حول كتاب"الكحالون العرب والمسلمون" لمؤلفه د.محمد ظافر الوفائي.. بقلم : أ.د. محمد حسان الطيان

فن وثقافة

الآن 301 مشاهدات 0


الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام، وبعد،  فهذا كتاب يسطِّر تاريخًا لجانبٍ مهمٍّ من جوانب حضارتنا العربية الإسلامية، ألا وهو طبُّ العيون المعروف عند علمائنا بالكحالة، وقد نهض به كحّالٌ عربيٌّ مسلمٌ آلى على نفسه أن ينفض الغبار عن تراث آبائه وأجداده، لينشر علمهم، ويؤرخ لهم، ويرفع ذكرهم، هو الصديق الكبير والأخ العزيز الدكتور محمد ظافر الوفائي.

والدكتور محمد ظافر الوفائي واحد من ألمع أطباء العيون في سورية، وله مركز طبيٌّ في الشام – فرج الله عنها وحماها - يشار إليه بالبنان، ويؤمُّه المرضى من كل مكان، لما عُرف عن صاحبه من مهارةٍ وحِذقٍ في تخصصه الدقيق، ولم يمنعه كل هذا من أن يكون واحدًا من أكابر العاملين في تاريخ العلم، وواحدًا من أكابر المحققين لمخطوطات طب العيون في ثراثنا العلمي الحافل بكل رائع ونافع.
عرفته من خلال تحقيقاته الفذَّة لمخطوطات طب العيون، تلك التي اشترك في إخراجها مع شيخنا الذي نعمتُ بصحبته وجيرته في جامعة الكويت، وأفدت من علمه وفضله وأنسه ردحًا من الزمن، العلامة الموسوعي الأستاذ الدكتور محمد روّاس قلعه جي رحمه الله وجزاه عن الأمة وعلومها خير الجزاء.
ثم حضرت له محاضرة في الندوة العالمية الثامنة لتاريخ العلوم عند العرب- الجوانب المجهولة في تاريخ العلوم العربية التي عقدت في مكتبة الإسكندرية 28-30/9/2004، فشدني حديثُه، وراعني علمُه، وأسرني تدفقُه، وودت لو أنه لم يسكت، فلما أن فرغ من محاضرته، رأيتُني أطلب التعليق لأثني على ما سمعت متمثلًا بقول ابن الرومي:
وحديثُها السحرُ الحلال لوَ اَنَّها      
لم تجن قتلَ المسلم المتحرِّزِ
إنْ طال لم يُملَل وإن هي أوجزت
ودَّ المحدَّثُ أنها لم توجزِ

وكتابه هذا (الكحَّالون العرب والمسلمون) عصارة جهدٍ طويل، وعمرٍ مديد أمضاه باحثًا في تاريخ العلوم عند العرب، ومؤرخًا لعلوم الطب عموما وعلم الكحالة خصوصًا، ومحققًا لطائفة من مخطوطات الكحالة هي الأشهر في هذا الفن، إذ أخرج للناس منها اثني عشر كتابا، في كل صفحة من صفحاتها إحياءٌ لعلم، ونشرٌ لذكر، وتتبُّـعٌ لتاريخ، وتخليدٌ لمآثر...
هذا فضلا عما حضر من مؤتمرات وندوات، وما دبَّج من بحوث ومقالات، وما ألقى من دروس ومحاضرات، وما نال من جوائز وشهادات، تشهد بعلوِّ كعبه، وسعةِ اطلاعه، وعمقِ اختصاصه في هذا الباب.
ولو اطَّلع القارئ على سيرته العلمية الحافلة بالمفاخر والمآثر، بدءًا من زمالته العلمية في قسم الشبكية والليزر بمستشفى العيون ومؤسسة الشبكية للبحث العلمي في بوسطن – ماساتشوستس. ومرورًا بتدريسه في أعرق الجامعات: كجامعة هارفارد كلية الطب – قسم الشبكية، وعمله استشاريًا في أمراض العيون بأعظم المستشفيات كمستشفى متروبوليتان ديترويت – ميتشغان، ومستشفى العيون ماساتشوستس وجوسلين كلينيك بوسطن, ماساتشوستس. وانتهاءً بزمالته العلمية في أرقى المؤسسات الدولية المعنية بطب العيون: كالمجمع الأمريكي للجراحين، والمجمع العالمي للجراحين، والمجمع الملكي لأطباء العيون بإنكلترا، والأكاديمية الأمريكية لطب العيون، والجمعية الأمريكية لطب العيون...وحيازته لأرفع الجوائز: كالجائزة التقديرية للأكاديمية الأمريكية لطب العيون، وجائزة الدولة التقديرية لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي، فضلًا عن ترشيحه لجائزة الملك فيصل العالمية للطب غير ما مرة...

