في عالم التدريس.. كانت لنا أيام بقلم: أ.د محمد حسان الطيان
فن وثقافةمايو 9, 2023, 1:56 م 1060 مشاهدات 0
(1)
حين قابلتُ الأستاذ هشام الناشف رحمه الله – بناءً على تزكيةٍ من أستاذي الحبيب الأديب الأريب الشاعر الأستاذ محيي الدين سليمة حفظه الله ونضَّر وجهه ولا أخلى مكانه - أولَ مرة في مكتبه، شعرتُ أني أمامَ أسدٍ هصور مقدام لا يُشقُّ له غبار، لا أمامَ مدرسٍ مخضرم.. ومدير حكيم.. وإداري ناجح فحسب!.
نبرةٌ حازمة قوية، ونظرةٌ لمــّاحة ذكية، وقلبٌ حاضر، ووجهٌ ناضر، وخطًا ثابتة، ورؤًى واضحة، وقدرةٌ على سبر أغوار مَنْ يقابل لا يمتلكها إلا من عَرَك الرجال وعركَوه.. وخبرهم وخبروه.. وعرفهم وعرفوه.. ومازهم ومازوه.. وكأن الشاعر إيَّاه يعني إذ يقول:
وَجَرَّبْتُ الأمورَ وَجَرَّبَتْنِي ... فقد أبدتْ عَريكَتيَ الأمُورُ
وَمَا يَخْفَى الرِّجَالُ عَلَيَّ إِنِّي ... بِهِم لأخُو مُثَاقَبَةٍ خَبِيرُ
وكان أن رشَّحني بنتيجة المقابلة لتدريس العربية في الثانوية المحسنية، إحدى أهم الثانويات في مدينة دمشق آنذاك، وأنا ما زلت في السنة الرابعة من دراستي في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق عام 1976/1977م أي قبيل تخرجي بعام كامل.
ولم يكن هذا أولَ عهدي بالتدريس، فقد زاولتُ التدريس مذ كنت في أواخر المرحلة الثانوية، ثم انتصبتُ مدرسًا للمرة الأولى في حياتي في ثانوية النداء العربي التي كان يملكها ويديرها الأستاذ مروان الخيمي حفظه الله – عديل خالي الأكبر فؤاد مسوتي رحمه الله – وذلك عندما كنتُ في السنة الثانية عام 1974/1975م.
ومن طريف ما حدث لي آنذاك – أعني في ثانوية النداء العربي - أني كنت كلما حاولت الخروج من المدرسة مدافعا جموع الطلبة الذين اجتمعوا على الباب بعد انقضاء دروسي، يقف لي بالمرصاد آذنُ المدرسة، فيمنعني من الخروج ظنًّا منه أني طالب، فأفهمه أني مدرس ولست بطالب فيسمح لي معتذرا، إلى أن عرفني.. وحفظ وجهي بعد لأيٍ فحفظ لي ماءَ وجهي! وجعل يوسِّع لي الطلبة لأمرَّ فيما بينهم وصولًا إلى باب الخروج.
لكنَّ الأنكى من ذلك أني هممتُ ذات فرصةٍ بدخول غرفة المدرسين بعد انقضاء حصتي، فأمطرني أحد المدرسين الجالسين بسيلٍ من الشتائم والسباب ظنًّـا منه أني طالب متطفِّل على غرفة الأساتيذ، ولم ينقذْني من لسانه الذَّرِب إلا أستاذٌ عرفني من قبلُ، فذادَهُ عني ولحقَهُ قبل أن يهمَّ بضربي والعياذ بالله. وعندما استقرَّ بي المجلس معهم وشاركت في حديثهم وانثال لساني بلغتي الفصيحة وبياني المعجِب، لمحتُ بطرف عيني ذاك المدرس الشتَّام يكاد يقطِّع نفسه ندمًا وحسرةً على ما فرط منه، ولسان حاله يقول:
تَرى الرَّجُل النّحيفَ فتزدريهِ ... وَفِي أثوابهِ أسدٌ يَزِيرُ
وأما أنا فكان لسان حالي يردِّد:" أبيتَ اللعن! إن الرجالَ لا تُكال بالقفزان، ولا توزن بالميزان، وليست بمسوكٍ يُستقى بها من الغُدْران، وإنما المرءُ بأصغريه: قلبِهِ ولسانِهِ، إن صالَ صالَ بجَنان، وإن قالَ قالَ ببيان».
