بدر بن عبد المحسن.. فيلسوف الشعر الذي سبر أغوار الدهشة

فن وثقافة

الآن - العربية 2310 مشاهدات 0


للبدر رحيله المؤطر بالحنين، والحروف المبعثرة. أرهقه المعنى طويلاً وأسهره "القاف" – قافية القصيدة – ليستطيب قلبه تجريح عذب القوافي، ليتقن صورة الدهشة، حتى لاذت روحه أخيراً إلى الصمت الطويل فلا تجسير لفجوات المسافة بعدئذ بين إحساسه وصوته.

له في الشعر "محياً وممات". آمن بالشعر قدراً ومهداً للسكينة وفلسفةً في الابتكار وصديقاً مغروراً يحرضه على صوغ قصائد تضاهي بجمالها روعة ما كتب، فتمنحه الرغبة في تجاوز نفسه أحياناً كما قال سابقاً في إحدى لقاءاته، غير أن رحيله أشعل مواقد الجمرِ في دم الشعر بالنسبة لجمهوره العريض، ومحبيه الذين أيقظت قصائده جذوة العشق في قلوبهم "صبابةً وجوى وحنيناً".

وبرحيله يلقي الوقت قوافل حزنه على كاهل الشعر، فالشاعر الراحل يجيد ببراعة معهودة راكمتها خبرة السنوات كتابة عبقرية الدهشة وما الشعر إلا تلك العبقرية. رؤيته للحياة تلخصت في قصائده، إذ يقول: "كل الأرض ... ما تحمل تعب مشوار".. "كل ما دعاني الشوق للقلب الأول.. ألقى مكان القلب في الصدر تنهيد""، امتازت قصائده بجمالية الأفكار البِكر، إذ تتمتع بترف المعاني فضلاً عن اختبار أطراف الفكرة وتجويدها وتقليب أوجهها حتى يجود على الشِعر بفيض إبداعه، حسب رؤية النقّاد والشعراء.

ليس ذلك فحسب، ارتبط اسمه على مر السنوات بالأغنية السعودية، بصفته مؤلفاً لعدد من القصائد المغناة، التي أصبحت لاحقًا من الأغاني السعودية الشهيرة، مثل: "ليلة لو باقي ليلة" لعبد الرب إدريس، كما غنى له الفنان محمد عبده مثلاً: "أبعتذر" – "وين أحب الليلة" – "موعد الأحباب"، فضلاً عن الأغنية الوطنية الشهيرة"فوق هام السحب" للفنان ذاته.

جمعت الراحل البدر علاقة صداقة بمعظم فناني الأغنية السعودية، والخليجية، التي وزع عمره بين صوغ معانيها ومبانيها، وابتكار فرادة المعنى، وروعة الوصف فيها على أقل تقدير لدى محبيه، إذ غنى له الراحل طلال مداح، مثلاً: "زمان الصمت" ، "الهوى لو تمنى"، "عطني المحبة"، وشدا عبادي الجوهر بأعمال غنائية صاغها "البدر " على غرار: "سوالف رحلتي" ، "ما أبيه" ، "نبي نطفي قمرنا".

أما على صعيد الصف الثاني في الأغنية السعودية، فلقد تغنى بكلماته راشد الفارس بأعمال: "على الوسادة" ، "كحل وزمام"، والفنان خالد عبد الرحمن، إذ تغنى بعدد من كلماته على غرار: " ليل التجافي" ، "على النوى" ، "عقد وسوار "، فيما حظي فهد العمري بكلمات الأمير البدر في أغنية" كفاني شجون"، إذ يعد الفنان الأخير الذي تغنى بكلمات الراحل.

وعلى إثر ترف معانيه التي قُدر لها البقاء في دفاتر الأبدية رغم رحيله، يقول الناقد السعودي إبراهيم الشتيوي في كتابه "مسارب ضوء البدر": إن شعر البدر امتاز بعمقه، وجماله الفني في الجرس والإيقاع، ودلالته على المعنى الرمزي والانفعالي، لافتاً إلى أن قصائد الراحل تمتاز بالترادف والتضاد والإيحاء والخيال، ما جعله يستطيع بلوغ ذروة الدهشة.

استثمر الشاعر بدر بن عبد المحسن والحديث لـ -"الشتيوي"- تقنية البناء القصصي في نصوصه، لينمو الحدث، متدرجاً بالفكرة، مستخدماً أساليب القصة، من حيث تقنية السرد والحبكة، لتؤسس مع الصورة الشعرية التي عن طريقها، يستطيع التقاط صور جزئية غير مترابطة، ليربطها بأسلوبه الفني، عن طريق تقنية المونتاج، لنظفر بصورة كلية.

أما الناقد محمد الظفيري في حوار عبر صحيفة الرياض قال: إن ما جعل الأمير الشاعر البدر يحظى بشاعرية مختلفة يتلخص في ثقافته الشعرية التي مكنته الوصول لما يريد بأيسر الطرق، علاوة على قدرته الفذة في صياغة جمله الشعرية وعباراته الأسلوبية بشكل لا تجعل المتابع الحذق الماهر يلحظ بأنها أي تشويش لغوي أو ارتباك شعري بالإضافة لوجود خيال شعري منحه مساحة للتأمل والحركة.

