لماذا يتكرر توظيف مفردة "الفضيلة "في شعر الراحل الكبير محمد الأحمد السديري؟.. بقلم رجا القحطاني

الأدب الشعبي

963 مشاهدات 0


بقلم رجا القحطاني

لم يكن شاعراً عاميًّا  مبدعاً في زمانه وبين شعراء عصره فحسب ، بل كان رمزاً شعرياًّ ، ورجلاً قياديًّا حاز على ثقة  الملك الراحل عبدالعزيز بن سعود الذي أوكل إليه بعض المهام المتعلقة بأمن المملكة .
إنه الأمير الشاعر محمد ابن أحمد السديري ، لم يرحل منذ زمن بعيد جدا ، حيث غادر الحياة عام 1979 , عن عمر يناهز الرابعة والستين، وترك وراءه مؤلفاته "أبطال من الصحراء " و"الدمعة الحمراء"و ديوانه الشعري الذي قام بجمعه ونشره الشاعر طلال السعيد،فإن كان كتابه "أبطال من الصحراء" تضمن سرداً واقعيًّا ونقلاً وثائقيًّا ومثاليات إنسانية أبطالها كوكبة من أبناء الجزيرة ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في أزمنتهم، فقد رأينا سعة خيال الشاعر وقدرته على ربط المشاهد ومهارته في تفعيل الأدوار في روايته العاطفية "الدمعة الحمراء". وهي تجربته الروائية الوحيدة ، وتُعد من أرقى الروايات الشعرية حيث جسدت عذرية الحب في بادية الجزيرة العربية أسماء شخوص ومضامين نصوص، وإن أخذ عليها البعض إراقة الدماء والمشاهد المأساوية ، فليعلموا أن صفة الخير تقابلها صفة الشر ، وأروع صور الوفاء يقابلها أبشع صور الغدر ، كما أن نزعات النفوس متضادة ،ففيها ماهو الإنساني والمثالي، وفيها ماهو أقرب إلى الوحشية وعرف الغاب. كان محمد السديري قاصداً أو غير قاصد يعكس إيمانه بالأخلاق النقية وقناعاته الثابتة في فهمه للحياة. وربما صدق طلال السعيد في مقدمة ديوان السديري بأن" قصائده كانت بمستوى حياته التي عاشها".
ونحن نعرف أن لكل شاعر مبدع بصمات أدائية تؤكد أو تدل على شخصيته في القصيدة ، أو كما يسمونها اليوم" اللازمة الفنية" يكررها تكراراً مستحبًّا وملحًّا بما تتطلبه الفكرة أو الموقف، وقد تكون جملةً مختصرةً أو كلمةً معينة .
وفي قصائد شاعرنا الكبير محمد السديري ، لانجد مفردةً سكنت ذاكرته وتعلقت بها نفسه أكثر من مفردة "الفضيلة" ، يقول في القصيدة المسماه الخالدة:
مادك به عرق المذلة وطاريه
يسبق على فعل "الفضيلة شمامي
اختر عزيز الجار والحق يعطيه
شبلٍ على هرجٍ يقوله يحامي


وفي قصيدة تصوف ونصح" يندد السديري بكل من يحارب الفضيلة وينتصر للشر:
ناسٍ على درب "الفضيلة" تحاربْك
وعلى دروب الشر تهذل هذيلي
ودروبهم عسرات عوجٍ تتعبْك
ماتستوي لك لا ولا تستوي لي


وفي قصيدة "ونة عتب" يتوق إلى الماضي الأصيل، ويجعل الفضيلة جمعاً ويصيّرها صفةً مثلىَ ، إن نُسبت للفضائل وإن نُسبت للأفضال.. هل ثمة فارقٌ بينهما!:
أقفو عن الدنيا هل الخيل والقود
اللي "فضايلها" على الناس بدَّت
أهل الفعول ولبسهم لبس داود
واهل المهار اللي على الضد كدّت

ولم يقل "اللي فعايلهم" بدلاً من فضائلهم في البيت السابق ، إذ أن شاعرنا "بدّىَ" الفضيلة على عربدة القوة وتسلط الشجاعة ، لأن الفضيلة كقاسم مشترك لكل الصفات الإيجابية  قادرة على ضبط القوة والشجاعة وتسخيرهما في الخير وتجنيبهما مواضع الشر ، ويقول في القصيدة ذاتها مكرراً الكلمة عند احتياج المعنى لها:
أشوف ناسٍ عندها الحقد موجود
ونفوسها من كل عليا تردّت
العدل في ساحاتها صار مفقود
وعن "الفضيله" جنّبت واستردّت

بإحساس الإنسان لايرى الشاعر أي صلة ربط بين العدل وانعدام الفضيلة ، فإذا فقدنا العدالة فلأننا لم نعثر على الفضيلة أو أنها خارج قاموس حياتنا.

