في عالم التدريس.. كانت لنا أيام “11” بقلم أ.د محمد حسان الطيان

فن وثقافة

الآن 1032 مشاهدات 0


- 11 –

طريقتي في تدريس العروض

قلت إني أعتمد في تدرسي للعروض على أمرين: هما اللحن والإيقاع، أما اللحن فمضى الكلام عليه، وأما الإيقاع فهذا أوان الكلام عليه.

والإيقاع لا يقل أهميةً عن اللحن والنغم، بل قد يفوقهما، لأنه إن تمكَّن من الأذن لم تخطئ الأذن تقطيعَ أيِّ بيتٍ من الأبيات، وعلى أيِّ بحرٍ كان.

والحقُّ أن هذه هي السبيل الصحيحة لتكوين مَلَكَةِ التقطيع، وتربية الأذن على السماع السليم، وهي التي كان يسلكها الأوائل، حتى إنه روي أن الخليل - شيخ العروض ومبتكرها -كان يقطِّع بيتاً فرآه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس يقول: إن أبي قد جُنَّ، فدخل الناس عليه وهو يقطّع البيت، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له:

لو كنتَ تعلمُ ما أقولُ عذرتَني   *** أو كنتُ أجهلُ ما تقولُ عذلتكا

لكنْ جهلتَ مقالتي فعذلتَني  *** وعلمتُ أنّك جاهلٌ فعذرتكا

وكنتُ أبدأ الطلاب بذكر مثل هذه اللطائف من تاريخ هذا الفن، وهي كثيرة منثورة في كتب القوم، كقصة الخليل حين مرّ بالصّفّارين فأخذ العروض من وقع مطرقةٍ على طَسْتٍ، وقصته مع الشيخ الذي يعلم فتاه العروض بطريقة التنعيم

نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم نعم

 

نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم لا لا

... وذلك لغرضين اثنين:

أولهما إتحاف الطلبة بالنوادر والطرف، والطالب لا يستهويه شيء كما تستهويه هذه الطرائف – وكلنا ذاك الرجل – فقد كان روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث أصحابه ساعة ثم يقول حمِّضونا فيأخذ في أحاديث العرب وأشعارهم، ومثله عن الزهري ومالك بن دينار.

وثانيهما كسر حاجز الهيبة والوقار والثقل وشدة الاتزان، لأن النغم والإيقاع يحتاج إلى شيء من الأريحية والبساطة والسماحة، ولو كنت ترى الطلاب إذ ينقرون على المقاعد نقرًا موزونًا مضبوطًا لرأيت عجبًا وسمعت طربًا، وما أكثر ما كان يمر أحد الزملاء من المدرسين بجانب قاعتي فتستوقفه هذه المعزوفة التي تشبه (المارش العسكري) أو مشية الخيل في الخبب، وما كنت أرضى أن يشترك الجميع في مثل هذه المعزوفة حتى أطمئنَّ إلى إتقان كل مجموعة على حدة، فإذا اطمأننت إلى سلامة الإيقاع وعدم شذوذ أحدٍ عنه ناديت بالطلبة قائلا: 

اشحذوا أقلامكم ولنبدأ

ثم جعلت أقطِّع، أي أقرأ المقطع من البيت بصوت مسموع، والطلاب خلفي ينقرون، وما أجملها من معزوفة!.

ولبيان أمر الإيقاع أقول: 

كل شعر - بل كلّ كلام - يتألف من حروف متحركة وأخرى ساكنة، فإذا ما اقترن الحرف المتحرك بالحرف الساكن ألّفا مقطعاً واحداً طويلاً نحو: قا، لَمْ، في، عن... إلخ.

وإذا اقترن المتحرك بالمتحرك ألَّفا مقطعين قصيرين نحو: لَهُ، بِكَ...إلخ.