ويعتقد الناقد الظفيري عبر الحوار الذي أجراه الزميل طامي السميري بأن أهم ملامح التجربة الشعرية للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن نتاج حالة تأمل عميق للحياة والناس، وإلى أبعد من ذلك، ويشير الظفيري إلى أن التأمل قاد البدر إلى الكتابة في الحب بطريقة مغايرة عن السائد.

فضلاً عن أنها جعلته يقدم صورة مختلفة للعاشق، مضيفاً أن التميز يمتد في تجربة البدر إلى صورة المرأة التي تحضر في قصائده في مقام الحلم، عندما كتب قصائده الوطنية كان الوطن مشرقاً برؤية مختلفة وربما هذا الحس التأملي يجعلنا نلامس تلك الرهافة الفلسفية في قصائده.

يمتد الحديث عن الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن طويلاً عن قدرته في استثارة المعاني، وصناعة الدهشة، فلا غرو في ذلك إذ تأثرت روحه بجمالية الشعر منذ سنوات حياته الأولى، فاتصل بفنونه كافة عبر مجلس والده الذي لا يخلو في العادة من الشعراء والعلماء أو حتى مكتبة المنزل المكتظة بذخائر المعارف وشتى العلوم، وبالتالي فإن هذه المعطيات أغنت روافد تشكيله الإنساني، والشعري، مبكراً، حتى جادت عليه بموهبة فذّة.

ونتناول في "العربية.نت" ملامح حياته، إذ كان ميلاد فجره في الرياض في شهر إبريل عام 1949، في حي الفوطة، في عهد الملك عبد العزيز، فنشأ الأمير البدر في كنف والده الأمير الشاعر أيضاً عبد المحسن بن عبد العزيز، فيما عاصر ملوك السعودية كافة، كما احتفظ بالكثير من المواقف التي جمعته بهم.

إلى ذلك، درس في مراحل دراسته الأولى ما بين السعودية ومصر، ثم أكمل المرحلة المتوسطة في مدرسة الملكة فيكتوريا بالإسكندرية، أما المرحلة الثانوية فكانت في جدة، أما عن مسيرته المهنية فيعد أول رئيس لمجلس إدارة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، ما بين عامي 1973 و1977، وبعيداً عن كونه الشاعر الذي يسكب الضوء على زوايا أفكار لم تتبلور بعد فيهديها شيئاً من بريقه فتنضج على هيئة: قصيدة – رسمة.. فقلما يعرف البعض أنه رسام أيضاً إذ بدأ حياته فنانًا تشكيليًّا، ثم شاعرًا.

ونشر خلال مسيرته الشعرية، أهم دواوينه الشعرية "ما ينقش العصفور في تمرة العذق"، الذي صدر عام 1989م، و"رسالة من بدوي" الذي صدر عام 1990م، و"لوحة ربما قصيدة" الذي صدر عام 1996م، و"ومض" الذي صدر عام 2010م.
نتيجة لمسيرته الشعرية، نال في عام 2019م وشاح الملك عبد العزيز الذي قدمه له الملك سلمان بن عبد العزيز، وبعدها بعام في 2021، جرى تكريمه من هيئة الأدب والنشر السعودية بجمع وطباعة أعماله الأدبية كاملة.
يقول في إحدى ندوات معرض الكتاب بنسخته الماضية: "أستغرب كثيراً في مقابل عدم وجود أعمال تناولت تجربتي الشعرية"، مشيرًا إلى أن تجربته لا تقبل الحياد كونها لا تقبل أحد خيارين: إما الأثر الإيجابي أو السلبي الذي أحدثه في الشعر.

بيد أنه، لم يعد يضيق صدره بعدما سبر أغوار الشعر بتجربة متراكمة على مدى 50 عاماً من قصائد التباريح والحب والوله، صقل فيها المعاني وطوعها بما يعزز إحساسه ويغذي الفكرة المراد صياغتها فتلك الخبرة جعلته واثقاً فيما أعطى للشعر حتى إن تلك الثقة لم تعد تشعره بالامتعاض من النقد.

في إطار تجربته الشعرية، كتب الراحل قصيدة باللغة الفصحى مؤكدا أنها جاءت بغرض النشر مشدداً على محبته للكتابة في الشعر العامي، لإيمانه بأن الكتابة بلغة تملكها وتتمكن منها حسب رأيه تعد الأفضل فضلاً عن محبته واقترابه الوثيق في مشواره من العامية.
وفيما يتصل بـ"الشعر" أسس مؤسسة الأمير بدر بن عبد المحسن الحضارية في عام 2017، إذ تعد تتويجاً لنشاطه الإبداعي وتعتبر أول مؤسسة ثقافية غير ربحية تكمن رؤيتها في تعزيز ونشر الثقافة والفنون، فضلاً عن النهوض بالإبداع السعودي داخلياً وخارجياً حتى تصل به إلى أعلى المراتب عالمياً، ويتفق محبو البدر على أن هذه الخطوة التي اتخذها ركيزة أساسية للثقافة والفن والقوة الناعمة على مستوى الوطن العربي.

تعليقات

اكتب تعليقك