د.محمد الرميحي: رهاب الحداثة!

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 667 مشاهدات 2


ربما هي من بين الثقافات التي تكاد تكون جامدة نسبياً، وأعني بها الثقافة العربية المعاصرة، بعض الثقافات الإنسانية تعاني ما يمكن أن يُعرف بـ"رهاب الحداثة" والميل إلى الاعتقاد بأن كل ما هو آت من الخارج مضر.

 

جزء غير يسير من ثقافتنا يميل إلى ذلك، ويتمثل في تعظيم الماضي والحطّ من الحاضر، وهي ظاهرة عكس سير التاريخ الإنساني. إنها ظاهرة تغلف حياتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، فهي تكثف رؤيتها إلى الحياة والعالم من خلال "الحلال والحرام" كما يراه بعض المجتهدين، والذين ليسوا بالضرورة على سوية معقولة من العلم والمعرفة الحديثة! هؤلاء يفرضون رؤيتهم على المجتمع ويكونون أوصياء عليه في كل شاردة وواردة. 

 

من دون التخلص من تلك الوصاية لن تنفعنا الشعارات التي ينادي بها البعض، كمثل الديموقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والتحرر، فكلها "شعارات" يناقضها معظم الواقع الذي نعيش في المئة سنة الأخيرة على الأقل. 

 

نحن نعيش الحاضر ولا نعايشه، تلك هي المعركة الفكرية والسياسية الكبرى المسكوت عنها في فضائنا الثقافي والسياسي، والمسببة لكل ذلك التنافر والعداء.

 

لعل هذه المقدمة تحتاج إلى بعض الإيضاح والأمثلة. قبل مئة عام أو أكثر قليلاً ذكرنا بطرس البستاني في نهاية القرن التاسع عشر، وهو يتكلم عن نهوض الأمم وسقوطها بالقول إن السبب هو "ما لها من حرية وما عليها من قيود"، وكل ما نشير إليه اليوم عن محرر النساء قاسم أمين وعن أنه أحدث زلزالاً في المجتمع العربي وما زال بعض المتزمتين يذكره باستنكار. كل ما طالب به الرجل هو تعليم المرأة حتى المستوى الابتدائي! لقد واجه وما زالت أفكاره تواجه بالكثير من المعارضة من "حراس النيات" و"الأوصياء"، في مرحلة كان لبس البنطال للرجل محرماً وكذلك إسالة المياه في الصنابير، ويرى البعض اليوم أن لبس البنطال للمرأة قريب من التحريم، ولقد وقفت المطبعة الحديثة ثلاثمئة عام على بوابة العالم الإسلامي لأن أحد الأوصياء أفتى بحرمتها بحجة احتمال أن يطبع القرآن من خلالها، وبالتالي تعاظمت أوروبا في طبع الكتب ونشر التنوير، وبقيت هذه المنطقة تنسخ الكتب يدوياً!

 

أخيراً، في الكويت ينتخب أعضاء مجلس الأمة من الناس، ثم يقرر في أولى جلساته إنشاء لجنة تسمى "لجنة القيم"! بمعنى أن من انتخبهم الناس يريدون أن يكونوا أوصياء على الناس في فهم مغلوط لفكرة الديموقراطية. منذ مئة عام والمستنيرون في الكويت يناضلون عكس ما يريده الأوصياء، فقد كانت أول مدرسة نظامية دار حولها جدل من نوع: هل يمكن أن نعلّم طلابنا اللغة الإنكليزية؟! وكان الأوصياء يعارضون ذلك لأسباب اعتقدوا أنها دينية! 

 

معركة رهاب الحداثة تجدها في التاريخ العربي على امتداد معاصرته، بعد الخروج من عصر الظلام، فهي في ليبيا كما يحدثنا المرحوم علي عتيقة في مذكراته، أنه كان يحرّم  لبس ملابس الكشافة الإيطالية واعتبار أن كل من يلبس تلك الملابس قد خرج من الدين. تجد ذلك وأمثاله في مصر والعراق واليمن بأشكال ومظاهر مختلفة في الجغرافيا العربية والإسلامية الشاسعة، وهي اليوم ممثلة خير تمثيل في الممارسات التي تقوم بها "طالبان" في أفغانستان من حرمان النساء من التعليم والعمل على أنه "من أصول الدين"! حتى تركيا العلمانية، بحسب قوانينها المكتوبة، تنسحب من شرعة المساواة بين الجنسين التي وقعت عليها في وقت سابق، ذلك جزء منه تسييس وجزء آخر التزام بمقولات الأوصياء.

