في عالم التدريس.. كانت لنا أيام (2) بقلم أ.د محمد حسان الطيان
فن وثقافةالآن مايو 17, 2023, 5:53 م 1155 مشاهدات 0
- 2 -
التشجيع
أخذت نفسي في عالم التدريس بمبدأ التشجيع لكل محسنٍ من الطلبة مهما بلغ إحسانه، وهو مبدأٌ تلقيته من بعض أشياخي وأساتيذي، كالأستاذ المربي المفنّ أحمد المعتصم العذري المدني، والأستاذ محيي الدين سليمة، والأستاذ محمد سليم صوفان، والأستاذ العلامة الدكتور شاكر الفحام رحم الله الجميع.
وأقول من بعض أشياخي لأن بعضهم الآخر كان آيةً من الآيات في الإحباط والتنفير.. والزجر والتقريع.. والاستهانة والتوبيخ لكل ما يرونه من جِدٍّ وإحسان.. وكَدٍّ وإتقان.. وحذق ومهارة وبيان! وكأنهم موكَّلون بخلق الله يصدُّونهم عن السبيل، ويصدِفونهم عن النجاح إمّا رأوا منهم توفيقا أو إحسانا، فلا يريدون لأحد أن ينجح، ولا يحبون لأحد أن يُفلح، لا يسمعون إلا اللحن، ولا تقع أعينهم إلا على الخطأ، سامحهم الله وغفر لي ولهم.
فمن الفريق الأول – بل على رأسهم – أمي التي بسطت لي الأمل في كل خطوة خطوتها، وغفرت لي الزلَّة في كل عثرةٍ عرضت لي، وعاشت مشجعةً لي ولأخوتي في كل سبيلٍ سلكناه، ونهج نهجناه مع النصح والتقويم والدعاء والتبشير. رحمها الله ورحم والدي الجليل وبرَّد مضجعيهما وجزاهما خير الجزاء وأوفاه.
ومنهم أستاذنا العذري الذي منحني لقب (عظيم الصف)، فخطّ لي طريق النجاح في عالم العربية، إذ آليتُ على نفسي أن أكون أهلا لهذا اللقب ما حييت.
ومنهم أستاذنا الدكتور محمود الربداوي – حفظه المولى بحفظه ونضَّر وجهه - الذي جعلني محاضرا في الجامعة وأنا بعدُ طالبٌ من طلابها، حين دعاني مع أحد زملائي إلى المحاضرة، ثم علَّق علينا بقول الشاعر:
إنَّ الرجالَ صناديقٌ مغلَّقةٌوما مفاتيحُها إلا التجاريبُ
ثم كلَّفني المحاضرة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق إبَّان تخرجي فيه، في الوقت الذي مازال فيه بعض زملائي طالبا في القسم!
ومنهم أستاذنا العلامة شاكر الفحام الذي أشرف عليَّ في رسالتي الماجستر والدكتوراه، وكتب مقدماتٍ لبعض أعمالي العلمية التي شاركت فيها، وكان أولها مشاركتي في تحقيق رسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا، وقد ختم تقديمه بعد أن أثنى على عملنا فيها بقول الشاعر:
إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نموَّهُ أيقنتَ أن سيكونُ بدرًا كاملا
ومنهم شيخنا الشيخ شعيب الأرنؤوط الذي دفع لي كتابا حقَّقه لأكتب تقديما له، وأنا حديث عهدٍ بالتخرج، وكان يبدي إعجابه بكل حسنٍ يراه مثنيا ومشجعا.
ومن ثم فإني أزعم أني كنت تلميذا نجيبا لهذه المدرسة، مدرسة التشجيع وبناء الرجال، إذ سلكت مع طلابي هذا المسلك، فخلعت على المتفوق الأول منهم لقب (عظيم الصف) وأهديته أحد كتبي، وسلّمته الدفتر ليسجل فيه كل درجة أزيدها في أثناء الدرس لأي مبادرة أسمعها من طالب أوإجابة صائبة أو مشاركة مفيدة نافعة.
وقد تبوَّأ عندي هذا المقام طلبة في المحسنية أذكر منهم وسيم العظمة في الشعبة النموذجية، ورجاء البغدادي، وعماد الدين الحكيم.
لكن الحادثة التي أود أن أختم بها كلامي هي تلك المسابقة الشعرية التي أقيمت في الحفل النهائي للعام الدراسي (1976/1977) وكانت بين فريقين، الأول من تلك الشعبة النموذجية التي أدرسها، والثاني من شعبة أخرى يتولى تدريسها زميل لي، وتقتضي المسابقة أن يأتي كل فريق ببيت يبدأ بالحرف الذي انتهى به بيت الفريق الآخر، وبدأت المسابقة.. واحتدم الصراع ..كلٌّ يدلي بدلوه.. وكلٌّ يحاول أن يجيب بأسرع ما يمكن على البيت الذي يأتي به الفريق الآخر.. والجميع مشغولون بالدفاع يتهيؤون لأي حرف قد يعزُّ البدء به، كالضاد والثاء والذال والظاء، لكن الذي بغَتَ الجميع وأدهشهم بل أذهلهم وأسكتهم، بيت رمى به وسيم ردًّا على قافية ميمية، إذ بادر بالقول:
مررتُ بعطَّارٍ بمكَّةَ جالسٍفأشمَمَني عطرًا فقلتُ لهُ (صوت نَفَسَين عميقَين)
نعم أنهى البيت بصوت الشمَّة التي اشتمَّ بها العطر، فبُهتَ الذي حضَر، ولم يُـحِـر أحدٌ جوابًا؟ وكيف يجيبون ببيتٍ يبدأ بشمَّة أو شمَّتين؟؟!!
