في رثاء عضيدي فالح

محليات وبرلمان

بقلم دكتور سعد بن طفلة

الآن 2512 مشاهدات 1


يقال ساعده الأيمن، ويقال "ذراعه اليمين"، ويده اليمنى، وذلك كناية عن عن المؤازر والمساعد والمعاون، لكن ليس بينها ما يعني الأخ، وحدها كلمة العضيد تعني الأخ، فالعضد تعلو الساعد والكف وتتدلى منها باقي اليد.

في نهاية الستينات، بساحة مدرسة المعتصم الابتدائية للبنين، اشتبكت وفهيد وراشد-أخوة الطفولة- مع أولاد بالمدرسة "هوشة بزران"، صاح قادم ينهرهم ويصيح بهم: "هذا أخو فالح، هذا أخو فالح"، وأمسك برأسي وقبّله مترجّيا: "تكفى سامحهم، ما كانوا يدرون". 

كان فالح حينها في مدرسة أخرى -مدرسة الجهراء المتوسطة للبنين- لكن "طاريه يكفيك فزعه". كان فالح وحسب، لا فالح العجمي ولا فالح بن طفلة، وكانت تكفي لتلزم حدودك ولا تتعداها عليه ولا على إخوانه. كان أبي رحمه الله يقول عنه: "فالح، فالحٍ على اسمه" (يكسر الحاء وينوّنها).


عرفت حينها ما تعني كلمة العضيد، كان يرددها والدي-رحمه الله- الذي أنشد يوما ناصحا ناصر أخي الأكبر بألا يضرب أخيه الأصغر -فالح- حين كانوا أطفالا صغارا:
ناصر المنعور لا تضرب عضيدك

خل أخوك يشالحك بعض الهمومِي


كان من المتفوقين دراسيا، لكنه كان ممن يعاقبون بسبب المشاجرات الطلابية، لم يكن يخطيء أو يعتدي على أحد، لكنه لم يكن يتقبل أقل التعدي أو الخطأ عليه أو على إخوانه. 

أذكر يوما تكريمه في طابور الصباح من قبل الناظر -أبو باسم- لتفوقه الدراسي، لكن الناظر نفسه عاقبه ضربا على يديه بالعصا في نفس اليوم بنهاية اليوم الدراسي! كنت أرقب المشهد عن بعد، لا يرتجف ولا يتأوه ولا يتألم، صبور جلدٌ كالجلمود.


كان والدي -رحمه الله- يعرف الروتين إن تأخر فالح عن المجيء من المدرسة "بعد الهدّه": يُخرج البشت ويتجهز للذهاب للمخفر. لن أنسى يوما أن أتى به "جيب المخفر" الأسود المكشوف بلا غطاء وهو في المقعد الخلفي مربوط الرأس، ومضمد الوجه بعد مشاجرة مدرسية.

 ردد والدي غفر الله له وهو يركب الجيب معه للمخفر:
وجهه من العيلات غاديٍ وسومي.


يعطيني والدي خمسين فلسا مصروفا، لا أستطيع شراء شيء بها إلا من السوق، فقد كانت "نبصه" في الستينات بلا دكاكين قبل بقالة القمر أو بقالة اليمن السعيد، والطريق للسوق طويلة، و"عيال السوق قشران"، فيصحبني إما على "قاريّه" (دراجته الهوائية)، أو مشيا على الأقدام، وكانت عمولته عشرين فلسا نظير الحماية التي يوفرها. من يجرؤ على التحرش بك وفالح عضيدك؟

كنا نتمازح ذكريات الطفولة حين الزيارة الأولى له بلندن بعدما داهمه المرض العضال، بعضها لا نسردها بل نرمز لها بكلمات تختزل الذكرى وتعبر عن الذكريات، وكأنما نتهاتفها روحيا، فقد كان أخي وعضيدي.


