محمد الرميحي: الكُرة!
زاوية الكتابكتب نوفمبر 28, 2022, 10:02 ص 525 مشاهدات 0
الكورة، كما تسمى شعبياً، كأس العالم، قطر، التنمر، كلها مفردات غزت الفضاء العالمي والعربي خلال الأسبوع المنصرم، وسوف تبقى معنا ثلاثة أسابيع على الأقل، أما ذيولها فسوف تترك لها صدى، ربما حتى اللقاء الكُروي العالمي القادم.
الكورة أقرب توصيف لها أنها أفيون الجماهير، بعض النخب تهتم بها ليس من أجلها، ولكن باعتبارها سلّماً يمكن استخدامه في السياسة أو التجارة أو غيرها من الأغراض خارج المتعة الكورية، أما أغلبية المهتمين والمشجعين فهم من جماعة العموم، أي الجماهير العامة والذين يفرحهم كما يحزنهم الانتصار أو الهزيمة للفريق الذي اختاروا تشجيعه، وكثير منهم ينتمي إلى فريق لا يخص دولته، بل يختار الفريق الذي يرى أنه قد ينتصر، حباً في البقاء مع المتفوق، أما التعصب الكوروي فهو ظاهرة بديلة لأشكال التعصب الأخرى.
ربما الكورة هي شكل متطور (متحضر نسبياً) جاء إلى البشرية من حلبات المصارعة في الحضارة الرومانية القديمة، والتي لم يعد لها ذكر إلا ذلك المبنى نصف المهدم في وسط روما العاصمة الإيطالية. وقتها كانت الجماهير تُحشد من أجل مشاهدة ذلك الصراع المميت الذي يرسل رسالة إلى العامة بأن القيصر هو الأوحد في تقرير الحياة والموت، وقد نقلت هوليوود في عصرنا أشكالاً باهرة من تلك المصارعة، ومن ذلك العصر شبه المتوحش صراخ الجماهير وقتها الذي يشابه صراخ الجماهير اليوم في ملاعب الكورة. الاختلاف هو في طريقة قتل الخصم، كما أن الخشونة ما زالت باقية وإن قُننت! الاختلاف أن الضحية هناك هي من البشر وهنا الضحية أشياء أخرى كثيرة، منها الفخر الوطني!
في مونديال قطر تم كالعادة خلط الأوراق، كرة وسياسة وتجارة وشماتة ومزايدة وتصفية حسابات قديمة وجديدة، وضغوط من أنواع مختلفة وحتى صفقات.
لعلي أضع هنا بعض الملاحظات كما ظهرت في خلط الأوراق:
أولاً: صار الحديث طويلاً ومكروراً عن المبالغ التي صرفتها قطر، وزايد بعضهم في قول غير منطقي إن تلك الأموال لو صرفت على المحتاجين لكان أجدى (أو شيء من هذا القبيل). واضح أن المقاربة عاطفية وغير عقلانية، فقد صرفت قطر على منشآت بنية تحتية سوف تبقى لشعبها، لن يأخذ المشجعون عند مغادرتهم قطر لا المطار ولا الميناء، تلك فكرة بسيطة لكنها مغيبة عند البعض.
ثانياً: سياسيون غربيون في الغالب أرادوا أن يتكسبوا على حساب الدورة، فأثاروا قضية مجتمع الميم وكأنها القضية الكبرى، بعضهم تخفى على الإشارة التي يحملها حتى داخل الملعب، في الغالب تلك الأفعال مقصودة بها صناديق الانتخاب في بلدانهم إن أحسنّا النية، وربما يحملون بغضاً دفيناً لثقافة أخرى لا يرون أنها متكافئة مع ثقافتهم.
نقلت لنا الصور القادمة من الملاعب أشكالاً من التخفي والتحايل، كلها يمكن أن تكون عاصفة في فنجان، فلا يهم كثيرين كيف يتصرف الشخص (رجلاً أو امرأة) بحريته، كان الحظر احتراماً لثقافة محلية توجب احترامها، بخاصة أن موضوع مجتمع الميم مختلف عليه بين الثقافات، وحتى الأوروبية، كما حدث أخيراً في البرمان الإيطالي حيث تم إلغاء أي امتيازات قانونية لهم، لم تترك تلك الاستفزازات لدى كثيرين إلا ابتسامة الشفقة، فقد كان الجمهور القطري متسامحاً وودوداً.
ثالثاً: للمرة الأولى يحتك الجمهور الغربي والعالمي بالثقافة العربية مباشرة، كان الاحتكاك في السابق من النخب المالية أو التجارية أو الفنية، أتيح للجمهور العام أن يطلع على ثقافة محلية اطلاعاً واسعاً، فساح ذلك الجمهور في الأسواق الشعبية واستمتع بترحيب وضيافة سوف تبقيان معه وتنقل أيضاً مباشرة لغيره، وفي ذلك إضافة إلى التواصل الإنساني الذي يصر البعض على تشويهه.
رابعاً: تم خلط فكرة الدعوة إلى الإسلام بمناسبة المونديال، وسمعنا أرقاماً عن (النجاح في أسلمة بعض القادمين لمشاهدة الدورة!) تلك ضحالة في التفكير وأيضاً إهانة للإسلام الحضاري، أحد المناظر لمراهقة يحيط بها بعضهم ويُنطقها الشهادتين، ثم يهلل "أدخلناها الإسلام" وهي ربما في الغالب لم تفهم الموضوع برمّته، ذلك فهم خاطئ للإسلام الذي يجب أن يحاط بالتقدير والاحترام أكثر من تلك المظاهر الشوهاء التي تضر كلياً بالقيم العليا للدعوة الإسلامية. لم تحضر كل تلك الجماهير كي ينتقي منها بعضهم أشخاصاً لأسلمتهم، ذلك تكسّب رخيص، فالجميع أو الأغلب ممن قيل إنهم قد كسبوا لم تكن الأمور عندهم أكثر من كونه موضوعاً فكهاً للمناسبة، كما ظهر مع تلك الفتاة المراهقة.
غاب عن هؤلاء أن التدين قد غادر الفضاء العام الغربي منذ قرون، ولم يعد كما في الشرق مركزياً، لو تركوا الأمور دون ذلك التدخل لاقتنع الجمهور القادم بسماحة الثقافة التي اختلطوا بها.
خامساً: بعض المعلقين العرب امتطوا الخطب العاطفية في توصيف مشاهد المباريات، وكانت فرصة لبعضهم كي يستمتعوا بأصواتهم وشعاراتهم من دون أي اعتبار للمتابع الذي يريد التوصيف لا التصنيف، فترك كثيرون سماع التعليق العربي إلى غيره من اللغات، وكانت تتسم بالهدوء والمعلومات وتترك المشاهد لمتعته.
سادساً: "لا تبخسوا الناس أشياءهم". لقد قامت قطر بعمل رياضي حضاري متميز من حيث الاستعداد ومن حيث الاستقبال ومن حيث الإدارة والتنظيم كأفضل ما يكون، وثبت أن الشعب القطري، كجزء من الشعب الخليجي والعربي، قادر باحترام على أن يتقبل كل تلك الحشود الكبيرة والمتنوعة، وأن تعبر عن ثقافاتها المختلفة من دون خلل في التنظيم أو سير اللقاءات، وهو عمل راهن كثيرون، ليس من منطلق الحرص مع الأسف ولكن من منطلقات أخرى سلبية، على أن خللاً ما لا بد حادث!
من جديد الكورة فيها الكثير مما يحمل خارج بساطة اللعبة ومتعتها!
تعليقات