفرح الضمني ومحمد الخس يتصاعد فيها المزاح بما لايتجاوز الكلام المباح

الأدب الشعبي

رجا القحطاني 1586 مشاهدات 0


كتب رجا القحطاني

ثمة فن شعري يمارسه شعراء العامية وخاصة المخضرمون هو فن المراسلات الشعرية "الرديات" ، حيث يخاطب الشاعر زميله الشاعر بقصيدة تتضمن شكوى أو عتاباً أو ممازحة، فيرد عليه الأخير بقصيدة مماثلة من الناحية الفنية "الوزن والقافية" ،
وهذا العرف الشعري مأخوذ من شعراء الفصحى القدماء  بما يطلق عليه شعر النقائض مثلما جرى بين جرير والفرزدق ،
والنقائض تختلف عن المعارضات بأنها تقوم على الهجاء وادعاء التفوق وإظهار عيوب الآخر كما حدث بين جرير والفرزدق مثلما جاء آنفا.

والمعارضات أن يعارض شاعر قديم أو معاصر قصيدة شاعر آخر مقتفياً ذات الوزن والقافية والموضوع دون تجاوز أو تعدٍّ عليه.
ولعلنا نتذكر معارضة أحمد شوقي لكل من البوصيري والبحتري وابن زيدون في قصائدهم المشهورة " البردة،إيوان كسرى، أضحى التنائي"، وليس بالضرورة أن يوجه التابع إلى المتبوع خطاباً شخصياً مباشرا،
ومادفع "شوقي" إلى معارضتهم شعرياًّ هو التقدير وشدة الإعجاب وليس السؤال وانتظار الجواب،
إنما في الشعر الشعبي صار من المألوف مخاطبة الشعراء بعضهم بعضاً بالأدوات الشعرية ذاتها،

وللمساجلات سواءٌ الشفهية والكتابية تاريخ قديم في أدبنا العامي يعود إلى مئات السنين ، حيث جرت مساجلات رائعة بين فطاحل الشعراء والفرسان أمثال محمد القاضي وعبدالله بن ربيعة ومحمد الفوزان ، مروراً بمحمد بن هادي وتركي بن حميد ووصولاً إلى شعراء الماضي القريب أمثال صقر النصافي وسليمان بن شريم ومرشد البذال . ولم يزل فن المساجلات الشعرية قائماً ومستخدماً بين الشعراء المعاصرين أو الراحلين قبل فترة زمنية ليست طويلة.

وقد اطلعتُ على مساجلة في غاية الجمال والبساطة والجودة
بين الشاعرين الكبيرين مفرح الضمني ومحمد الخس رحمهما الله، إذ ذكَرَ فيها الضمني بعض أصحابه من الشعراء ومنهم الخس مداعباً ومشاغباً كوامن الذكرى في نفوسهم ، ومثيراً لقرائحهم لتجود بالنوادر في أصدق المشاعر ، فقال ضمن ماقال:

ياطارقٍ نجر الهوى لاتدنّه
جورك عليه يْكسّر القلب تكسير
تبحث خفا نفسٍ زعلها تكنّه
من ضيمها قلّت عليها التباصير

لا أظن أن أحداً وظف كلمة النجر "الهاون" وألحق بها كلمة الهوى بعبارة رشيقة ولمسة رقيقة ، ثم فتح الضمني باب المزاح معزيًّا أصدقاءه الشعراء بكبر السن وذهاب الصبا وأفول الهوى وخاطب سعود بن ثويران قائلاً:

ياعزتي لسعود من كبر سنّه
عنه انتحى عصر الصبا والغنادير
فيما مضى بيض الصبايا يبنّه
واليوم ماله من وراهن مشاوير
حتى ابن هادي بالعيون احربنّه
تغيرت  لفتاتهن  والمظاهير

وينتقل شاعرنا الضمني إلى إثارة صديقيه الخس وصحن مازحا:

والخس في قلبه من الحب لنّه
مركز غرامه بين عدمٍ وتعمير
وليا نشدته قال قلبي خذنّه
يامن ذكر لي وِردهن والمصادير
و"صحن" ليا شفته مع الناس كنّه
بين الرجا والياس يرسل مداوير
يطحن غرامه والهموم اطحننّه
يشكي على "دبيّان" بعض التدابير

وكيما نقف على القدرات الإبداعية والانسياب التعبيري لدى الضمني لنقرأ مقتطفات من قصيدته:

أقفىَ جديد  العمر مافيه  منّه
إقفاي عشبٍ جاه صيف ومعاصير
ليت  الليالي  ماخذنْ  رجعنّه
ينشاف زمل مدوجرات البواصير
راعي الهوى لو مايجيهن يجنّه
والشك زايل والطوارف مسايير
اليا  تلافنْ  من  ربيعٍ  قضنّه
تقبّلنْ  مقطانهنْ  بالتباشير
والعصر غالي لبسهن ينشرنّه
بين البيوت وبين ورّادت البير
راعي المحبه بالنظر يشغلنّه
تنشقّ دلْوه بين روس النواعير

ولايملك شاعرنا في غمرة التذكر وشفافية الوصف إلا أن يتحول من مغازلة الماضي وأيامه المستحبة إلى إظهار استيائه من سلبيات الحاضر وظواهره الغريبة في بيت واحد إذ يقول الضمني:
واليوم وقتٍ يوذي الناس فنّه
عشق الهواتف والصور والمزامير!