وعودًا إلى المحسنية فقد ذهبتُ إليها، وأحسنَ القوم وِفادتي واحتفوا بي فعهِدوا إليَّ بشعبتين من الصف الثامن، إحداهما نموذجية، والأخرى عادية، أما الأولى فقد حشدوا فيها أوائل الطلبة ممن عُجِمَ عودُه ومازَهُ اجتهادُه، وأما الأخرى فضمَّت أخلاطًا من الطلبة.
والحقُّ أني ما قضيتُ عاما في حياتي كذاك العام الدراسي بصحبة هؤلاء المتميزين، لقد رأيتني أنطَقَ ما أكونُ لسانًـا، وأفصحَ ما أكون لهجةً، وأوفرَ ما أكون نشاطًا، وأغزرَ ما أكون علمًا. إذ رأيت من هؤلاء الطلبة عجبًا في توقُّد ذكائهم، وحضورِ بديهتم، وشدَّةِ شغفهم بالعلم والتعلم والتحصيل والنبوغ، وعظيم حِفايتهم بكلِّ شاردةٍ أرويها، وفائدةٍ أحكيها، وشاذَّة أنبِّهُ عليها، وفاذَّةٍ أتصيَّدها، وبيتٍ أنشده، وخبرٍ أسرده، لقد كانوا شعلةً وكنت وقودَها، وكانوا شمعةً وكنت فتيلَها، وكانوا جَذوةً وكنت مُوريها..
كنت أسعى جهدي لإطرافهم بكل جديد ومشوِّق، وبكل مفيدٍ ورائق، وبكل نفيسٍ وفائق، فكنت أجدُ صدى كلامي تلقُّفًا وفهمًا، وعلمًا وهضمًا، وتفوقًا وجِدًّا.
ما أذكر أني شرحتُ شيئًا إلا وعَوه، ولا أنشدتهم بيتًـا إلا حفظوه، ولا كلفتُهم موضوعًا إلا كتبوه، فنعمَ الفهمُ فهمهم! ونعمتِ الاستجابةُ استجابتُهم.
لقد وصلَ الأمر ببعضهم إلى حدّ نظم الشعر، ومحاكاة الكبار من الكتَّاب في النثر، ونطقِ الدرِّ، ونفثِ السحر.
أذكر أن أحدهم ويُدعَى (باسم صندوق) – وهو اليوم مهندسٌ معروف وقارئ مشهور ومدرس ناجح – كان لا يكتب موضوع تعبير إلا ضمنَّه شعرا من نظمه! يتهادى بين نثره الجميل الرائع.
وأذكر طالبًا آخر ويُدعَى (وسيم العظمة) – وكان عظيمَ الصفِّ – أجاب عن سؤالٍ في الكتاب، بقصيدةٍ شعريةٍ حاكى بها قصيدةَ الشاعر الفلسطيني المعروف يوسف الخطيب، وذلك أني كنت قد أعطيتُ النص، وهو قصيدة بعنوان: (العندليب المهاجر) يخاطب فيها الشاعر عندليبا مهاجرًا فيقول:
أتُـراكَ مثلي يا رفيقُ تمر في الزمنِ
عَبْـر المهالكِ والليالي السودِ والمحَنِ
لا صاحبٌ يُـرخي عليكَ غِلالةَ الكفَنِ
تذرو بقيةَ عمرِكَ الصادي بلا ثمنِ
لكأنَّ في عينيكَ بعضَ اللمحِ من وطني
****
لو قشةٌ مما يرِفُّ ببيدرِ البلدِ
خبأتَـها بين الجناحِ ، وخفقةِ الكبدِ
لو رملتانِ من المثلَّثِ أو ربا صفدِ
لو عشبةٌ بيدٍ ، ومِزْقةُ سوسنٍ بيدِ
أينَ الهدايا مذْ برحتَ مرابعَ الرَّغدِ
أم جئتَ مثلي بالحنينِ وسَورة الكمدِ
.....
