شاعر الأعمى والأصم.. بقلم: خالد محمد البيتي

فن وثقافة

الآن 967 مشاهدات 0


تمنيت لو أن أبا الطيب المتنبي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو لن يضيف لسيد ولد آدم مجداً أو خلوداً إذ تكفيه آية في كتاب الله ترددها ألسنة القارئين على مدار الزمان في كل بقاع الأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ، لكنه سيضيف أدباً راقياً  يحمده له القراء ويعلو به بينهم  ..
وكما قال أحمد شوقي :

مدحت المالكين فزدت قدرًا
وحين مدحتك اقتدت السحابا

عندما قرأت لأول مرة قصيدة المتنبي   الرائعة :

أرقٌ على أرقٍ ومثلي  يأرقُ
وجوىً  يزيدُ وعبرَةٌ تترقرقُ
جُهدُ الصبابة أَن تكون كما أرى
عينٌ مسهَّدةٌ و قلبٌ يخفقُ .

حتى وقعت عيناي على قوله :

أَمُريدَ مثل محمد في عصرنا
لا تَبلُنا بطلاب ما لا يُلحقُ
لم يخلق الرحمن  مثل محمدٍ
أبداً  وظني  أنه  لا يخلقُ .

فرحت به وظننت أن قوله هذا  في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يليق بغيره أن تقال فيه ، حتى أعدت قراءتها و مابعدها وعرفت أن الممدوح غير رسول الله ، وتبين لي فيما بعد أنه محمد بن أوس الأزدي .

والناس إزاء المتنبي على رأيين
الأول : كاره مبغض لا يرى فيه سوى مدَّاح يلهث وراء السلطة والمال ، وفي هذا يتقاسم معه الملايين ذات الهدف منذ فجر التاريخ لكنهم ماتركوا للإنسانية هذا الأدب الرفيع كما أن المتنبي وإن كان باحثاً عن السلطة ، فمن يتجرد من هذا الشعور وهو يرى في نفسه الكفاءة والاستحقاق ودونه الأقزام يعتلون حكم الولايات ، أما المال فلازمة الحياة لكل مخلوق ولا حاجة بنا لادعاء الكمال والزهد المزعوم خاصة وأن ما يناله الشاعر  ليس من الكسب الحرام ، كما أنه لم يكن الأوحد بين الشعراء في مدائح الملوك الباحث عن العطايا ولا هو كذلك بين سائر المخلوقين .
وما أجمل ماقاله الأستاذ ميرزا الخويلدي : ( المتنبي مثقف باحث عن السلطة وليس مثقف سلطة ) والبون واسع بين الاثنين ، فهذا المتنبي المثقف الباحث عن السلطة بنفس أبية كُتب له الخلود فيما طوى الزمان و سيطوي مثقفي السلطة في أحقر سِلاله .
في موسوعة تراث الإنسانية يقول الأستاذ عباس محمود العقاد معلقًا على مقتله :
(وانقضت بذلك آماله في مجدِ عصره ، وأرفعُها حضيض إلى جانب الذروة التي تمهدت له من مجد العصور ). ولك أن تتأمل ما حفظ لنا التاريخ من شأن ممدوحيه من الحكام الذين كان يروم ولاية عندهم وما تحقق له من شهرة ما بلغوا العتبة الأولى من عتباتها البالغة عنان السماء ، وستردد حتمًا بعدها شتان بين الثرى والثريا .

يقول الدكتور زكي مبارك: أدهش أبو الطيب المتنبي المتقدمين والمتأخرين حين قال:

فما حاولت في أرض مقاما
ولا أزمعت عن أرض زوالا
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوباً أو شمالا

لكأنه اكتشف الطيران قبل عباس بن فرناس .

أما الصنف الثاني : معجب مفتون بأدبه يرى فيه نادر  عصره ، ويراه آخرون نادر كل العصور ، وقد جرت على ألسنتهم  شوارده و شواهده في كل مقام ، لكنه منذ رقدته الأخيرة والكارهون والمعجبون على حد سواء ساهرون مختصمون حول شعره وشخصه ، لقد شغلهم في حياته وهو عليم بما أحدثه شعره بينهم حتى قال واثقاً  :

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر القوم جراها ويختصم .