ويعرج الضمني على ممازحة صديقه الخس"أبو خلف" يخبره أن زمان البادية الجميل  قد انتهى ، ولم يعد هناك أثر لمفردات البدو التى كان يسمعها أثناء شبابه:

ابو خلف عجْف السنين امحننّه
عامين ولا يذكر البيض بالخير
طشّوا كلايف جيشهم بالأعنّه
ماعاد قالوا درّجوهنْ مغاوير
يارب  بدّل  نار الأجواد  جنّه
واغفر ذنوب اهل الوجيه المسافير

قد لايفوت القارئ نقاء المزاح وجمال الإيحاء في هذه الجُمل التعبيرية،
وبالرغم من أن أصدقاء الضمني المشار إليهم في القصيدة شعراء مُجيدون ، وخاصة صحن بن قويعان الذي طالما سمعنا له قصائدة بديعة في تصوير حياة البادية ،
إلا أن محمد الخس أنسب المرشحين للرد على "دعابة" الضمني بذات اللسعة التهكمية!،لما بين هذين الشاعرين من تقارب في المكانة والشهرة،فضلاً عن أن عذوبة الأسلوب ورشاقة المعاني في قصيدة الضمني تعد سمات إبداعية تزخر بها قصائد الخس الذي ماكان منه وهو يجيد هذا اللون الشعري ويحسن توظيفه إلا أن قام بالرد على الضمني مستهلاً بمناورة طريفة:

يللي  تدنّ  النجر  دنّه  ورنّه
خله يجَضْور من غرامه تجَضْوير
حنا هلَه كان اليدين اطلقنّه
لامنّها غلْيت عليه المساعير

هنا استغلّ الخس ورود كلمة النجر في مطلع قصيدة الضمني رغم أنه نجر للهوىَ ، فانبرىَ على طريقة الاعتداد يمتدح لعلعة النجر باعتبارها نداءً للجار وعابر السبيل ورمزاً للكرم..
ويحلق الخس في عباراته الكوميدية محتجاًّ على صاحبه كي تزداد نار الشعر توقداًّ ويمتد الكلام بلسعته المزحية:

لاشك بعض رْبوعنا مستجنّه
قاموا علينا يطلقون الحناجير
جتنا بهم خيل الفسق مستعنّه
مدري وش المطلب ورا مْطير لمطير
حنا نسايرهم على حسن ظنّه
ونسامح المخطي معزه وتقدير
اخير  للدنيا  تجي  مرجهنّه
قدام راعي الكير ينفخ على الكير
لاشك جتنا من ربوعٍ مضنّه
سوالفٍ مااعرف لها كل تفسير
أغلاهم مفرح هجوسه عصنّه
شغّل تماتيكه على غير تعيير
يوم البيوت اللي بنا شجعنّه
أذاعها بين الدول والجماهير!
والشيب ياراعي التماثيل سنّه
ماعذرب اللي ينطحون الطوابير
وان كان به عذروب مافيه منّه
انته نزلتْ مْع الرشا لاسفل البير

وكما هو المتوقع يفرغ الخس من امتداح المشيب ، ويلتفت إلى الضمني مستخدماً أداة الممازحة ذاتها إذ يقول:

عودٍ وجسمك يقرع اقراع شَنّه
تبي تصيغر وانته اكبر من النير
هرش الحظيره باركٍ له بعِنّه
ثاوي وعينينه بالأمه مطايير
يبي السنين اللي مضنْ فاختنّه
أيام ورد الما ولبس المقازير
يوم انهنّ بعيونهنْ يفتننّه
نجل العيون مزعلات الحجاجير

وياله من قول جميل لم أسمع مايشابههه من قبل حين قال:
كنك تشوف الما ورا حْلوقهنّه
تقول فيهن مثل ماياصف عْمير

ومثلما عاد الضمني ابو فيصل في قصيدته على ذِكْر الخس ، عاد الخس إلى ذِكْر الضمني بذكاء وخفة ظل في آخر القصيدة ، ليؤكد مقولة" كلنا في الهم شرق" :

مثل ابو فيصل بالهوى يشعفنّه
لاشك اظن الزند مافيه تشرير
اليوم  فاختهنْ  وهن فاختنّه
لو انه أغلا الصبغ عند العطاطير!

تعليقات

اكتب تعليقك