أحمد الديين: هذه هي قصة الهوية الاقتصادية للدولة الكويتية التي تريد حكومة “الهوية الاقتصادية الجديدة” تغييرها
زاوية الكتابكتب أحمد الديين فبراير 5, 2024, 2:42 م 878 مشاهدات 0
روّجت الحكومة الجديدة منذ اليوم الأول لتشكيلها شعار “ترسيخ الهوية الاقتصادية الجديدة للدولة”، وهو شعار يبدو للوهلة الأولى جذاباً، ولكنه في حقيقته شعار ذي دلالة ايديولوجية منحازة طبقياً لمصلحة كبار الرأسماليين الطفيليين، يحاول أن يمهّد الطريق أمام تفكيك الهوية الاقتصادية الحالية للدولة الكويتية كما أقرّها المجلس التأسيسي في دستور 1962، التي تقوم على أسس الاقتصاد الاجتماعي، عبر تبني “هوية اقتصادية” مغايرة تفتح الأبواب على مصاريعها أمام تصفية الدور الاقتصادي للدولة عبر الخصخصة” واستحواذ القطاع الخاص على المقدرات الاقتصادية للدولة، بما فيها النفط وخصخصة التعليم والصحة والجمعيات التعاونية، والمساس بالمكتسبات الاجتماعية الشعبية عبر تقليص بنود الإنفاق الاجتماعي الضرورية وخفض الدعوم واستحداث الرسوم ورفع أسعار الخدمات، ما يلحق الضرر بالطبقة العاملة والفئات الشعبية والمتوسطة.
وحتى تتضح الصورة عما تقصده الحكومة الجديدة بترسيخ “الهوية الاقتصادية الجديدة للدولة” أو بالأحرى تغيير الهوية الاقتصادية للدولة، علينا أن نعرف قصة الهوية الاقتصادية للدولة الكويتية، التي توافق عليها المجلس التأسيسي وثبّتها في الدستور.
عبد العزيز الصقر: أنا أريد أن أعرف ما هو نظامنا الاقتصادي… هل هو نظام حر أم نظام موجّه؟
وهذه هي القصة… في صبيحة يوم الثلاثاء 11 سبتمبر من العام 1962 وخلال الجلسة 19 للمجلس الـتأسيسي المنعقدة طلب وزير الصحة عضو المجلس التأسيسي عبد العزيز الصقر من الخبير الدستوري للمجلس تحديد طبيعة النظام الاقتصادي للدولة، قائلاً: “هل النظام الاقتصادي لدولة الكويت الذي ستنتهجه اشتراكي أو رأسمالي أم موجّه أم حر؟”… فرد الخبير الدستوري للمجلس التأسيسي الدكتور عثمان خليل عثمان: “إنّ النصوص تؤيد الملكية الفردية وهذا يعني أنّ المالك حر في التملك، ولكن ليس ذلك على حساب المصلحة العامة، بل يمكن للدولة أن تضع نصوصاً وحدوداً في شأن الملكية الفردية، فإذن المراد هو أن نأخذ بالاشتراكية المعتدلة، وهذا هو موقفنا بين القوى المتصارعة حالياً في العالم الشرقية والغربية”… فأعاد عبد العزيز الصقر سؤاله: “أنا أريد أن أعرف ما هو نظامنا الاقتصادي في الأنظمة الموجودة في العالم، وأين هو طريقنا في النظام الاقتصادي، هل هو نظام حر أم نظام موجّه؟”…
فأوضح الخبير الدستوري للمجلس التأسيسي: “الحرية تتنافى في نظر الكثيرين مع التوجيه لتنافر الكلمتين، ولكن يمكن التوفيق بينهما، بمعنى أن الحرية ليست مطلقة فهي تقبل التوجيه والتدخل من جانب الدولة، ككل حرية لها من الضوابط ما يجعلها لا تمس المصلحة العامة. وما نريده بهذا أنّ الفرد حر في التملك. إنّ الملكية الفردية مصونة ولكن كلا الأمرين يخضع لتوجيه الدولة، وعليه فاقتصادنا حر ولكنه خاضع لتوجيهات الدولة”… ورداً على سؤال محدد من عبد العزيز الصقر: “هل يكون الاقتصاد موجهاً فقط أو أنّ الدولة تتدخل في نطاق واسع؟” أجاب الخبير الدستوري قائلاً: “الاقتصاد مشترك بين النشاط الحر والنشاط العام”… وطلب بعض الأعضاء تأجيل مناقشة المادة بانتظار المذكرة التفسيرية للدستور، فعلّق رئيس المجلس التأسيسي عبد اللطيف محمد ثنيان الغانم قائلاً: إنّ التفسيرات، التي أتى بها الخبير واضحة، وتم الاتفاق على تأجيل المناقشة إلى جلسة لاحقة، حيث استؤنفت المناقشة في الجلسة 26 للمجلس التأسيسي المنعقدة يوم السبت 3 نوفمبر من العام 1962، ووفقاً لمحضرها فقد سأل عضو المجلس التأسيسي سليمان الحداد عن تفسير المادة 20 من المذكرة التفسيرية “هل نفهم من هذه المادة أنّ الدولة تتبع نظاماً اقتصادياً معيناً؟”، فأجاب الخبير الدستوري للمجلس: “قلنا أنّ النظام الاقتصادي هو عبارة عن نظام اقتصادي يقوم على أساس احترام الملكية الفردية مع جعل هذه الملكية متفقة مع مقتضيات الحياة الاجتماعية، ويعتبر هذا وضعاً اقتصادياً وسطاً بين الاشتراكية المتطرفة وبين الرأسمالية المتطرفة فهو تعبير عما نسميه بالاشتراكية المعتدلة، فهذا هو المكان الوسط، الذي رأت لجنة الدستور أنّه خير الأمور الوسط ولذلك تخيرته دون أحد المظهرين المتطرفين”…
الخبير الدستوري للمجلس التأسيسي: الاشتراكية المعتدلة هي المكان الوسط، الذي تخيرته لجنة الدستور.