وعندها قال المدير إن هذا الغَلَب كان بالضربة القاضية، وأعلن انتهاء المسابقة بفوز فريق وسيم العظمة.
والحقّ أني تعلَّمت من هذا درسًا جميلا رائعا، زاولتُه بشيء من التصرف بعد حين من الدهر، إذ دُعينا في الجامعة العربية المفتوحة لنزهةٍ شارك فيها جمعٌ من الهيئة التدريسية والهيئة الإدارية، وأقامت إحدى الزميلات مسابقة ثقافية طرحت فيها أسئلة متنوعة، وكانت مكافأة الإجابة الصحيحة قطعةً مشتراة من محلات (المئة فلس) لكنها - والإنصاف شريعة - مغلفة بغلافٍ حسنٍ يغري بها!
فلما نفِدَتِ الجوائز، عرضتُ أن أسهم في مسابقة يشترك فيها الجميع، وهي مسابقة الأنفاس الشعرية أو المساجلات الشعرية، فرحب الجميع بالاقتراح، وانتظم الحضور في فريقين، كلٌّ يدلي بدلوه، إلى أن أعلنتُ لهم أني سآتيهم ببيتٍ أجعل لمن يجيب عنه - أي يأتي ببيت يبدأ من حيث انتهى بيتي – مئةَ دينار كويتي، فضجَّ الجميع وهلّلوا وكبَّروا، وعجبوا من ضخامة الجائزة والقفزة الكبيرة التي بينها وبين سابقتها (أم المئة فلس) وهنا تدخَّل أحد الزملاء، وهو الأخ الحبيب د. أحمد العودات – وكان يحضِّر للدكتوراه في الأدب العربي بعد أن أنجز الماجستر – فقال لي: أنا طبعا خارج المسابقة، فقلت للتوِّ بل أنت فيها، وسأرفع المكافأة من أجلك إلى خمسمئة دينار، فما كان من الأستاذ أحمد الشايجي - وهو الذي دعانا لتلك المزرعة جزاه الله خيرا – إلا أن قال بالحرف الواحد:" واللهِ لشَحْدَك ياها على باب الجامع" أي لأجعلنَّك تستجدي هذه الخمسمئة دينار على باب المسجد، فضربتُ على الطاولة ضربةً قويةً اهتزَّت لها أرجاء الخيمة، وصرختُ بأعلى صوتي إذن فالمكافأة ألفُ دينار، فسكنَ الجميع.. وعجبوا وأطرقوا.. وحمحموا وأيقنوا أن في الأمر شيئا! ثم ران عليهم السكون، فاشرأبَّت الأعناق، وحَدَجَت الأعين (أي رمتني بحدّة نظر)، وصمتت الأفواه، وأصاخَت الآذان..فما كان مني إلا أن رميتهم ببيت أبي نواس الذي يقول فيه:
ولقد قلتُ للمليحةِ قُولي ... من بعيدٍ لمن يحبُّكِ: ( صوت قبلة مرتين )
فضحك الجميع وضجُّوا، واعترض أبو ضاري – أ. الشايجي - قائلا أهذا شعر؟ فقلت أجل، وهاك أخاه:
فأشارتْ بمعصمٍ ثم قالتْ ... من بعيدٍ خلافَ قوليَ: ( صوت لا مرتين )
فزاد الضحك والتعجب، واعترض أبو ضاري ثانية قائلا أهو موزون، فقلت أجل هو من البحر الخفيف، وآخره (بِك بُؤْ بُؤْ) على زنة فَعِلاتُن، وهاكَ ثالثةَ الأثافي:
فتنفستُ ساعةً ثم إني ... قلتُ للبغلٍ عندَ ذلك: ( صوت زجر البغل مرتين)
فتعالت ضحكات المجلس، بل تحوّل الضحك إلى قهقهة.. وبَخْبَخَة (حِكَايَةُ قَوْلِ المُسْتَجِيدِ).. وأخْـأَخُة (التَّأْخِيخُ حِكَايَة قَوْلِ المُسْتَطِيبِ).. وأيقن الجميع أنهم خسروا المكافأة ولم يُـحِرْ أحدٌ جوابا.
وعندما عدتُ إلى البيت، وأويتُ إلى فراشي رجعت إلى نفسي لائما: أيصحُّ أن تتحدّى القوم بسؤال لا تملك جوابه؟! وقُضَّ والله مضجعي، فلم أسطعِ النومَ حتى نظمتُ هذه الأبيات جوابًـا عن تلك التي لا قافيةَ لها، أو قل ذات القافية الصوتية التي لا تُكتَب:
(بؤبؤ) لكمْ يا شاغلي قلبي بكمْ... هلا أذنتُمْ للمحبَّ بقبلةِ
(ثؤثؤ)محالٌ أن أبوحَ بحبكمْ...حاشا أخونُ العهدَ يا محبوبتي
أو
(ثؤ) لا أبوحُ بحبِّ من أهوى وإن...سفكوا دمائي أو أموتَ بلوعتي
(لئ لئ) حماري لا تكنْ متراخياً... جدَّ السُّـرى إياكَ لا تتلفتِ
الكويت 6 ربيع الآخر 1442ه
21/11/2020م.
تعليقات