وكنت قد أنشدتهم القصيدة معجَبًـا بها، وشرحتُها متذوقًـا شَجَنَها وحنينَها وأنينَها، ولحَّنتها طَرِبًـا بوزنها، وتغنَّيتُ بها مشغوفًـا بلحنِها .. بل غنَّيتُها وغنَّاها الطلاب معي، وحفظوها.. وأتقنوها ولـمَّا يخرجوا من حصة النصوص التي خُصِّصَت لها.. فلما رجعوا إلى بيوتهم والتفتوا لكتابة واجباتهم ووظائفهم، كان السؤال الأول عن القصيدة:
- تخيَّل نفسَك ذاك العندليب الذي خاطبه الشاعر بهذه القصيدة فبمَ تجيبُـه؟
وكان أن تخيَّل وسيم أنه العندليب.. وراح يغني كما العندليب..نعم أجاب وسيم العظمة الشاعر يوسف الخطيب بقصيدةٍ عارضَ فيها قصيدته وزنًا وقافيةً ومعنًى وأسلوبا، وهي لعمري لا تقلُّ قيمةً أدبيةً عن قصيدة الشاعر نفسه! وقد قرأ الطالب قصيدته على مسمعٍ مني ومن زملائه، فأعجبتُ بأدائه ونظمه وبديع جوابه! وخطر لي أن أسأله هل أعانَك في هذا النظم أحدٌ؟ فأجابني أن نعم، قلتُ: ومَن؟ قال خالي، قلتُ: زال العجب إذن! لكني لم أزدَدْ إلا إعجابًـا به.. وبصنعِه.. وبخالِـه.. ولكنْ! أتعلمون من خالُـهُ أيها السادة؟؟ إنه العلَّامة المخبريّ الأديب الأريب الخطيب المفنُّ المجمعيّ الألمعي.. الأستاذ الدكتور هيثم حمدي الخياط رحمه الله تعالى.
وكان أولُ تعليقٍ لي على وسيم تلك العبارة التي كنت أطلقُها كلما استحسنت شيئًا من طالب: أحسنتَ أحسنتْ.. وما أجادَ إلا أنتْ - وهي عبارة حفظها الطلاب عني وكانوا يرددونها متندرين بها - ومنحتُه درجاتٍ تقديرية تُـمنَح عادةً لكل طالبٍ محسن، وكلفتُه كتابة قصيدته بخطِّه لأحفظها في لوحة الشرف عندي، وما زالت تلك القصيدة من محفوظاتي العزيزة في مكتبتي بدمشق الحبيبة حماها الله من كل شرٍّ، وردَّني الله إليها سالـمًا غانما.
وأما خبر تسنُّم وسيم العظمة عظمةَ الصف، ومشاركته في مباراة الشعر.. وذكريات أخرى عن المحسنية فسأرجئها إلى حلقة قادمة والسلام عليكم.
الكويت 5 ربيع الآخر 1442هـ 20/11/2020
الأستاذ الدكتور القدير محمد الطيان يصافحنا بمقال رائع يوثق ذكرياته عن بداية رحلة التدريس وأسلوب التعامل مع طلابه من خلال حلقات متواصلة، ونحن بدورنا نرحب بكتابات أستاذنا القدير ونعتبرها مكسباً أدبيا لنا راجين منه دوام التواصل مع عميق الشكر والامتنان.
تعليقات