د.محمد الرميحي: اقتراح بإعادة النظر!
زاوية الكتابكتب د. محمد الرميحي أغسطس 27, 2022, 10:25 م 318 مشاهدات 0
يبدو أن هناك مسلمات لدى كثير من السياسيين في الشرق الأوسط ورّثوها للعامة، أن السياسة أمر ثابت لا يتغير وأنها مبادئ لا مصالح، ذلك أمر يحتاج إلى إعادة النظر فيه. مع اقتراب الاتفاق الإيراني - الأميركي الوشيك حول «النووي» وبصرف النظر إن كنت مؤيداً لوجهة النظر الإيرانية (على علاتها) أو الأميركية (أيضاً على علاتها)، فإن مطالب إيران المعلنة «غير واقعية وشعوبية»، فلا يمكن أن يصدق عاقل أن الولايات المتحدة سوف تقدم تعهدات «ألا تخرج أي إدارة في المستقبل عن الاتفاق إن حصل» ذاك أمر، وإن صدقه البعض فهو متعارض مع الواقع؛ لأنه بمثابة الطلب من الولايات المتحدة أن «تتنازل عن سيادتها» في الكثير من محطات الاشتباك «الشرق أوسطية» مع أميركا، وعدم فهم عميق لأليات العمل السياسي الأميركي، ووضع اللوم على الخارج، كما يفعل الإيرانيون هروباً من الاستحقاق الداخلي الملح.
إدارة دونالد ترمب نسفت عدداً من الاتفاقات التي عقدتها إدارة باراك أوباما، وإدارة جو بايدن نسفت عدداً من الاتفاقات التي عقدتها إدارة ترمب، تم ذلك في ملفات عديدة مثل ملف الجولان والقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل، وقضايا أخرى دولية على رأسها أحداث أفغانستان. المعنى واضح هنا، فإن القاعدة الأساسية «أن أي إدارة في دولة قد تنسف الاتفاقات السابقة التي وقّعتها سابقتها، إن وجدت أن ذلك يحقق مصالحها السياسية». سياسة أنجيلا ميركل في ألمانيا باستقبال اللاجئين نُسفت بعد وصول أولاف شولتز، ليس هناك ثابت في العمل السياسي، بل الأصل هو المتغير.
العبرة، أن تغادر بعض القوى السياسية «تكاذبها» على الجمهور العام وتعيد النظر في أطروحات بدت وكأنها مسلمات لا تتغير، وتضع اللوم على الخارج، بدلاً من العمل على بناء دولة حديثة مدنية عادلة. الأمثلة العربية متعددة، فإن أخذنا لبنان فالسائد لدى الجمع السياسي اللبناني، أن مشاكل لبنان «خارجية»، ويبنى على ذلك كل التحليلات الأخرى، سواء كان القائل يشير إلى «الخارج» الغربي أو الشرقي، الحقيقة أن مشكلات لبنان جُلها داخلية، ودون الاعتراف بتلك الحقيقة سوف يبقى تعليق المحنة اللبنانية على مشجب الخارج. لن تُحل مشكلة لبنان باتفاق «إيراني - أميركي» كما يتصور البعض، ولن تُحل حتى (في منظور مبالَغ فيه) لو أصبح محمود عباس المسؤول الأول في تل أبيت! سوف يبقى لبنان في القاع؛ لأن فئة من اللبنانيين قررت أنها يجب أن تستحوذ على لبنان، وتخلق الحجج لذلك مع «ازدراء» للشركاء في الوطن، وقد التحقت بعض القوى اللبنانية بذاك المركب، من أجل تحقيق مصالحها الضيقة فقط. أمر لبنان في قواه السياسية التي تفقد مشروع الدولة «المدنية الحديثة والعادلة» ليبقى مشروع «الطائفة» أو تحالف بين بعضها لتقاسم «الجبنة اللبنانية» الشحيحة.