وشغلهم أيضاً بعد الرحيل .
والمتنبي ليس شاعراً فحسب ولكنه عالم باللغة و بعلل النفوس حتى لتشعر وأنت تقرأ له أنك أمام مدرسة  عظمى في تحليل النفس البشرية .
تأمل قوله في قصيدته التي مطلعها :
لكل امريء من دهره ما تعودا
وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
تأمله حين يقول :

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

وهو بيت لم يلق حظه من الذيوع كغيره من شوارده .
لقد جعل من العفو عن الحر قتلاً له لأنه لا يجرؤ على معاداتك بعد إحسانك إليه حياءً من صنيعك ، ولكنه يتساءل أين ذلك الحر الذي يحفظ المعروف ؟
ثم يقول :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا .

لقد دارت رحى النقد كثيراً منذ زمنه وحتى اليوم حول قوله :

أي محل أرتقي
أي عظيم أتقي
وكل ماقد الله
ومالم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي

فذهب بعضهم حدَّ تكفيره ، وآخرون يلتمسون له عذر فورة الشباب فهذه الأبيات قالها في شبابه ، وليتهم نظروا إلى قوله :

تغرَّبَ لا مستعظماً غير نفسه
ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً .

وألبسه آخرون ثوب الشعور باعتلال النسب وأن والده كان مجرد سقاء ، وحاله ليست كذلك وإلا لما قال لأمه وحوله شهود عليه :

ولو لم تكوني بنتَ أكرم والدٍ  
لكان أباك الضخم كونك لي أمَّا .

وهو شرف محمول على وجهين ناحية الأب والابن .
ومن أين يتأتى لابن السقاء أن يلتحق بمدرسة الأشراف العلويين في ذلك
الزمان .
لقد حاكم الكارهون المتنبي ليس لاعتزازه بذاته  ولا لمدائحه ولا لما عدُّوه كفراً من القول ولكنهم ضاقوا بشهرته وهو القائل :

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمِّراً
وغنى به من لا يغني مغرِّدا .

وأول الضائقين به ومن شهرته هم الشعراء فقد كان الوحيد الذي يُلقي شعره قاعداً في حضرة سيف الدولة الحمداني بينما يصطف الشعراء وقوفًا بين يديه ، وهل يجرؤ متملق إن كان من المتملقين أن يقول في حضرة سيف الدولة :

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم .

حتى يبلغ منتهى الفخر والاعتداد بأدبه  
الذي يقرأه الأعمى ويسمعه الأصم :

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم .

لقد ضاق الأديب الوزير ابن العميد بشهرة المتنبي وسعى سعيه لاخماد ذكره فما استطاع إلى ذلك سبيلا .

يقول أحد صحبه : دخلت عليه يوماً فوجدته واجماً وكانت قد ماتت أخته  فظننته واجداً لأجلها ، فقلت: لا يُحزن الله الوزير فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمل ذكره وقد ورد علي نيف وستون كتاباً في التعزية ما منها إلا وقد صُدِّر بقوله:
طوي الجزيرة حتى جاءني نبأ
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شَرِقْتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي

فكيف السبيل إلى إخمال ذكره؟ قلت : القدر لا يُغالب والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر وإشهار الاسم فالأولى ألا تشغل فكرك بهذا الأمر .

ثم أين الزاعمون بكفره من محاكمة ابن هانئ الاندلسي كما حاكموه منذ وفاته وحتى اليوم الذي يقول في مدح المعز الفاطمي :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
و كأنما أنت  النبي  محمد
وكأنما أنصارك  الانصار .

أو محاكمة الشاعر الذي قال مادحاً صدام حسين :
تبارك وجهك القدسي فينا
كوجه الله ينضح بالجلال .

بعد وفاة المتنبي رثاه كثيرون لكن من أوفق ماقيل في رثائه قول
أبو القاسم الطبسي :

لا رعى الله سرب ذاك الزمان      
إذ دهانا في مثل ذاك اللسان  
مـا رأى الناس ثـاني المـتنـبي      
وأي ثـان  يُرى لـبـكر  الزمان
كان في نفسه الكبيرة في جيشٍ
وفـي كـبـريـاء ذي سـلـطـان
هـو في شـعـره نـبـي ولــكـن            ظـهـرت معجزاته في المعاني .

نعم لقد كان في نفسه الكبيرة في جيش وفي كبرياء السلاطين وكان يعلم حقيقة ذلك في قرارة نفسه وإلا لما قال :
وفؤادي من الملوك وإن كان
لساني يُرى من الشعراء
فهل تخفى هذه المعجزات البيانية التي شغلت الدنيا بأثرها ؟  وهل يخفى قائلها ؟ وقد التمس العذر للمُقَل العمياء دون غيرها  :
وإذا خفيت على الغبيّ فعاذرٌ
أن لا تراني مقلة  عمياء .

تعليقات

اكتب تعليقك