فتساءل العضو سليمان الحداد عما إذا كانت الاشتراكية المعتدلة تتنافى مع الاقتصاد الحر، فأوضح الخبير الدستوري أنّه “اقتصاد حر ولكنه موجّه أو مدار بمعنى أنّه إلى جانب النشاط الحر يوجد إشراف الدولة ورقابتها والنشاط العام…” فأيّد العضو الحداد توضيح الخبير وقال: هذا ما أقصد إليه أن يسجل أنّ الاقتصاد في الكويت اقتصاد حر موجّه… وأثنى وزير الصحة عضو المجلس التأسيسي عبد العزيز الصقر على إدخال كلمة “العادل” في تحديد طبيعة العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص مطالباً بتوضيح أكثر لتفادي طغيان قطاع على آخر، وقدّم اقتراحاً بهذا الشأن، فأكّد الخبير الدستوري أنّ لجنة الدستور توصلت إلى هذا الاستنتاج عندما وضعت كلمة “العادل” حيث كانت تقصد “ألا يطغى النشاط العام على النشاط الخاص ولا يطغى النشاط الخاص على النشاط العام، فما يقصده الوزير هو فعلاً الذي قصدته اللجنة وهو المسجّل في المذكرة التفسيرية ونحن متفقون تماماً على ذلك”…
وبذلك انتهت المناقشة في المجلس التأسيسي إلى ما انتهت إليه من وصف لنظامنا الاقتصادي كاقتصاد حر موجّه وليس اقتصاداً رأسمالياً حراً أو متطرفاً، بل لقد أُشير أكثر من مرة في محاضر المجلس التأسيسي إلى أنّه أقرب إلى الاشتراكية المعتدلة ونظام وسط بين الاشتراكية المتطرفة والرأسمالية المتطرفة.
هكذا تم التوافق على الهوية الاقتصادية للدولة الكويتية في المجلس التأسيسي…وعندما نرجع إلى أحكام الدستور نجد بوضوح وبتفصيل ملامح هذا النهج الاقتصادي الاجتماعي في بعض التوجهات والضمانات الواردة في الدستور، التي يمكن تقسيمها إلى محورين:
المحور الأول رفض التسلط الاقتصادي الرأسمالي، مثل:
– التأكيد على الوظيفة الاجتماعية للملكية ورأس المال وعدم التعامل معهما كحقّ مطلق كما في المادة 16.
- التركيز على التعاون العادل بين القطاعين العام والخاص في الاقتصاد، بما يعني عدم إمكان التصفية النهائية للقطاع العام عبر الخصخصة، كما في المادة 20.
– النص على أنّ الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية في المادة 20 من الدستور، وأنّ العدالة الاجتماعية أساس الضرائب وفق المادة 24.
- حرمة تملك الثروات الطبيعية، كما في المادة 21 من الدستور.
المحور الثاني حماية الفئات المهمشة اقتصادياً:
- حماية المستأجرين والعمال كما في المادة 22.
- إعفاء الدخول الصغيرة من الضرائب في المادة 48.
- مجانية التعليم في المادتين 13 و40.
- توفير الخدمات الصحية في المادة 15.
- كفالة الدولة المواطنين وتقديم المعونة في حالات الشيخوخة والمرض والعجز عن العمل والتأمين الاجتماعي كما في المادة 11.
- تقرير الضمان الاجتماعي في حالات الكوارث والمحن العامة والحروب كما في المادة 25.
هذه هي الهوية الاقتصادية للدولة الكويتية، التي نتمسك بها وندافع عنها ليس كشعار، وإنما كأسس ومنطلقات وتوجهات واستحقاقات يجب وضعها موضع التطبيق، وذلك في مواجهة محاولة الحكومة الجديدة المعبّرة عن مصالح كبار الرأسماليين الطفيليين لتفكيكها واستبدالها وتقديم هوية اقتصادية مغايرة لها تمهّد الطريق أمامهم لمزيد من الهيمنة الاقتصادية والاستحواذ على كامل مقدرات البلاد… ومثل ما تقول العبارة الشعبية الكويتية المعروفة: “وعليكم الحساب”!
تعليقات