د.محمد الرميحي: الغيبة الزلزالية!

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 440 مشاهدات 0


مع هذه الأرواح البريئة التي فاجأها الموت وهي نائمة، وقتل منها الآلاف، وجرح عشرات الآلاف من البشر، وشرّد غيرهم، وهدمت مبان وطرق ومساجد، هي كارثة حدثت في جو مُعادٍ للإنسان، وتسابق العالم لمد يد العون من شرقه إلى غربه، تبدو خلف هذه الكارثة الإنسانية غيبتان؛ الأولى هي الغيبة الصغرى، والثانية هي الكبرى.
الغيبة الصغرى فقد انتبه الجميع أن هذا الزلزال المدمر لم يهدم ويقتل من هم بشر في جنوب تركيا وشمال سوريا فقط، ولكنه سُمع في لبنان والأردن والعراق، وحتى مصر على الأقل، مما يستفيق عليه الجميع أن هذه المنطقة هي مترابطة جغرافياً، وأي حدث فيها، سواء كان زلزالاً أرضياً أو زلزالاً سياسياً يُسمع في المناطق الأخرى المجاورة، ولقد ابتلي الشرق الأوسط؛ وفي قلبه تلك المنطقة، بأزمات متسلسلة جعلت من مواطنيه في الكثير من المناطق مهجَّرين وسكان مخيمات جائعين وخائفين وفقراء، وخاصة في سوريا التي تجاهل العالم ما يحدث فيها من مآس إنسانية وكأنها غير موجودة حتى أصبح المجتمع السوري مجتمعاً منهكاً، والأكثر إيلاماً أن لا حلول في الأفق يمكن التبشير بها؛ لحل تلك المعضلات المعقدة والشره السياسي منقطع النظير، فالمنطقة تنام وتصحو من زلزال إلى آخر، ومن قتل جماعي إلى تصفيات بشرية، ويغمض الجميع الأعين عن تلك الجرائم.
مروحة كبرى من عناصر اللوم تقع على عدد كبير من اللاعبين في هذا المشهد المأساوي، منهم لاعبون محليون، ومنهم لاعبون إقليميون، ومنهم أيضاً دوليون، إلا أن رأس اللؤم يقع على اللاعبين المحليين الذين استعلوا على رغبات وأمنيات شعوبهم في الكرامة والعيش في أجواء آمنة، فاتخذوا قرارات عمياء قادت بلدانهم إلى التفكك والحروب الداخلية والضعف والتهجير، كما أن تلك الحروب قد انسحبت بعض نتائجها إلى الجوار فشغلته جزئياً إن لم يكن كلياً عن التنمية والتقدم، المؤلم أكثر أن كثيراً من تلك القيادات لم تستفِق من الغيبة الصغرى، وما زالت تتعاطى نفس السياسات ونفس الأفكار والتي فجّرت ردّات فعل غير منضبطة ومتطرفة، بل مدمرة في بلدانها والجوار.
ترابط المنطقة جغرافياً الذي أثبته الزلزال المدمر وقد قتل الآلاف من السكان ومن المهجّرين، وجرح عشرات الآلاف، وشرّد أكثر من ذلك، يفرض التفكير في المشروع الصحيح الذي يجب أن يُطرح؛ وهو الكف أولاً عن التدخل من الخارج في شؤون الجيران والعبث بأمنهم، وثانياً تقديم مشروع تنموي قائم على العدالة والإنصاف والمشاركة في الداخل؛ درءاً لاحتمال توسع الشروخ المميتة في الجبهة الوطنية، والتي تقلِّص عدد المشافي وتُضاعف عدد السجون!
هذا المشروع غير مطروح حتى الآن في دول الاضطراب والتناحر، وتشهد الجبهة الداخلية السورية واللبنانية، وأيضاً الإيرانية على تلك المعضلة شديدة التعقيد، التي يبدو أنها قد تعاود (زلزالها) الذي قد لا يشبع من الارتدادات، وهي ارتدادات تزيد الناس فقراً وجوعاً وخوفاً تدفعهم إلى الشوارع متظاهرين، أو إلى الخنادق حاملين للسلاح.