وفي قصيدة الليل ياخالد تنتاب الأمير مشاعر الزهو، لكن الزهو بماذا؟:
ياما لبسنا للشرف  كل  سربال
وعلى البسيطة "للفضيلة" مشينا
في دوحة العربا لنا مجد وظْلال
حنا  على درّ   المكارم  غذينا

هنا يتضح لنا أن الأمير السديري لايحيا ولا يستحلي الحياة إلا في ظل الفضيلة ، بل أنه يبحث عنها أينما اتجهت خُطاه وألقى عصاه أخلاقاً وقيماً.

وفي قصيدة "ياعالم خفيات الأرحام" يشكو من قلة الأصدقاء الأوفياء في زمن تدثر أهلوه بدثار الزيف والأنانية:
وين الصديق اللي على الكود جزّام
الليث بوّاج الخطر في الظلامي
على "الفضيلة" يبْدل المشي درهام
وعن الرذيلة  ينحرف  بانهزامي

هنا لانحتاج لمن يزيدنا علماً بأن كل أرب سامٍ وكل تصرف إنساني هو نابع من معنى الفضيلة ، لذلك فالشوق إليها لدى الشاعر يحث على استبدال المشي إليها "بالدرهام" سرعة الحركة.

وفي قصيدة "الناس يامرشد" يقول محمد السديري:
أيضاً وانا من قول من كان ماخاف
ارقد بمان الله لو مامعي سيف
الناس يامرشد والأيام بخْلاف
وانا ومثلك "للفضيله" مواليف

لاغرو أن يُصدم الراحل الكبير مرشد البذال بوفاة صديقه الحميم السديري قبل أن يتبيّن له أن وفاته كانت مجرد إشاعة وخبر كاذب ، فبكى بقصيدة تساؤلية هي الصدق بعينه . ولم تتبدد الصدمة المؤلمة إلا بتطمين شخصي -قصيدة- من السديري أنهاها بهذين البيتين،
أجل .. السديري والبذال "مواليف" للفضيلة بكل قيمها الأصيلة ومعانيها النبيلة،
ويبعث الشاعر بقصيدة "خريف العمر" إلى صديقه البذال ، يسأله عن "ثنتين" قُبرتا وأشار الناس إلى قبريهما ، ويسأله كذلك عن "ثنتين” أخريين غابتا عن الملا ولم يعد لهما وجود:
أنشدْك عن ثنتين مازاد عدهن
يقولون بعض الناس هذي قبورها
وانشدْك عن ثنتين غابت عن الملا
وهن بحرف "الكاف" و"الفا" سبورها
عليهن ذرفت الدمع من موق ناظري
تمنيت لو يرجع على الناس دورها

هنا يعود شاعرنا محمد السديري إلى روايته الباكية"الدمعة الحمراء" ويذكرنا بشهيدَيّ الحب "شيمه ووافي" ، فهو يسأل عن الشيمة والوفاء بألم شديد وشوق أشد،
ولم يكن "الذهيب" الذي يبحث عنه السديري ورمّزه بحرف الكاف إلا الكرم ، إن كان كرم اليد أو كرم النفس، أما الذهيب الآخر والذي يبدأ بحرف الفاء فلاريب أنها الفضيلة التي تستوعب موسوعة الأخلاق ومجموعة القيم . يمكننا الاستنتاج  بأن تركيز الراحل محمد السديري على استخدام مفردة الفضيلة  في معظم قصائده يعود إلى تطلُّعه إلى مجتمع مثالي على غرار مدينة افلاطون الفاضلة خالٍ من نزعات الشر البشرية ، لكن كيف يتأتى مثل هذا المجتمع ؟! طالما أن الحياة ذاتها بمثابة ميزان له كفَّتان هما الخير والشر وتتحدد خيريّة المجتمع من شريّته وفقا لرجحان كفة على كفة أخرى.

تعليقات

اكتب تعليقك