السديري والبذال وابن سرور وابن عون نموذجا.. ماذا قال شعراء الماضي القريب في فلسفة الحياة؟ رؤية: رجا القحطاني

فن وثقافة

رجا القحطاني 1610 مشاهدات 0


من الصعب في هذه الأيام العثور على مقطوعة شعرية متكاملة بنياناً ووجداناً تتوغل في أعماق المتلقي ، تثير فضوله، تستنفر ذاكرته ، تتلمس شيئاً من آلامه ، تحرك حلماً غافياً من أحلامه، مقطوعة شعرية تشكل مايشابه القطار متماسك الأجزاء لاينفك منه جزء في الصورة الذهنية لدى القارئ ، ولكنه قطار من الكلمات بلا ضجة ولا ضوضاء ،واقصد به هنا الاطّراد الفني في النص الشعري.

وإذا أردنا الخروج من مثالية الفكرة النظرية إلى البرهنة الفعلية ، لتأكيد الحصول على نصوص شعرية حية بعيدة عن التصنع والتنطع اللفظي ، نذهب إلى شعراء الماضي القريب ، منهم من رحل عن الحياة ومنهم من لايزال  يخلق من عصارة تجاربه شعراً نابضاً بالحياة.

ولعل الشاعر السعودي عبدالله بن عون
أطال الله عمره يعيننا على ذلك في قصيدته الجيمية المشهورة ومنها:

ماغير أسيّر تقول مْضيّعٍ حاجه
وآخذ وأسنّد على روحي واهرّجها
وادوج لو كان مارجلي بدوّاجه
وادلّه النفس لين الله يفرجها


ولو عاد القارئ إلى قصيدته العاطفية كاملةً لأدرك أن لحظات القراءة لم تذهب سدى، إذ سيحظى بالبساطة في اللفظ والجزالة في التعبير.

فالشاعر يعبر عن معاناة ذاتية تدفعه إلى السير إلى لا مكان  هرباً من همومه وكأنه يبحث عن شيئاً ما فقده ، وهو لايجد أحداً يفضي إليه مايختلج في خاطره سوى نفسه يحدثها حديثاً داخلياً يرتب به فوضوية حيرته ، كما أنه "يدوج" يمشي بلا توقف ساهماً  لا لأنه معتاداً على ذلك ، بل لأنه يحاول أن يسلّى نفسه ويلهيها منتظرا فرجاً من الله.

وتتجه الذاكرة إلى شاعر آخر لايخطئ القارئ حيوية أبياته رغم غموض حياته هو الراحل بندر بن سرور ،تأمل بيتيه الرائعيْن:

ماني وأنا بندر ببياع  دمّه
يقطعْك يابياع دمه ومهفيه
احْدٍ يدوّر بالردا بنت عمّه
واحْدٍ يحاول ستر عذرا عوانيه

يتحدث الشاعر ولو من طرف خفي عن تزويج البنات وفقاً للمركز الاجتماعي والوضع المادي للخاطب، بدلاً من التأكد من وضعه الأخلاقي والتزامه الديني ، فمن يعتبر بناته بضاعة قابلة للسوم والبيع كمن يبيع دمه بأرخص ثمن ، ويعرج على تبيان التفاوت الأخلاقي الكبير بين من ينظر إلى ابنة عمه بنية السوء، ومن يتستر على بنات الناس شيمةً ومروءةً ولا يعمد إلى فضحهن.

وهل يمكن نسيان الأعمال الشعرية المتكاملة للشاعر الراحل محمد الأحمد السديري؟ ، حتى قصائده القصار تبدأ وتنتهي وكأنها قصائد طوال مكثفة ، انظر إلى تعجبه من مخترعات العصر الحديث:

لولا الهرم والفقر والثالث الموت
ياالآدمي في الكون ياعظم شانك
سخرت ذرات الهوا تفهم الصوت
خليتها اطوع من تحرك  بنانك
جماد تحركها وهي وسط تابوت
تاخذ وتعطي ماصدر من بيانك
وعزمت من فوق القمر تبني بْيوت
من يقهرك لو هو طويلٍ  زمانك
لولا الثلاث وشان من قدّر القوت
نفذت  كل  اللي  يقوله  لسانك

ولو بحثنا عن أبيات عامية تصور الدهشة من التطور الصناعي وتشيد يمقدرة الإنسان لربما لن نجد سوى هذه الأبيات.وأصاب الشاعر في أن معوقات الإنسان رغم مقدرته وطموحه ، الهرم حيث يتوقف الذهن عن التركيز، والفقر حيث يفتقر إلى الإمكانيات لتحقيق طموحه ، والموت الذي يسدل الستار على كل شئ !.

كذلك نجد تكامل الإجادة في الأسلوب السهل الممتنع عند شاعر الكويت الراحل مرشد البذال لنقرأ له:

دنياك بالك تغرك في تزيّنها
كم واحدٍ قبلك الأيام غرنّه
فرحاتها ماتكافي عن حزاينها
ماشيّدن بالفرح بالكرْه هدّنّه

أجل.. هذا هو ديدن الدنيا ، الحياة، فرح نادر، وحزن مباغت ، وشعور إنساني رتيب هو أقرب في رتابته إلى ملامح الحزن، بينما الفرح واحات استراحة في رحلة العمر، نقل البذال شعوراً إنسانياً مشتركاً بروحية شعرية صادقة، وهو كثيراً مايتناول فلسفة الحياة والنزعات النفسية ، يقول:

من جرب الدنيا على جبر ودْقاق
ماطاب عيشه لو يحوق الذهب حوق
ماضاع حرفيٍّ على السفْن  حدّاق
ولادام من عدّ الذهب وزن وعْروق
والبخل مايغني  رديّين  الأوفاق
كثيرهم ثوبه على المتن مشقوق
لو تشنقه ماادرك ثمن موس حلاق
ان كان محدٍ خلّصه مات مشنوق!

انظر كيف يصف الشاعر الرجل البسيط الذي مصدر رزقه صيد السمك لايضيع في أنحاء البحر ولم يشعر بضياع سعادته وراحة نفسه ، بينما آخر يكنز الذهب "الثروة" ظاناً أنه دائم بدوامها، وربما يكابد القلق في تنمية ثروته والخشية من فقدانها، هنا يشير إلى أن السعادة  شعور مرتبط بالقناعة والطمأنينة  لا بحطام الدنيا وزخرفها.

وفي عبارة شعرية لاذعة يتحدث عن البخيل "المحروم" الذي يحرم نفسه من التمتع بثروته ، والذي من شدة بخله قد يفضل الموت على افتداء حياته ولو بالمال القليل.

تعليقات

اكتب تعليقك