كان منضبطا كما يكون الانضباط، مختلفا عن أترابه في انضباطه، في سني مراهقته لا يسهر ولا يبقى خارج المنزل متأخرا، كان ينام في العاشرة ليلا ويصحو في الخامسة فجرا، لم يدخن ولم يشرب الخمر في حياته، مارس حياته بانضباطِ عسكريٍّ مخلص طيلة أربعين سنة بعمله كمهندس للبترول، يصحو فجرا ويذهب من الجهراء للأحمدي جنوبا أو الرتقة شمالا يوميا ليعود آخر النهار، يتعشى وينام مبكرا. 

كان يعرف الآبار النفطية الكويتية بئرا بئرا كما يعرف أبناءه. 

شكّكت بعد التحرير أنها قد تكون أغلى من أبناءه، فقد كان في الكويت طيلة أيام الاحتلال عام 1990، وظن الواحد أنه سيسارع لوالديه وزوجته وأبناءه في الرياض بعدما زاحت غمة العدوان، وزال كابوس الاحتلال، لكنه لم يفعل، بل راح يتفقد الآبار التي لم يحرقها جيش صدام الهارب، ويحاول أن يساهم بتشغيل ما يمكن أن يوفر للناس الطاقة الشحيحة بعيد التحرير عام 1991.

نجا بأعجوبة من صاروخ أطلقته قوات التحالف على البيت الذي كان فيه بالنسيم. لم ينفجر الصاروخ وبقي مرتكزا بالأرض أياما بعد التحرير.

عضيدك من يشعر بك وإن لم تكن معه، مررت بضائقة مالية أواخر مراحل دراسة الدكتوراة ببريطانيا بنهاية الثمانينات، لم أشكُ له ولا لغيره، لكنه أدرك الحالة. فذهب للصديق المشترك ومدير بنك الخليج آنذاك- عبدالله خزام القصير-، طلب منه رقم حسابي المصرفي بحجة أن في ذمته لي مبلغا يريد تسديده، أدخل في حسابي مبلغا يعادل دخلي السنوي، فرّج كربتي حينها. 

لا غرابة، فقد كان عضيدي.

كان فالح متدينا دون تشدد، ملتزما دون تطرف، كريما دون تبذير، شجاعا دون تهور، ودودا دون تذلل، عطوفا دون ضعف، لا يحب سيرة الناس، ويكره النميمة والحسد، ولا يتردد بمساعدة أي محتاج. 

رحل عضيدي فالح اليوم تاركا وراءه سيرة طيبة حسنة، وزوجة صالحة نادرة، ترك وراءه ساره الصيدلانية ومنال طبيبة الأسنان والمدرس حسن، والمهندس المدني محمد وعبدالله المحامي وناصر المهندس الكهربائي.


رحل عضيدي فالح، وبقي لي من الأخوة ستة هم سواعدي وأذرعي ويميني.


صارع السرطان عاما كاملا، لكنه في النهاية صرعه. 

حزنت قبل أيام حتى حزن الحزن من حزني، ولو كانت الخنساء حية لبكت لبكائي متناسية أخواها صخرا ومعاوية، حزنت حين زرته يصارع المرض، تمنيت لو أن المرض رجلا لصرعه "ابوحسن"، لكنه الموت و "كل نفس ذائقة الموت".


فرحت لفرحته الأخيرة برؤية أول حفيد له قبل أسبوع أتوا به للندن ليراه لأول مرة قبل الرحيل الأبدي واسمه فالح، ارتسمت ابتسامة الجد لأول حفيد متجاوزة آلام المرض الخبيث الذي حرمه الابتسامة شهورا طويلة عجافا، سنقص لفالح الحفيد يوما كم أسعدت رؤياه جده وسميّه- عضيدي فالح.


الموت راحة الموتى، هكذا يقولون، ولكنه شقاء للأحياء الذين تركوهم وراءهم، فيا لشقائي بعد رحيلك يا عضيدي.

*نقلا عن حساب دكتور سعد بن طفلة في الفيسبوك .

تعليقات

  1. العوض برأسك يا بو محمد ،وروس أخوانك عضودك ، وهذه سنه الحياه ، عسي الله أن يتقبله قبولاً حسناً ويذكرني حزنك بحزن شالح بن هدلان علي أخوه الفديع.. نسأل الله أن يلهمك الصبر والسلوان ويربط علي قلبك🙏

اكتب تعليقك