محمد الرميحي: بعض النخب العربية تحتاج لإعادة ضبط بوصلتها السياسية

زاوية الكتاب

360 مشاهدات 0


تمهلوا قليلاً وانظروا حولكم نظرةً أكثر دقةً وحكمة، والحديث إلى بعض النخب العربية، فتستطيع أن تتسامح فقط مع البسطاء عندما يذهبون إلى فهم حدث أو تحليل بشكله الظاهري وبحسب الهوى.
 على سبيل المثال، احتفال بعضهم بسقوط رئيس الوزراء البريطاني بورس جونسون أخيراً من السلطة على أنه انتصار لفلاديمير بوتين! بل ويغوصون في المؤامرة بأن "القيصر أطاح جونسون"!! وهؤلاء يغيب عنهم العلم بأن الحوادث والتفاعلات الداخلية في بلدان الديموقراطية الغربية ليست لها علاقة مباشرة بالمواقف الخارجية، ذكرني هذا (الاحتفاء) بخروج السيدة مارغريت تاتشر من الحكم عام 1990 إبان احتلال النظام العراقي الكويت واحتدام الحملة ضد الرئيس العراقي وقتها صدام حسين، فاحتفل إعلامه بذلك السقوط على أنه انتصار (للقائد الملهم)! ذلك ما يذهب إليه البسطاء والمشحونون بشيء من الحماقة الأيديولوجية، وهو شيء محير في فضائنا الثقافي، ليس لدى العامة ولكن النخب كذلك! سقط النظام العراقي وبقيت الديموقراطية البريطانية! وهكذا تتغير الإدارات القائمة على التبادل السلمي للسلطة، ولكن ذلك لا يعني دوام الإدارة القائمة على الشمولية!
 
الأكثر سوءاً للفهم أن تذهب نخبه عربية إلى قراءة خاطئة لحوادث معاصرة. في مثال آخر، الحديث هنا عن مجموعة من النخبة المصرية، ومن بينها عقول وازنة، التي أصدرت بياناً (سابقاً لكل الاحتمالات) قبل وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة الأسبوع الماضي، وكانت الحجة المعتمد عليها ذلك البيان أن لا تقوم مصر بالتحالف العسكري مع إسرائيل، إلا بعد أن تقوم الأخيرة بتنفيذ كل الاتفاقات التي نصت عليها اتفاقية أوسلو. الفكرة كلها قائمة على افتراض خاطئ وشائعة إعلامية، فليس هناك عاقل في أي إدارة في منطقتنا يمكن أن يؤيد تلك الفكرة (التحالف العسكري)، ولو فكرت تلك النخبة كاتبة الوثيقة قليلاً لما تورطت في مثل ذلك الطريق، إذا استبعدنا التكسب الشعوبي الذي ذهب إليه كثيرون في مقالات أو على وسائط الإعلام الاجتماعي لإظهار (بطولة) ليس لها مكان في الحديث عن احتمالات نتائج زيارة السيد بايدن، والتخرص في مآلاتها في نشوة انتصار كاذبه. ما هكذا تُعالج الأمور!
 
بالعودة إلى بيان النخبة، ليس لدى أي عاقل أي اعتراض على أن تقوم تلك النخبة بمثل ذلك القول حتى لو كان طلباً لشعبوية ما، وقائماً على افتراض غير صحيح. القضية هنا لها شقان، الأول أن كل ما قيل عن تحالف عسكري بين دول عربية وإسرائيل ليس أكثر من تقارير صحافية غير مسنودة بالواقع، ذلك أمر، واأمر الثاني أن الاحتجاج هو على أن هناك احتلالاً إسرائيلياً لأرض عربية فلسطينية. وذلك صحيح، ولكنه ليس الاحتلال الوحيد!
 
ما لم يناقش أن الاحتلال الآخر لم يُذكر، وربما لم يخطر ببال كتّاب تلك الوثيقة من أهل النخبة، وهو الاحتلال الشرس للنظام الإيراني للبنان الذي أفقر الشعب اللبناني العربي وقمعه وشتّته، وحرمه من الغذاء والكهرباء وطبعاً الحرية! أو ذلك الاحتلال، مرة أخرى، الإيراني لسوريا العربية وتشتيت أكثر من مليوني نازح سوري في أنحاء العالم، مع قمع وفقر وحرمان وسجون. ولم يتحدث البيان عن الاحتلال الإيراني مرة ثالثة للعراق والذي قسم العراقيين وأفقرهم واستنزف ثروتهم وشتتهم أيضاً في بقاع العالم، كما أن البيان لم يلتفت إلى احتلال رابع للنظام الإيراني في اليمن والذي حصد الشعب اليمني العربي جراءه الفقر والتشتيت والمرض والجوع والعزلة والقتل!
 
لو تكرّم علينا من كتبوا ذلك البيان بالإشارة إلى تساوي الاحتلالين لعرفنا أن التفكير لديهم سوي وخارج أجندات سياسية موقته. فلماذا الحديث عن نوع من الاحتلال والسكوت الملتبس عن احتلال آخر مشابه، بل ربما أكثر مكراً وأقسى تأثيراً في نتائجه؟ الاحتلال الإسرائيلي مرفوض من الجميع، أما الاحتلال الإيراني فإنه مقبول من البعض! السكوت عن ذلك يجعل المراقب يفكر في سوية تفكير تلك النخب كاتبة البيان. السؤال: ترى لماذا ذلك السكوت أو على الأقل الإهمال؟
السبب في الغالب الأدلجة واتباع العامة من دون التفكير للحظة في أن كل احتلال هو شر، وكل تشتيت للشعوب وإفقارها هو شر على شر.
 
لا تعرف تلك النخبة أنه على مدى أكثر من أربعين عاماً ظل الشعب الإيراني رهينة نظام شمولي قمعي، دمّر الموارد الطبيعية والإنسانية للشعوب الإيرانية، ورد على أي احتجاج سلمي بالعنف، ويحمل ذلك النظام الرقم العالمي الأول للإعدامات، وبخاصة للشباب والنساء، وتضج التقارير العالمية لحقوق الإنسان بشواهد غير مسبوقة في أكثر الأنظمة قمعاً على ذلك التسلط. هذا النظام الذي وصفته باختصار يريد أن يفرض هيمنته على الشعب العربي في مناطق كثيرة، منها العراق ولبنان واليمن وسوريا وغيرها من الأرض العربية، وما يقوم به هو أكثر سوءاً من الاحتلال وأكثر صلافة.
 
من هنا، فإن بعض النخب العربية تحتاج إلى إعادة ضبط بوصلتها السياسية التي كثيراً ما قرأت الحوادث على غير حقيقتها، وانساقت وراء الشعارات الزائفة وتجاهل المخاطر الحقيقية التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة على وجه واضح وجلي. لذلك فإن المطلوب من العقلاء ومن يخوض في الشأن العام أن يتمهل!! منة الآفات التي يجب أن نتخلص منها في ثقافتنا العامة الاستعجال والشعبوية اللذين أوديا بنا إلى مستنقع الجهل والتخلف.

تعليقات

اكتب تعليقك