د.محمد الرميحي: القشطيني

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 1166 مشاهدات 0


رحم الله خالد القشطيني. ربما كان من الكتاب القلائل الذين أخذوا طريق النكتة العميقة والسياسية للتعبير عن الموقف العام، وبخاصة العربي المشحون بالتناقضات. الشخصية العراقية ليس من صفاتها الاهتمام بالطرافة أو الملحة، هي في معظم الشرائح جادة إلى حد القسوة. كان زملاء في بريطانيا من حزب "البعث" على مقاعد الدراسة في سبعينات القرن الماضي ينقلون لنا أنهم قاموا بتعذيب زملائهم بناءً على أوامر الحزب! أحد تعبيرات أحدهم التي لا أنساها، قوله: "كنت أعذب زملائي وأبكي! موقف تراجيدي بامتياز! الحزن أقرب إلى الشخصية العراقية من الهزل!".

 

ترك لنا عالم الاجتماع العراقي علي الوردي كماً كبيراً من تشريح الشخصية العراقية، وكان القشطيني - رحمه الله - ممثلاً صادقاً لتلك الشخصية المتناقضة، لكنه أخذ طريق النكتة، والنكتة السوداء على الخصوص، كي يعبر عما في داخله من احتقان.

 

كتب في الرواية وألّف الكتب الساخرة، تكفي الإشارة إلى عنوان كتابين لهما قيمة تاريخية الأول هو "السخرية السياسية العربية" والثاني "الظرف في بلد العبوس". كتابان يحملان ذلك الكم من الاشمئزاز في "دول القمع"! 

 

إبان الاحتلال العراقي للكويت، وكنت في لندن، اتصل بي الرجل من أجل ترتيب اجتماع مع "المعارضة" العراقية، وكانت لندن تعج بهم فرادى وجماعات، ووجدت أن الفكرة قد تكون مفيدة من أجل شرح وجهة نظرنا لشريحة عراقية، بعد أيام اتصل الرجل وهو يضحك وقال لي: "يبدو أن الجماعة في الموضوع الكويتي أشرس موقفاً من صدام حسين!" وانتهت المحاولة. بعدها التقيته وأردت شرحاً لذلك الموقف، قال إنه بمجرد أن التقى بعض المعارضين وشرح فكرة الاجتماع أجمعوا على أن هذا الاجتماع لا يجوز لأن "الكويت جزء من العراق"! وأي اجتماع معهم هو خيانة وطنية!

 

في إحدى مقالاته في "الشرق الأوسط" التي لا أنساها روى أنه كان مولعاً بالذهاب إلى مناطق بيع الكتب والخرائط القديمة في لندن، فوجد خريطة قديمة لجنوب العراق رسمت إبان الوجود البريطاني هناك بعد الحرب العالمية الأولى، فاشترى نسخة منها وعلقها في برواز في مكتبه في الملحقية الثقافية العراقية، وكان يعمل فيها جزءاً من الوقت، دخل عليه الملحق الثقافي فاستحسن الخريطة وطلبها منه فوافق، علقها الأخير في مكتبة، وبعد أيام زار الأخير الملحق العسكري فاستحسن الخريطة ونقلها إلى رؤسائه في الجيش العراقي، وكانت الحرب العراقية الإيرانية على أشدها، وتخاض في المواقع نفسها التي رُسمت في الخريطة.

 

بعد أيام جاءت إخبارية من بغداد أن أرسلوا لنا عشر نسخ من تلك الخريطة الموثقة، طبعاً القشطيني هو الذي يجب أن يذهب لجلب تلك الكمية، وبعد سؤال البائع قال له لقد جاء شخص إيراني واشترى جميع النسخ.

 

العبرة واضحة من ذلك السرد (الذي نشر في جريدة الشرق الأوسط) كما رويت، أن جيشين يتحاربان في منطقة لا يملك أي منهما خريطة دقيقة للمكان الذي تدور فيه المعارك!!

ذلك السرد القشطيني الذي يخلط بين الحقيقة المرة والمزاح الأسود هو استهزاء كامل بالفريقين المتحاربين وقد سفكا دماء مئات الآلاف من الضحايا من الجانبين. في نظر القشطيني بروايته تلك، أنها مهزلة إنسانية تقوم بها مجموعة من الحمقى. هكذا كان القشطيني يختار طرائفه، فقد كانت مليئة بالاستهزاء المبطن.

 

كان رحمه الله في حياته مثالاً للعراقي التائه، قلبه هناك على ضفاف دجلة الذي ينقل منه حكاياته اليومية، وبين معيشته الصعبة في لندن الصاخبة، يتنقل في قطار الأنفاق حاملاً حقيبة من التي تحمل على الظهر، محتاراً في هذا التيه الذي وصل إليه، فلا هو قادر على أن يتكيف مع العيش الجديد، ولا هو قادر على أن يعود إلى وطنه، لأنه كما قال: يمكن أن تقتل في بغداد بزلة لسان وأنا "لساني فالت" لا أستطيع أن أتحكم فيه ولو على سبيل المزاح! 

 

خالد القشطيني يمثل جيشاً من العرب الذين ذهبوا إلى المنافي بأقدامهم فراراً من صلف الحكام وبطشهم، ذلك البطش الذي لا يسببه عمل عدائي بل كلمة فلتت من لسان مواطن، كان هناك العراقي والليبي والفلسطيني والسوري وجالية كبيرة تدمع عيناها على وطنها الأم وهي بعيدة منه، ذلك في نظر القشطيني وأمثاله نوع من العقاب الرباني الذي لا راد له.

 

لم يستطع القشطيني أن يعود إلى بغداد التي احبها بعد زوال النظام، لان من خلف ذلك النظام كان اشد صلفا وقسوة، ولم يبرز البديل الحضاري الذي يرغب أمثال القشطيني في العيش فيه.

 

مات القشطيني، ولكن ما زال عشرات الآلاف من العرب في لندن وفي العواصم الغربية.

المفارقة أن من ينتقد بقسوة النظام العربي وهو في بلاده انسجاماً مع الجو العام، يجد نفسه بعد النفي الاختياري أن لا ملاذ له إلا تلك الأنظمة "الإمبريالية" التي كان ينتقدها. إنه عصر الحيرة العربية الأكبر وعصر الشتات الذي فارقه القشطيني من دون الكثير من الحزن!!

تعليقات

اكتب تعليقك