د. سعد الصويان: أنا والفشل
فن وثقافةالآن يناير 12, 2023, 5:31 م 793 مشاهدات 0
أنا والفشل توأمان، ولدنا في يوم واحد من رحم واحد. وكيف لا يُمنى بالفشل من يولد عربيًا في زمن لا تلقى فيه هذه البضاعة رواجًا عند أحد، خصوصًا إذا كنت من غير أبناء الذوات! كانت حاضتني العوز والفاقة، وكانت مرضعتي التخلف والجدب الحضاري والفكري. ولدتني أمي وماتت وتركتني ولحق بها أبي بعد ذلك بأشهر. كنت أستحم بالغبار وأصنع أدواتي من العظام وكرب النخل.
مع مرور السنين بدأت أدرك أن حالتي مزرية لذا قررت في السنة التوجيهية أن أحفظ كل المقررات حفظًا صمًا لأحصل على معدل جيد يؤهلني للبعثة لأنجو بجلدي من المراغة التي كنت فيها. وفعلاً هذا ما حدث، فقد كان ترتيبي الرابع على دفعة التوجيهي، قسم أدبي لعام 1965 وابتعثت إلى أمريكا حيث أمضيت هناك 17 سنة معظمها في اللعب وقليل منها في الدراسة. ومن رحمة ربي أن الملحقية آنذاك لم تكن تدقق كثيرًا في المدد التي يمضيها المبتعثون هناك.
التجربة الأمريكية قلبت حياتي وطريقتي في التفكير رأسًا على عقب. كنت دائمًا أفضل الجامعات التي لا يوجد فيها طلبة عرب لأنني من البداية وجدتهم يذهبون إلى هناك ويجيئون بخلافاتهم ومشاكلهم وتخلفهم معهم، ولذلك قررت أن أبتعد عنهم ما أمكن. تعلمت من مباشرة الحياة هناك والانغماس فيها أكثر مما تعلمته من صفوف الدراسة. عرفت معنى الحرية الفردية واستقلالية الرأي.
أدركت أن هناك شيئًا اسمه العقل يمكن للإنسان أن يشحذه ليستفيد من قدراته. لكنني أيضًا أدركت أنني كنت أمّيًا لم أتعلم شيئًا يذكر من دراستي الابتدائية والثانوية وكان علي فعلاً أن أبدأ الكثير من المواضيع من أبجدياتها لأحكم قبضتي الذهنية عليها، وهذا استنفد مني الكثير من الوقت والجهد.
شيئًا فشيئًا بدأ إصراري يزداد لأتعلم وأنضج فكريًا وعاطفيًا وأن أفكر وأتحمل مسؤولية تفكيري وأن أنبذ ازدواجية المعايير بين الفكر والسلوك، بين ما أفكر فيه وما أقوله وأكتبه.
وبالرغم من المحاولات الجادة والمدة الطويلة التي قضيتها في أمريكا إلا أنني فشلت في تقمص الشخصية الأمريكية. فهناك ندوب ثقافية غائرة تحت الجلد يصعب بُرؤها. وكلما تعمقت محاولاتي لفهم الثقافة الأمريكية وجدتني لا إراديًا وبطريق غير مباشر أتعمق في فهم نفسي وخلفيتي الثقافية والاجتماعية، لأن المقارنة بين الحالين تأتي تلقائيًا وبدون قصد. إلا أنني لاحقًا صرت أتعمد المقارنة لأتمكن من فهم الثقافتين كل منهما على أرضيتها المختلفة ووفق معطياتها المتميزة. في منتصف المرحلة بدأت تراودني بقوة فكرة أن لا عودة إلى بيوت الطين والغبار والقمل والبعوض والذباب.
كيف لي بالعودة إلى حياة رتيبة وأفكار مسطحة ليس فيها أي تضاريس تسمح بأدنى اختلاف في وجهات النظر والاستقلالية الذاتية!
المقارنات التي اختمرت في ذهني بين الثقافة الأمريكية والثقافة التي ولدت أنا فيها قادتني إلى دراسة الأنثروبولوجيا والثقافات التقليدية لدى مختلف الشعوب، خصوصًا البدائية.
