د. عبدالرحمن الجيران: التاريخ... وسوق العمل؟
زاوية الكتابكتب عبدالرحمن الجيران أكتوبر 27, 2022, 10:35 م 383 مشاهدات 0
من الطبيعي لا نريد التاريخ اليوم، ولا نطلبه لسوق العمل؟... لأن الحياة أصبحت مختلفة تماماً وطبائع النفوس انساقت وراء المصالح أكثر من القيم والمبادئ فتبدّلت الأولويات وانزاحت الثوابت مع تقادم الزمن، ومازال التاريخ يرمينا بمواعـظه ووصاياه، لكننا نبذناها واستبدلنا بها ما هو أدنى، بعدما تركنا ما هو خير «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير».
فماذا يعني تركنا لتخصص التاريخ؟
يعني هذا أول ما يعني أننا تركنا تاريخ الكويت وفضائلها الكثيرة، وتأسيسها وتراجم رجالها وعلمائها، واكتفينا بما يطلبه سوق العمل من اختزال تاريخ الكويت بالأكلات الشعبية والتحف المحنطة. وبالموالد ووداع رمضان والأهازيج كمادة للتلفزيون!
وترك التاريخ جانباً يكون بترك الأدباء والشعراء والأطباء، سواء من كانوا في الكويت والجزيرة العربية أو منْ ألّفوا في طبقات الأدباء والأطباء في الحضارة الإسلامية، والمراحل الأدبية التي سادت في كل عصر من العصور.
وعلى إثر ذلك نترك تاريخ المذاهب الفقهية المعتمدة، وكيف خدم أتباع كل مذهب، مذهب إمامهم وكذلك المذاهب المنحرفة وأصولهم وأشهر أعلامهم.
ومن باب أولى، نترك تاريخ الفتوحات الإسلامية والبطولات في فتح بلاد مصر والشام والعراق واليمن وشمال أفريقيا، والحضارة التي قامت وكيف نظّمت الدولة الإسلامية أمورها الإدارية والمحاسبية والتشريعية.
وأصعب ما في هجران التاريخ نقصان منزلة الخلفاء الراشدين أبوبكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم أجمعين) وأفعالهم التي سارت عليها الأمة الإسلامية من بعدهم... وكيف حفظوا لنا هذا الدين حتى وصل إلينا صافياً نقياً من الشوائب والدخيل، قال ابن سيرين «إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم، كان الصحابة يحدثوننا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكنا نأخذ منهم فلما حدثت الفتنة وركب الناس الصعب والذلول، قلنا سمّوا لنا رجالكم فمَنْ كان من أهل الاستقامة قبلناه، ومَنْ كان من أهل البدعة رددناه.
وعليه، بدأ علماء السلف يبحثون عن أحوال الرواة وتواريخهم، وسيرهم وصدقهم وكذبهم ومواطن بلدانهم وأماكن رحلاتهم ومعرفة شيوخهم وتلاميذهم، كل ذلك تحرياً للحقيقة والصدق في النقل.
إن علم التاريخ لا يمكن أن يُضاهى به أيّ علم آخر لا في كثرة الكتب ولا في أنواعها ولا دقة استقصائها ولا حتى مناهجها؟ فلا يمكن مقارنة تاريخ المسلمين الحضاري والعطاء الذي فيه بغيره من تاريخ الأمم كفارس والروم واليهود والمغول!
ولعلي أذكر على عجالة، بأن إعادة الأمل في جيل الشباب وبث الحماسة في نفوسهم عندما يرتبطون ارتباطاً روحياً وسلوكياً بتاريخ أمجادهم وقادتهم وعلمائهم وأمرائهم وملوكهم الصالحين والقادة الفاتحين.. حينما يرون هذه الصفحات المشرقة ويقفون على هذا التراث الحضاري ويقرأون هذه المؤلفات وعمرها يزيد على الألف عام، وبكل فروع المعرفة كالطب والهندسة والطيران والعمارة والمكاييل والموازين.
هذا كله يجعلهم على أمل ويقين بتجديد حركة التاريخ وإعادة تلك الأمجاد إذا ساروا على خطاهم في مواجهة الصعاب وكما يقال (التاريخ يعيد نفسه) وأمة لا تعرف ماضيها لا تستطيع أن تخطط لمستقبلها.
والحقيقة الكبرى هي أن التاريخ لا يرحم عند إظهار الحقائق، وكشف الأباطيل، لأن التاريخ سجل الوقائع فقد تخدع بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فغير ممكن، ولا نعني بطبيعة الحال بالتاريخ كتاب الأغاني للأصفهاني و«العقد الفريد» للأندلسي وغيرهما من الكتب التي خلطت الحق بالباطل، ولكن عليك بمقدمة ابن خلدون وتاريخ الذهبي والطبري وابن كثير في «البداية والنهاية» وابن خلكان في «وفيات الأعيان».
الخلاصة،
تدريسنا للتاريخ المجرد خطأ ويجعله مادة صفراء خاوية على عروشها، فالتاريخ هو الامتداد للحاضر وهو قراءة للمستقبل إذا ربطناه بالسُنن الإلهية في إدارة الكون والحياة عرفنا حقيقته ومواعظه.
تعليقات