محمد الرميحي: جلسة هادئة في جنوب إسبانيا!

زاوية الكتاب

351 مشاهدات 0


لمناسبة قرب انتهاء الإجازة الصيفية، قررت رئيسة جميعة المجمع الذي أسكنه أن تدعو بعض السكان إلى مساء قالت إنه وداعي على شرفة شقتها الكبيرة المطلة على جمال خلاب، والشمس تغادر يومها للاستراحة. تجمع عدد من الرجال والنساء للدردشة، بعضهم لم يلتق البعض الآخر إلا من خلال إشارة من الإيماء بالرأس للسلام على حمام السباحة. المجموعة يمكن أن توصف بأنها (تجمع أوروبي بامتياز) من الهولندي إلى البلجيكي إلى الفرنسي إلى البريطاني. النقاش كان يراوح بين المشكلات الصغيرة التي تواجه سكان المجمع، وبين القضايا الكبرى التي نواجه الاتحاد الأوروبي والإنسان الأوروبي.

اللافت كان ما يشعر به هؤلاء من أزمة طاحنة تحيط بأوروبا. من الإشارات التي كانت مفاجئة لي أن بلجيكا التي يعرفها العالم، أكد أحدهم من تلك البلاد أنها قريبة إلى الانقسام، كنت أعتقد أن الانقسام في الأوطان مرض عربي صرف! ولكنه انقسام بين الفلندرز الأكثر غنى والولونيين الناطقين بالفرنسية. قال المتحدث وهو من الفلندرز إن  الفرنسيين كسالى لا يعملون. وكزته بقوة زوجته البلجيكية الفرنسية محتجة، ويرى المتحدث أنه خلال السنوات الثلاث القادمة سوف ينقسم البلد إلى قسمين، كما حدث في يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا!

في العلاقات البريطانية الفرنسية، سرعان ما جاء النقاش على موقف ليز تراس، الشخصية الأبرز لزعامة حزب المحافظين، ومن ثم لرئاسة الوزراء بعد أيام قليلة. فقد سئلت في تجمع صحافي: هل تحبين إيمانويل ماكرون رئيس الجمهورية الفرنسية؟ فأجابت: "لا تعليق"!.

الخلاف البريطاني الأوروبي أخذ أبعاداً أكبر من المتوقع، والرد يدل إلى ذلك ومرشح لأن يتصاعد. خروج بريطانيا من التجمع الأوروبي علامة الطلاق الصعب الذي خلّف مرارة، ودليل إلى خلفية الشقاق (الثقافي والسياسي) بين ما يبدو أنه موحد. وسرعان ما تحدث الاسكتلندي الذي قال: "نحن في اسكتلندا ظلمنا كثيراُ، وأعتقد أن في أي استفتاء قادم ستصوت غالبية الاسكتلنديين للانفصال، لأن الإدارة المركزية البريطانية فشلت فشلاً كاملاً في الاقتصاد الذي يرسل أبناء المناطق خارج الإنكليز إلى الفقر".

الحديث عن الانفصال يتجدد بين الأقاليم الغنية والفقيرة في أوروبا، فإسبانيا لديها المرض نفسه وإيطاليا على خطاها، وكذلك شمال إيرلندا التي فاز في انتخاباتها الأخيرة المطالبون بالانفصال عن بريطانيا!

ولأن المجموعة على دراية نسبية بما يحدث حولها وأسبابه، فقد كان الميل في النقاش نحو ما إذا كانت ليز تراس أفضل من منافسها ذي الخلفية الهندية ريتشي سوناك وزير الخزانة المستقيل، كي يكون هو رئيس وزراء بريطانيا القادم. قال أحدهم: "قلبي مع سوناك، فهو يقدم الخطة الأفضل لإنقاذ الاقتصاد البريطاني في رأيي، ولكن عاطفتي مع ليز"، أضاف ضاحكاً لتخفيف وقع القادم على السمع (فقط لأنها بيضاء)، لا أعتقد أن بريطانيا مستعدة لأن تضع في البيت الرقم 10 (بيت رئيس الوزراء) رجلاً من الهند!! الأوضاع الاقتصادية المتردية تدفع عدداً أكبر من الدول الأوروبية إلى اليمين المعادي للهجرة، وبخاصة الهجرة من خارج القارة.

كان عليّ أن أتدخل هنا لأقول إنني وضعت تغريدة   منتصف الشهر الماضي، بأن وصول شخص من أصول هندية مستبعد بسبب ذلك الانحياز لدى الجمهور البريطاني العام، وبخاصة خارج المدن الكبيرة. لقد سمحوا بأن يكون محافظ عاصمتهم من أصل باكستاني، ولكن ليس رئيس الوزراء، يحتاج ذلك إلى فترة ليغلب اللون الداكن على اللون الأبيض في المجتمع البريطاني، وهو أمر ليس ببعيد! بدا ذلك التعليق خارجاً عما توقع بعض الجلساء ولكن لم يكن هناك تعليق.

ثم ظهر على سطح النقاش موضوع هو الأكثر أهمية للمجموعة الحاضرة، وهو  فقر الطاقة المتفاقم، إن صح التعبير أو energy poverty الاصطلاح الجديد، والذي تتصاعد تكاليفه إلى درجة مخيفة في كل الدول الأوروبية، وهو إضافة لأشكال عرفها البشر من الفقر. ولكنه يعني الحياة أو الموت بالنسبة الى طائفة كبيرة من الناس مع توقع شتاء أكثر برودة، لذلك فإن أعداداً كبيرة بدأت تفترش الشوارع في عدد من العواصم الأوروبية بسبب العوز، وتعاظم الاعتماد على "بنوك الأكل" الخيرية، كما قرر آخرون أن لا يدفعوا أي مبالغ للمحروقات حتى لو ذهبوا إلى السجن، وبدأت سلسلة إضرابات في عدد من النشاطات الاقتصادية، وتصاعدت أرقام البطالة من جهة، وتدنت العملة المحلية (اليورو والباوند) من جهة أخرى، فالقادم شتاء قاس ومظلم تكون فيه المعاناة الإنسانية أكبر بكثير من سنة كوفيد المشؤومة!

إلى ماذا يقود كل ذلك النقاش؟ ربما يؤشر بقوة إلى أن الأنظمة الاتحادية عامةً ربما عوقت النهوض الاقتصادي أو فشلت في اجتراح حلول للمشكلات المتراكمة، أو ربما بسبب أن من تصدى للمسؤولية اتبع الطريق الشعبوي لدغدغة مشاعر العوام لاثارة غرائز  القطيع (كما يحدث في بلاد عربية كثيرة) بدلاً من أن يقدم الحلول والتي قد تكون صعبة ولكن نتائجها النهائية مريحة، لقد كان إيمانويل ماكرون صريحاً الأسبوع قبل الماضي عندما قال ما معناه "انتهاء مرحلة الوفرة".

ويمكن للمتبصر أن يرى أن الممارسات السياسية في الغرب توهن الدولة، وتدفع الناس إلى اللجوء إلى ما قبل الدولة الاتحادية. زادت من ذلك الحرب الدائرة في أوكرانيا والقرارات التي اتخذها الأوروبيون بمناصرة  الأوكرانيين (بأي ثمن). حقيقة الأمر أن أوروبا اليوم في وسط حرب غير معلنة، لها ما لكل حرب من نتائج سلبية، وإن لم يطلق الرصاص بعد، فالوضع ينذر بأيام قادمة أشد قتامة.

تعليقات

اكتب تعليقك