هذا قادني إلى أن أدرك أن لكل ثقافة منطقها ولا يجوز المفاضلة بين الثقافات وكل ما هنالك أن المسألة مسألة نسبية بحتة. قررت أن أعود إلى جذور ثقافتي لأتفحصها بعيدًا عن الانطباعية وعن المقولات الجاهزة أو تلك التي تروجها أوساط معينة يهمها غسل الأدمغة وتوجيه الأفكار والمشاعر وجهة معينة. قررت أن أنحي ذلك كله وأن أتسلح بالمنهجية العلمية لأتوصل إلى نتائج موضوعية.
بدأت بنزع الأقنعة واللفافات والضمادات واحدًا بعد الآخر حتى حسرت لي ثقافتي عن وجهها وتبدت لي بجسدها العاري من كل الرتوش. لم تكن جميلة لكنها لم تكن قبيحة بالشكل الذي كنت أتصوره. بدأت أتآلف معها وصرنا نتهامس ونفشي بأسرارانا لبعضنا البعض. اشتكت لي أن أغلب أبنائها لا يعرفونها على حقيقتها ويلبسونها لبوسات ملتبسة.
في تلك المرحلة كان الخط المحيط لدائرة حياتي قد وصل إلى منتصف المسافة من النقطة التي بدأ منها وتركني معلقًا في الوسط. لكن تأملاتي صارت تدفع به ليكمل الدورة ويعود إلى نقطة البدء، إلى الوطن.
عدت ووجدت الفشل لي بالمرصاد، يتربص بي في كل زاوية. فشلت في لفت الانتباه إلى أهمية الدراسات الشعبية لأن محاولاتي فُسّرت على أنها تشجيع للعامية والإقليمية والعصبية القبلية. فشلت في رئاستي لقسم الدراسات الاجتماعية حينما حاولت إدخال فرع للأنثروبولوجيا وفسر الزملاء ذلك بأنني أهددهم في أرزاقهم وأنني أحاول إلغاء علم الاجتماع، بينما عمادة الكلية آنذاك فسرت المسألة بأنني أحاول تدريس الطلاب بأن الإنسان أصله قرد. ولا شك أن مجيئي في أوج المد الأصولي ساهم كثيرًا في هذه الإخفاقات وفي تعمد اغتيال الذات وتشويه السمعة وتعبئة الأجواء ضدي.
كما أن خلفيتي الفلاحية التي تفتقر إلى الدبلوماسية والممزوجة بشيء مما اقتبسته من قيم الثقافة الأمريكية في التأكيد على الصراحة فهمه البعض على أنه وقاحة واستخفاف بالمقامات.
تركت الجامعة في إعارة طويلة إلى «دار الدائرة للنشر والتوثيق» وكنت مصممًا أن أعوض إحباطاتي السابقة.
أمضيت هناك عشر سنين كنت خلالها رئيس هيئة التحرير والمشرف العلمي والمدير العام لمشروعين من أهم المشاريع التوثيقية على الإطلاق، وأقولها «بالفم المليان»، لا يجاريهما أي مشروعين على مستوى العالم العربي كله من حيث الدقة والإتقان وصرامة المنهج وقيمة المضمون وأناقة الشكل وضخامة الحجم. أولهما مشروع الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية في 12 مجلدًا ضخمًا، وثانيهما الملك عبدالعزيز آل سعود: سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية في 20 مجلدًا ضخمًا تتضمن ملخصات عربية وافية لما يقل عن 50.000 وثيقة من الأرشيفات البريطانية والفرنسية والأمريكية توثق تاريخ المملكة من عام 1900م حتى وفاة الملك عبدالعزيز. هذا العمل الأخير عمل توثيقي لا يعلو قيمته أي عمل آخر إلا أن مصيره المصادَرَة وعدم التداول.
ولا تنتهي الإخفاقات عند هذا الحد. فقد طرقت كل الأبواب وتوجهت إلى مختلف الجهات في المملكة ودول الخليج لإقناعهم من أجل إنشاء أرشيف سمعي ومرئي لتوثيق الثقافة المحلية والفنون التقليدية في الجزيرة العربية واحتضان ما أمتلكه من مادة في هذا المجال، ليكون مركزًا علميًا يوثق ثقافة الجزيرة على حقيقتها وفق منهج علمي رصين بعيدًا عن إملاءات الأصوليين ورجال السياسة وبيروقراطية الدولة وإملاءات الرقيب، ولكن لا حياة لمن تنادي.