لن تحل أيضاً المعضلة السورية لو توقف «الآخرون» عن التدخل في شؤونها، من جديد معضلة سوريا داخلية وقديمة، تتمثل في اختطاف فئة صغيرة الحكم والثروة، وتنصيب نظام قمعي ضاق به السوريون حتى المنافي والسجون المظلمة وفشل بناء دولة.
الأمر في العراق داخلي، كانت الشعارات التي تغذى عليها البعض «مظلومية الشيعة» و«ظلم السنّة»، وسار فيها ذلك البعض حتى الوصول إلى الحكم والتحكم في الثروة. الأمور تتضح، أن «الشيعة» همّشوا «الشيعة» أثبت أن «الموضوع» سياسي وليس «مذهبياً» ولم يتردد بعضهم بالاستعانة «بالشيطان» وتفتيت العراق في سبيل مصالح ضيقة لشريحة أضيق من «القيادات»، وحتى لو حلت جميع المشكلات الخارجية فإن (المعضلة» العراقية سوف تبقى، بسبب عدم قدرة على بناء دولة حديثة وعادلة!
اليمن ليس بعيداً عن ذلك التحليل من جديد، معضلة اليمن داخلية وقديمة، وقد مرّت اليمن «بفترة من المراهقة السياسية» تمثلت في موقف اليمن من احتلال العراق للكويت! في تلك المرحلة والمرحلة الحالية تعود المراهقة السياسية من جديد بشكل «طفولي» لتفرّد فئة صغيرة بالوطن اليمني بالقوة، ووضع المشكلات غير المحلولة محلياً على قضايا خارجية، من جديد فشل في بناء الدولة. الصورة متطابقة في السودان الذي ينزلق إلى الفقر والتمزق، وتفشل نخبه في الوصول إلى مرحلة إنقاذ للدولة والمجتمع بسبب التكالب على المصالح الذاتية، طبعاً مغطاة بشعارات زاعقة لا حصر لها حتى فقد السودانيون «الأمل» نفسه.لا أعتقد أن القضية الليبية بعيدة عن مجمل التحليل، فالحديث عن تدخل خارجي (على الأقل مبالَغ فيه)؛ لأن المرض الليبي في مجمله داخلي. وهذا بالضبط ما يجري على الساحة الفلسطينية، معظم الأصابع التي تشير إلى أسباب معاناة الفلسطينيين تضعها على «الخارج»، في حين أن المعضلة في «الشتات» المصلحي بين القوى السياسية الفلسطينية، ودكاكينها المشرعة للتدخل الخارجي، من دون صوت موحد لقضية المفروض أن تكون واحدة.
مجمل الحديث والقاعدة التي يمكن الخروج منها بهذا الاستعراض السريع، هو فشل النخب في بناء الأوطان، فقد قدم لنا التاريخ السياسي للمنطقة في العصر الحديث أمثلة مشهودة على «فشل النخب في بناء الدولة المدنية الحديثة والعادلة»، للخروج من المأزق. الوصفة ليست سرية، هي وصفة تقوم الأطراف بالاعتراف بالتعددية من دون تغول، وبالتالي المشاركة على قواعد قانونية في «عقد اجتماعي» واضح المعالم ومحترم من الجميع، يهدف ذلك العقد لبناء وطن حر مستقل فيه المواطنون متساوون على قواعد قانونية تحقق رفاه الجمهور العام وحفظ مصالحه.
وقتها سوف يذبل «العامل الخارجي» المتحجج به اليوم، كما يذبل «العامل» الطائفي المتاجر به اليوم. فلا لوم لأحد على الخارج، إن كان هذا الخارج قد وجد فرصاً له للاستفادة من الشقاق الداخلي؛ وذلك بسبب الفشل الذريع للنخب في فهم العصر ومتطلبات الشعوب، والتي هي حتى الساعة مقهورة من الأقربين وليس الأبعدين. من هنا يأتي الاقتراح بإعادة النظر في العديد من المسلمات، التي تبدو وكأنها حقائق، وهي لا تعدو كونها مجرد سراب.
آخر الكلام:
نجحت النخب السياسية في الكثير من بلدان الشرق الأوسط إلى إحالة الدولة إلى... التقاعد!
تعليقات