قراءة في رواية " تلك العتمة الباهرة" للطاهر بنجلّون.. بقلم: د. عبدالسميع الأحمد
فن وثقافةالآن سبتمبر 25, 2022, 7:24 م 979 مشاهدات 0
ماذا فعلت بي أيها الطاهر في "تلك العتمة الباهرة*"؟
لم أكن أعرف في نفسي تلك الرقة التي تتماهى مع الضعف، ولا الهشاشة التي تقترب من حد الخور، بل كنت أظن في نفسي القوة والجلد والشكيمة، حتى إنني كنت أتهم نفسي أحيانًا بالغلظة، وأرمي عينيّ بالاحتباس، حتى وقعت في تلك العتمة على حقيقة نفسي، و"تلك العتمة الباهرة" رواية للطاهر بنجلّون، مستلهمة من شهادة "عزيز بنبين" أحد المعتقلين السابقين في سجن تزما مارت"، الذي اتُّهم وآخرين بتنفيذ محاولة انقلاب في المغرب.
أما مُعتقل" تزما مارت" فيقع على أطراف الصّحراء الشّرقية المغربيّة، وهو مدفون في الرمل، وفيه مجموعة من الزنزانات التي يصفها الراوي بقوله:
" كان القبر زنزانة يبلغ طولها ثلاثة أمتار، وعرضها متر ونصف، أما سقفها فوطيء جداً يتراوح ارتفاعه بين مائة وخمسين ومائة وستين سنتيمترات، ولم يكن بإمكاني أن أقف فيها".
في حياتي، ومنذ طفولتي، قرأتُ الكثير من الروايات والقصص والأقاصيص، ولم أكن في الأعم الأغلب - وأنا أهم بالقراءة - مدفوعًا بعاطفة معينة، أو فكرة جاهزة، إنما هي القراءة من أجل القراءة، والمطالعة بهدف المطالعة، لكني في هذه المرة أخذت الرواية، وفكري مسكون بحوادث الأسر، وقصص الاعتقال، وأخبار التغييب والتعذيب التي تعرض لها أصدقاء وإخوة ومقربون؛ لذا كنت متوجسًا وأنا أفتح الصفحة الأولى من الرواية، إنها - بلا ريب - قصة محمود، أو سامر، أو حسين، أو ليلى، أو بسمة، أو، أو... أسماء كثيرة، تختزنها الذاكرة، وتحفظها سجلات المعتقلات في شرق البلاد وغربها، وشمالها وجنوبها، ولمَ الأسماء؟ إنها لا تهم كثيرا، فقد أصبح أصحابها أرقامًا ليس إلا، أرقامًا في سجلات السجون، أو سجلات الموت.
لأبدأ القراءة.. إنها الكلمات الأولى في الصفحة الأولى:
"لطالما فتشت عن الحجر الأسود الذي يطهر روح الموت، وعندما أقول: لطالما، أتخيل بئرًا بلا قعر، نفقا حفرته بأصابعي، بأسناني. يحدوني الأمل العنيد بأن أبصر، ولو لدقيقة، لدقيقة متمادية خالدة، شعاع نور، شرارة من شأنها أن تنطبع في مأق عيني، وتحفظها أحشائي مصونة كسرّ.
فتكون هنا، ساكنة صدري، مرضعة لياليّ البلا ختام، هنا في هذا القبر، في باطن الأرض الرطبة، المفعمة برائحة الإنسان المفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده، وتنتزع منه البصر والصوت والعقل".
قرأتُ الأسطر السابقة، ثم شردت بعيدا بعيدا.. لم يكن الأمر مختلفا، إنه هو هو، المعتقل نفسه، والسجان نفسه، والأرقام نفسها، ربما تغيرت الأسماء، أو الصور، أو الزمان، أو المكان.
هل سأتابع القراءة؟ بل سأتوقف..
كانت صورة "عدنان"، وهو أحد أقربائي المعتقلين، حاضرة أمامي، أراها في تضاعيف الكتاب، وبين السطور، وخلال الصور، لا تكاد تفارقني كلما قلّبت صفحات الرواية، أسمع صوته وأناته وصرخته، أقرأه مرة باسم "حميد"، أو الرقم 12 كما يعرفه السجانون، وأراه أخرى باسم: "إدريس"، أو الرقم 9.. إنه رقم كباقي الأرقام، وجسد كسائر أجساد أفراد الزنزانة:
"في الجناح ب كنا ثلاثة وعشرين نفرا، وكل نفر منا في زنزانة، إلى الثقب المحفور في الأرضية لقضاء الحاجة، كان هناك ثقب آخر، فوق باب الحديد لإدخال الهواء. ما عادت لنا أسماء، ما عاد لنا ماض أو مستقبل، فقد جردنا من كل شيء، ولم يبق لنا سوى الجلد والرأس".
كانت الرواية في غابر الأزمان لا تستغرق مني سوى سويعات، أو أيامًا بحسب حجمها، لكن الأمر في هذه الرواية مختلف، إنها تطرق في كل عبارة من عبارتها كل مواضع الإحساس فيك، وتلامس في كل كلمة من كلماتها كل مخزونك العاطفي، ويهز كل مشهد من مشاهدها كيانك وإنسانيتك هزًا عنيفا حادًا، حتى لكأنك تشتَمُّ رائحة الكلمات والحروف، بل قل: تشتمّ رائحة السجن وعفنه، وتسمع صوت السياط وعذابها، وتتحسس دموع المعتقلين ونشيجهم:
"كان العفن ينال من أجسادنا عضوا تلو آخر.. كنت أتخلى لهم عن أعضائي.. تعلمت أن أتخلى عن جسدي، فالجسد هو ذاك المرئي، كانوا يرونه، ويستطيعون لمسه وبَضعه بنصل محمّى بالنار. بإمكانهم تعذيبه وتجويعه وتعريضه للعقارب، للبرد المجمِّد.. تتألم، يُثقَب لحمُك بحديد صدئ، يسيل الدم، وتسيل الدموع..".
هل أحسستم مثلي بوطء الكلمات؟ هل اخترقت خناجر الحروف شغاف قلوبكم؟ هل سيطرت عليكم الصور؟ هل نقلتكم المشاهد إلى هناك حيث يقبع الراوي وإخوانه؟ ألم تتحسسوا آلامهم وآمالهم؟ ألم تذرف دموعكم وأنتم تمرون بتلك الصفحات المكظوظة بالألم؟ المسكونة بالحرمان؟ المترعة بالقهر؟ الزاخرة بالأنين؟
ألم تخطر ببالكم آلاف الصور لمعتلقين في سجون الظلم؟ ألم تهتز مشاعركم وأنتم تتذكرون آلاف الأبرياء وهم ينتظرون الموت البطيء؟
إننا بشر بقدر ما نحس بالبشر، وإنسانيون بقدر ما نحس بالناس، فإذا افتقدنا هذا الشعور افتقدنا إنسانيتنا.
تعليقات