 

المجتمعات بطبيعتها تتغير وكذلك سلوك البشر، ولدينا كتاب للناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي بعنوان "الفقيه الفضائي"، يفكك فيه فتوى الفضائيات وخروجها عن التفكير السليم ومعارضة كثير منها للمصالح المرسلة للناس. وفي مقالة أخيرة للكاتب مشعل السديري في "الشرق الأوسط" بمناسبة موسم الحج الأخير بعنوان "كيف كان الحج وكيف أصبح"، يقول في جزء منه: "بالنسبة إلى رمي الجمرات لم تعد  هناك مشقة في جمع الحصى، فكل عدد من الحجارة يقدم لك في كيس مغلف... وما عليك إلا رجم الشيطان". تلك طبيعة الأمور، إن السلوك المجتمعي في تغير. 

 

لقد عاش المجتمع العربي، ولا يزال، حبيس تفكير الأوصياء وتكفيرهم، واختلط الكثير منه بالسياسة وظهرت جماعات تستفيد من تلك المقولات تحت شعارات مختلفة، منها إقامة الخلافة الإسلامية، ومنها تكفير المجتمع، وغيرها من الشعارات التي يقف خلفها ويدعو لها الأوصياء، ما عطل الكثير من المصالح المرسلة للمجتمعات، وأقعدها عن ركب الحضارة وأغرى بها الآخرين، وكانت تلك الأفكار في الغالب وبالاً على تلك المجتمعات وما زالت. 

 

الوصاية مناقضة للحرية، والأخيرة هي السبيل لنهضة الأمم كما قال كثيرون، منهم من أشرنا إليه آنفاً بطرس البستاني. وكلما قربت الدولة أو المجتمع العربي أو الإسلامي من خلع الأوصياء وتجنبهم، قربت إلى التفكير العقلاني وهو  الطريق السليم في التنمية والتقدم وأيضاً في الأمن الوطني. 

 

لعل مشروع محمد بن سلمان - مع حفظ الألقاب - في بلد كبير ومؤثر هو المملكة العربية السعودية، في الخروج من الوصاية، كما أشار إليها في أحاديثه، وكما يحققها على أرض الواقع، يشكل أصعب تحدياته التخلص من أفكار الأوصياء الذين دأبوا على تفسيراتهم الغارقة في الماضوية من غير حجة عقلانية، وعلى غير هدى، هم القابضون على توجيه المجتمع، وبالتالي تعويقه عن السير مع ما وصل إليه العالم من تنظيم وتقدم، فالشروع في تطوير التعليم وتجويده ومسايرته ما وصل إليه الإنسان من تقدم، واعتماد العقلانية في فهم الظواهر وتفسيرها والتفريق بين ما هو تقاليد وعادات، وبين ما هو عقيدة وعبادة، هو الأكثر صعوبة في المشروع لأنه يواجه بثوابت في عقول البعض تحتاج إلى عمل متدرج ولكن ثابت لتغييرها.

 

لقد اختطف "حراس النيات" ومن نصّب نفسه وصياً على المجتمع، اختطفوا مجتمعاتنا وما زالت فئة من تلك المجتمعات خاضعة طوعاً أو جهلاً لنواهيهم وأوامرهم، ويحتاج الأمر أولاً إلى فهم تلك الإشكالية الاجتماعية، وثانياً إلى رسم الخطط والدعوة الشجاعة إلى كف وصايتهم. 

 

فكلما خضع المجتمع لرهاب الحداثة تخلف! والعالم لا يتوقف عن التطور. 

تعليقات

  1. صدق الدكتور الرميحي ولخص كل المقالة ف جملته الاخيرة وهي: كلما خصع المجتمع لرهاب الحداثة تخلف والعالم ماض لايتوقف عن التطوير. سلمت اناملك. اقول : كل عراقيل الحضارة ومعوقاتها متجمعة ف منطقة الشرق الاوسط رغم انها منطقة الوحي للاديان الابراهيمية" السماوية" ومذاهبها المتعددة التي اختلطت بعادات شعوب المنطقة وانتجت ف طريقها مجوموعة من المعوقات يصعب تجاوزها.. تحياتي لكاتب المقال.

  2. صدق الدكتور الرميحي ولخص كل المقالة ف جملته الاخيرة وهي: كلما خصع المجتمع لرهاب الحداثة تخلف والعالم ماض لايتوقف عن التطوير. سلمت اناملك. اقول : كل عراقيل الحضارة ومعوقاتها متجمعة ف منطقة الشرق الاوسط رغم انها منطقة الوحي للاديان الابراهيمية" السماوية" ومذاهبها المتعددة التي اختلطت بعادات شعوب المنطقة وانتجت ف طريقها مجوموعة من المعوقات يصعب تجاوزها.. تحياتي لكاتب المقال.

اكتب تعليقك