ويمكن أن تتابع الحروف المتحركة فتكوِّن كلها مقاطع قصيرة إلى أن يأتي حرف ساكن فيؤلف مع ما قبله مقطعاً طويلاً نحو: 

كَـــتَـــبَ / كَـــتَـــبَـــهَــــا / نُـــوحِـــيـــهَـــا

تِــــتِـــتِ / تِـــتِـــتِـــتِـــكْ / تِــكْ تِــكْ تِـــكْ

3 مقاطع قصيرة /3 مقاطع قصيرة + مقطع طويل/ 3 مقاطع طويلة

والإيقاع يقتضي أن نقابل كل حرف متحرك بنقرة وكل حرف ساكن بعدم النّقرة، فإذا تتابعت الحروف المتحركة تتابعت النقرات، وإذا جاء الساكن انقطعت، وهكذا يمكن أن تكون التفعيلة: "فاعلن"مقابلة للنقرات: تِكْ تِتِكْ. و"فعولن"مقابلة للنقرات: تِتِكْ تِكْ. (التاء هنا تقابل الحرف المتحرك والكاف تقابل الحرف الساكن)، فإذا أخذنا المثال الآتي:

زرنا يوماً قوماً عرباً

 

قالوا أهلاً سهلاً رحباً

وقرأناه ببطءٍ مع الإيقاع وجدنا إيقاعه أو نقراته على النحو التالي:

زرنـا/يــومــاًقــومــاً/عــربــا

تِكْ تِكْ/تِكْ تِكْتِكْ تِكْ/تِكْ تِكْ

قــالــوا/ أهــلاًسـهــلاً/رحــبــاً

تك تك/ تك تكتك تك/تك تك

وهو أمر نصنعه بطبيعتنا كلما سمعنا كلاماً موزوناً أو ملحّناً، فالحركة تقابلها النقرة والسكون يقابله السكون.

وإذا أخذنا بيتاً آخر:

شعر نثر علم أدب

 

قلب فكر نور أرب

وقرأناه إيقاعاً وجدنا له الإيقاع نفسه مع اختلاف الجزء الأخير من كل شطر وهو (أدَبٌ وأَرَبٌ) فإيقاع كل منهما (تِتِتِك تِتِتِكْ) خلافاً لإيقاع سائر البيت ففي كل منهما مقطعان قصيران ومقطع طويل.

وهكذا تختلف الإيقاعات باختلاف التفعيلات. ومن المعلوم أن التفعيلات ثمانٍ: أربعٌ أصولٌ يتفرّع عنها أربعٌ فروعٌ، وذلك بقلب الأصول على النحو التالي:

فعو لن             مفا عيلن        مفاعلتن             فاعـ  ـلاتن

 

فا علن           مستفـ ـعلن       متفا علن     مفعو لاتُ

 

فإذا شفعناها بإيقاعاتها كانت على النحو التالي:

• فعولنتِتِكْ تِكْ

• فاعلنتِكْ تِتِكْ

• مفاعيلنتِتِكْ تِكْ تِكْ

• مستفعلنتِكْ تِكْ تِتِكْ

• مفاعلتنتِتِكْ تِتِتِكْ

• متفاعلنتِتِتِكْ تِتِكْ

• فاعلاتنتِكْ تِتِكْ تِكْ

• مفعولاتتِكْ تِكْ تِكْ تِ

ولعل من نافلة القول هنا أن نشير إلى أن ما يعتور التفعيلات من تغيرات بالنقصان أو الزيادة، يقابله تغير بقَدِرِه في الإيقاع، مثل: فَعُولُ يقابله: تِتِكْتِ، ومفاعِلُن يقابلها: تِتِكْ تِتِكْ.. وهكذا. وبذلك لا يقتصر الإيقاع على تقطيع البيت - بعد معرفة بحره غناءً - وإنما يعين إلى ذلك على تحديد ما اعتراه من جوازات، وما أصابه من علل وزحافات.

 الكويت  9 جمادى الأولى 1442ه

        24/12/2020 

تعليقات

اكتب تعليقك