أقول: لو اطَّلع القارئ على كل هذا لعجب كيف يفرُغ من حاز كلَّ هذا المجد والشرف والسؤدد للعمل في تاريخ العلوم عند العرب؟!
وأقول إن من عرف الدكتور ظافر معرفتي به يوقن أنه ممن عناهم المتنبي بقوله المشهور:
كُلَّ يَوْمٍ لَكَ ارْتحَالٌ جَدِيْدٌ
وَمَسِيْرٌ لِلْمَجْدِ فِيْهِ مَقَامُ
وَإِذا كانَتَ النُّفُوسُ كِباراً
تَعِبَتْ فِي مُرادِها الأجْسامُ
فالرجل بما أوتي من عزيمة حذّاء، وهمّة ماضية، وأصالة سامية، أدرك أنه أولى الناس ببعث مفاخر أمته في فنٍّ درسه وأتقنه، فنٍّ ارتحل بعيدًا كي يتخصَّص به ويبلغ أبعد شأوٍ فيه، ثم تبيّن له أن أجداده هم الذين علَّموا العالم هذا الفنَّ، وأن أسلافه هم الذين وضعوا أسسه الأولى وصنَّفوا فيه أجلَّ المخطوطات، فعلماؤهم سبقوا الدنيا إلى دراسة أحوال العين، وتشريحها وبيان أجزائها، وتحديد ما يطرأ عليها من أمراض، وما يعتريها من علل، وما تعاني منه من أدواء، كالشقيقة العينية، والخَفَش، والساد (الماء الأبيض)، وإصابة العصب البصري، وارتفاع ضغط العين (الزَّرَق)... ثم بيان علاج ذلك كله، كقدح الماء، أي إزالة الساد عن العين، ولعل أهم أداة جراحية استعملوها في ذلك كانت المِقْدح المجوَّف...  
واستعملوا الأدوات الجراحية الدقيقة التي حفلت مخطوطاتهم برسومها وأشكالها وصورها... وشرحوا نظرية الإبصار، مصحِّحين ما كان سائدًا منذ عهد أبقراط وجالينوس، من أن شعاعا يصدر من العين باتجاه الجسم المرئي فيلامسه ثم يرتدُّ إلى العين حيث الرؤية، مؤكِّدين أن الرؤية تحصل من الصورة المنبعثة من المرئيات ولا وجود لشعاع يخرج من العين.
إلى غير ذلك مما يحفل هذا الكتاب ببيانه وتفصيله ونسبته إلى أصحابه.

وبعد فحسبي في تقديمي للكتاب أن أتكلم على صاحبه، ليعلم القارئ أيّ رجل هو؟! وأيّ عالمٍ يضع بين يديه علمه؟! أما الكتاب فهو الكفيل بتقديم نفسه، لأن كل صفحة فيه تجلو حقيقةً علمية من حقائق هذا العلم، أعني الكحالة أو طب العيون، وتعيد نسبتها إلى أربابها الحقيقيين، وتبيّن مقدار ما أسهم فيه كل عالم من العلماء العرب المسلمين في هذا الباب.
والحق أني قد سعدت كلَّ السعادة بمراجعة هذا الكتاب وتصحيحه وتدقيقه، ونعمْتُ بصحبته وصحبة مؤلفه وأعلامه وقتًا طيبًا، وعشتُ معهم زمنًا رغدًا.. وكانت إفادتي من الكتاب أضعافَ إفادتي له، كما كان أخذي منه فوق أخذي عليه، كيف لا وهو يحمل علمًا لا أعرفه، ويكشف اللثام عن تاريخٍ أجهل - ويجهل معي الجمُّ الغفير من القراء - الكثيرَ من تفاصيلهِ وحقائقهِ وروائعهِ.
بيد أن هذا كله لم يصرفني عن إبداء ملاحظَ، أرجو من المؤلف الكريم أن يأخذ بأحسنها، وأن يغفر لي تطاولي على ما لا أحسن فيما لم  يقنعه منها، فما منا إلا ورَدَّ أو رُدَّ عليه إلا صاحب ذاك المقام عليه أفضل الصلاة والسلام.

وختامًا فلله الحمد والمنَّة على ما أنعم وتفضل، وللمؤلف أسنى آيات الشكر على كل جهدٍ بذله وكل حرفٍ سطَّره.. وفاءً بتاريخ هذه الأمة، ونشرًا لمآثر علمائها، وإحياءً لعلومهم، وتحقيقًا لمخطوطاتهم، ورفعًا لذكرهم. وللقارئ الكريم – في زمن الإحباط الذي نعيش فيه - أن يغوص في بحر لجِّيٍّ من تاريخ حضارتنا وريادتنا ورفعتنا ومجدنا لعله يتزوَّد من ذلك ما يعيد إليه الثقة، ويبني في نفسه العزيمة، ويبعث في روحه الأمانة، ويدفعه إلى استعادة هذا المجد! بعون من الله لا جَرَم، وما ذلك على الله بعزيز.

*أستاذ اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت

تعليقات

اكتب تعليقك