في عالم التدريس.. كانت لنا أيام بقلم أ. د محمد حسان الطيان”9”
فن وثقافةالآن أغسطس 3, 2023, 5:47 م 1465 مشاهدات 1
- 9 –
طريقتي في تدريس العروض
العروض علم إرهاف الآذان وإتقان الألحان، وقد سلكت في تعليم هذا الفن مسلكا حمِـدته وحمِـدت نتائجه، ولقيت من تفاعل الطلبة معه ما يبهج القلب ويملأ القلب سعادة، ولا شيء يدفع المدرس إلى المزيد من العطاء والإحسان والتجويد كمتابعة الطلبة له، وتفاعلهم مع ما يقدم لهم، وبريق عيونهم وهم يحدجونه.. وأنا دائم الترديد والأخذ بمقولة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه:
«حَدِّثِ الْقَوْمَ مَا حَدَجُوكَ بِأَبْصَارِهِمْ [يَعْنِي مَا أحَـدُّوا النّظر إِلَيْك ورمقوك، يُقَال للرجل: قد حَـدَجَـني ببصره إِذا أحدَّ النّظر إِلَيْك] وَأَقْبَلَتْ عَلَيْكَ قُلُوبُهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ عَنْكَ قُلُوبُهُمْ، فَلا تُحَدِّثْهُمْ» قِيلَ: وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «إِذَا الْتَفَتَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَرَأَيْتَهُمْ يَتَثَاءَبُونَ، فَلا تُحَدِّثْهُمْ».
والحق أني تلقيت بعض مبادئ مسلكي وطريقتي هذه من أستاذي المحبوب محيي الدين سليمة أطال الله في النعمة بقاءه، وهي تتلخص في النقاط الآتية:
1. التدرّج في البحور من الأسهل إلى الأصعب، أي من المتدارَك ذي التفعيلة الواحدة المكررة (فعلن) وما يشبههه من المتقارب فالهزج فالرجز ...وهكذا وصولا إلى التفعيلتين المكررتين كالبسيط والطويل.. وانتهاءً ببحور التفعيلات المختلفة كالخفيف والمنسرح.
2. اجتناب الخوض في الدوائر العروضية لأنها ما تزيد الطالب إلا تعقيدا.
3. عدم حشد الكلام على الزحافات والعلل في درس واحد، بل توزع على كل البحور، ويؤخذ لكل ما يلزمه.
4. عدم ربط التقطيع بوضع الإشارات المختلفة التي تمثّل المتحرك والساكن (/O أو _.) ولا تفيد شيئاً في معرفة وزن البيت أو الكشف عن مواطن كسره وما قد يكون فيه من خلل، بل هي وسيلة يتحول فيها هذا الفن السماعي المعتمد على الذوق السليم إلى رموز مكتوبة لا طائل منها.
5. إحياء الصلة بين العروض من ناحية وبين الموسيقى والنغم والإيقاع من ناحية أخرى. وهي صلة قديمة تعود إلى نشأة العروض وابتكاره، ولو عدنا إلى أخبار هذه النشأة لوقفنا على حقائق كثيرة تجلو هذه الصلة.
يقول حسَّان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تغنَّ بالشِّعْرِ إمّا كنتَ قائلهُ ***إنَّ الغناء لهذا الشعرِ مضمارُ
وعلى هذا مضيت في تعليمي للعروض، بربط البحور وتقطيعها بالنغم والألحان من جهة، وبالإيقاع من جهة أخرى.
أما النغم فكلُّ بحر من بحور الشعر يمكن أن ينطبق على أغنية محفوظة أو أكثر، أو بعبارة أخرى يمكن أن يغنَّى وينشد كما تغنى تلك الأغنية أو ينشد ذلك النشيد، فتكون هذه الأغنية أو النشيد بمنزلة المفتاح لهذا البحر، فإذا ما حاول الطالب أداء بيت من الشعر ينتمي إلى هذا البحر على لحن تلك الأغنية طاوعه اللحن وانقاد له الغناء، وإذا ما حاول أداء بيت آخر لا ينتمي إلى هذا البحر على لحن تلك الأغنية تأبّى عليه اللحن ولم ينقَدْ له الغناء، ومن ثم يكون قادراً على أن يحكم على ذلك البيت الذي انقاد له فيه الغناء بأنه ينتمي إلى ذلك البحر الذي تنطبق عليه الأغنية، وأما ذلك الذي لم ينقَدْ له الغناء فيه بتلك الأغنية فإنه يبحث له عن أغنية أخرى لكي يصل إلى تحديد بحره. ولنأخذ مثالاً على ذلك البحر المتدارك:
متداركُنا نغمٌ عَجِلُ | *** | فعلن فعلن فعلن فعلن |
فهو ينطبق على لحن قصيدة الحصري القيرواني التي تشدو بها فيروز:
يا ليلُ الصبُّ متى غَدُه | *** | أقيامُ الساعةِ موعدُه |
وينطبق كذلك على تلحين الموسيقار محمد عبد الوهاب لقصيدة شوقي التي عارض بها قصيدة القيرواني:
مضناكَ جفاهُ مرقدُه | *** | وبكاهُ ورحَّم عوَّدُه |
وينطبق على لحن القصيدة التي يؤديها الأستاذ صباح فخري:
يا صاحِ الصبرُ وهَى منِّي | *** | وشقيقُ الرُّوح نأَى عنِّي |
وينطبق على تلك القصيدة الرائعة التي كان يشدو بها غرِّيد الشام المنشد المعروف توفيق المنجد في استقبال شهر رمضان:
رمضانُ تجلَّى وابتسما***طوبى للعبدِ إذا اغتنما
أرضى مولاهُ بما التزمَ***طوبى للنفسِبتقواها
فإذا ما حاولنا تأدية أيِّ بيتٍ ينتمي إلى البحر المتدارك، وفق ألحان هذه الأغاني والأناشيد طاوعنا الأداء وانقاد لنا اللحن فدلَّ ذلك على صحة انتماء هذا البيت إلى البحر المتدارك في حين لا يصحُّ ذلك في أي بيت لا ينتمي إلى البحر المتدارك.
وكذلك معظم بحور الشعر، إذ ينطبق كلٌّ منها على أغنية مشهورة أو نشيد معروف يمكن أن يكون مفتاح ذلك البحر، فالمتقارب على النشيد السوري، والرمل على النشيد الجزائري، والوافر على الأغنية الشعبية المعروفة (سكابا يا دموع العين سكابا)... وهكذا.
الكويت 7 جمادى الأولى 1442ه
22/12/2020
NADA Msouty أغسطس 3, 2023, 9:39 م
ماشاء الله تبارك الله مقالة رائعة أستاذنا فضيلة الدكتور حسان الطيان زادكم الله من فيض نور علمه، وجزاكم عنا خيرًا، ونفع بكم وجعلكم كالغيث أينما حللتم نفعتم.