وما يحزنني أنني شخصيًا أمتلك ثروة من المراجع النادرة والمخطوطات والتسجيلات المفرغة والمفهرسة التي سوف تتبدد وتضيع بعد مماتي، لأن أحد جوانب فشلي الذريع أنني لم أتمكن من انتشال طلابي وأبنائي من التفكير السائد الذي زرعته في الأذهان مناهج التعليم ووسائل الإعلام وإقناعهم بأن هذه المادة فعلاً تستحق من يعتني بها.
قبل إعارتي لدار الدائرة كنت حاولت أن أنشئ أرشيفًا في قسم الدراسات الاجتماعية للعناية بالتسجيلات التي جمعتها لكن بعد انتهاء مدة إعارتي وعودتي للقسم وجدتهم قد رموا بالأشرطة في أحد المخازن مما عرضها للتلف جراء الغبار والحرارة.
ومما يفاقم من الصعوبات التي تعترض سبيلي في أداء مهمتي التوثيقية وتدفع بها إلى طريق الفشل أن بعض الجهات تعتبر ما أقوم به مما يقع في دائرة المحظور فلا تسمح لي الرقابة بالنشر محليًا مما يضطرني للنشر خارج البلاد، وهذا فيه ما فيه من تكاليف ومن حجب إنتاجي العلمي عن متناول الناس هنا. لكن بالرغم من ذلك فقد استطعت منذ أن انتهت علاقتي بدار الدائرة أن أنشر العديد من المراجع المهمة والضخمة آخرها كتاب الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور، قراءة أنثروبولوجية (819 صفحة) وكتاب أيام العرب الأواخر: أساطير ومرويّات شفهيّة في التاريخ والأدب من شمال الجزيرة العربية (1143 صفحة). وقبل ذلك كنت نشرت كتاب الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص (616 صفحة) وكتاب فهرست الشعر النبطي (668 صفحة)، إضافة إلى بعض الكتب باللغة بالإنجليزية، عدا عن العشرات من المقالات بالعربية والإنجليزية نشرت في دوريات علمية متخصصة.
فشلت في التأمرك لأنه يستحيل مسح آثار الكي على الغارب وعلى أم الرأس ومسح «القْداح» من على الساعدين مما يجعلني أتردد كثيرًا في لبس القمصان بأكمام قصيرة.
وفشلت في التسعود لأن الغربة إذا طالت تحولت إلى اغتراب. كما فشلت أن أعيش الحاضر لأنني مشتت بين التطلع لمستقبل أفضل أعرف أنه في حدود الممكن وبين العودة إلى الماضي والنظر إليه بقدر من التعاطف في محاولة لتلبس حالته من أجل فهمه على حقيقته لا كما يريد لي الآخرون أن أفهمه.
كما فشلت في التعايش مع المثقفين لأن الكثيرين منهم مثقفون بالتبعية وثقافتهم أُحادية الأبعاد، وفشلت في التعايش مع التقليديين لأنهم يريدونني أن أعيش الماضي مثلهم وأن لا أتوقف عند حد فهمه وتمثله. أي أنني فاشل بجميع مقاييس زماني ومكاني لكنني متعايش مع نفسي ومتّسق مع ذاتي، وهذا القدر من النجاح «يكفيني وزياده» ويجعلني أعيش حياة سعيدة.
وأرى أن الإخفاقات التي مُنيت بها ثمن زهيد لقاء الاستقلالية الفكرية التي احتفظت بها لنفسي. والأهم من ذلك أنني لا ألوم نفسي ولا ألوم غيري ولا أشعر بأي مرارة جراء فشلي لأنني مستوعب تمامًا للمرحلة التي نشأتُ فيها والظروف التي أعايشها وأراه أمرًا طبيعيًا لشخص يحمل نفس الأفكار التي أحملها ونفس التوجهات أن يُساء فهمه وأن تعترض العراقيل طريقه. ويغمرني دومًا شعور بالغبطة والامتنان والسعادة البالغة لمجرد تركي وشأني لأعيش وأفكر كما يمليه علي عقلي وضميري.
المصدر: صحيفة "دنيا الوطن" الكترونية .. قسم المقالات.
تعليقات