أما الغيبة الكبرى التي صاحبت الزلزال فلها درجات مختلفة ومتدرجة، وفي صلبها (غيبة ثقافية)، فسرعان ما قيل إن أحدهم قد تنبَّأ بوقوع الزلزال، وذلك كلام في أقلِّه غير علمي؛ لأن نص (النبوءة)، كما نُشرت، (أن الزلزال واقع عاجلاً أو آجلاً)! وذلك أمر معروف في مناطق الصدع الأرضي وتناطح صفائح الأرض، إلا أن البيئة الثقافية العربية قد استقبلت تلك المعلومات على أنها حقيقة مطلقة، فهي ثقافة تعشق (النبوءة) المبنية على الخرافة، ثم جاء آخرون ليقنعونا بأن الحدث متعمَّد من (الأعداء) والذين فجّروا تجربة نووية هائلة!
على مقلب آخر وأكثر تدميراً للعقل والمنطق، زخرت وسائل التواصل الاجتماعي التي انتشرت بين الناس بسبب ذلك الحدث للقول إن الزلزال (عقوبة) لمن أصابتهم الكارثة على ارتكابهم المحرَّمات والنواهي، ذلك النوع من التفكير يتكرر في الفضاء الثقافي العربي وينتشر انتشار النار في الهشيم ويجد من يصدقه، وقد قيل شيء مشابه له عندما حلّت موجة صقيع بالغة القسوة في الولايات المتحدة منذ أسابيع، حيث فسرتها تلك المدرسة وقتها بأن ذلك الحدث الطبيعي بسبب (أن الرئيس بايدن وقّع قراراً بمساواة المِثليين)!
مثل تلك التفسيرات الغيبية مدمرة للعقل، والمُفزع أنها تنتشر بين الناس في مثل تلك الكوارث، وهذا التفكير الخرافي لم يتوقف ليعرف أن الضحايا هم بشر قد يكون بينهم الكثير الصالح، وأن أمر الزلزال له تفسير علمي لا يرتكن إلى الخرافة، إنها سيادة العناصر اللاعقلانية في حياتنا دون التوقف أمام حقيقة علمية أن للأشياء أسبابها المحددة، وللطبيعة قوانينها الثابتة.
في مثل هذه الأزمات الكبرى التي يتصيّد فيها الخرافيون السبل لتضليل العامة من أجل تكوين رأي عام (مطيع لأوامرهم) دون جدال أو اعتراض، هو عرَض لمرض اسمه رداءة مستوى التعليم في المجتمعات، وإصرار برامجه على الاستناد إلى نظريات قديمة أنكرها العلم، قائمة على استدعاء أحداث ضاربة في القدم ربما لها (معقولية) في زمانها لأن من قال بها لم يكن قد توفّر له أدوات العلم الحديثة كما هو متوفر اليوم، ويقدمها اليوم بملابس قدسية على أنها مقولات دائمة وصالحة لكل زمان ومكان، القضية الخفية هنا أن مروِّجي تلك الخرافات سرعان ما يطلبون من العامة دفع التبرعات والتي لا يعرف أحد أين توظف.
عندما تقع تلك المقولات على ما يُعرَف بفاقدي المناعة المعرفية، يجري تبنّيها وتوزيعها وتساعد التقنية الحديثة على ذلك، وهكذا يُصنع رأي عام غارق في الأساطير تُعمي مساحة أكبر في عقول الناس.
ما أصاب الناس في الصدع الزلزالي هو ظاهرة طبيعية لها تفسيرها المنطقي، وليس لسلوك بعضهم، ولا حتى أكثرهم؛ أكان صائباً أم خاطئاً (من وجهة نظر البعض) علاقة بما حدث؛ لا من قريب ولا من بعيد.
أليس مريعاً أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى ما وصل إليه من تقدم هائل في زماننا فأصبح يجيب على المسائل المعقدة ويفكك خوارزميات غير مسبوقة ويكتب المقالات والدراسات ويراقب البشر ويقوم بالعمليات الجراحية عن بُعد، وبعضنا ما زال في غيبة صغرى سياسية وكبرى ثقافية؟

تعليقات

اكتب تعليقك